ضمانات حسن التقاضي
في عهد الإمام على بن أبي طالب (عليه السلام)
لمالك الأشتر
الدكتور/ عبد الوهاب عبد القدوس الوشلي
الأستاذ المشارك في القانون الإداري ومدير مركز الدراسات القانونية ومساعد رئيس جامعة صنعاء للشؤون القانونية
ملخص:
ما تضمنه عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي (رضي الله عنه) عندما ولاه مصر قبل ألف وأربعمائة عام، من تعاليم وأسس ومبادئ في مجال القضاء، حيث يُعد سبقاً إنسانياً هو الأضخم في مجال القضاء وما يزال حتى اليوم، حيث أسس العهد في القضاء ضمانات مهمة تهدف إلى تنظيم حسن سير العدالة وإجراءات التقاضي، فقد وضع شروطاً وصفات خاصة يجب أن تتوفر في من يعين قاضياً، كضمانات سابقة، وضمانات مصاحبة تتمثل بحقوق القاضي كالمرتب الكافي وحصانته وإعلاء مكانته، كما وضع ضمانات تتعلق بالمختصمين أمام القضاء، كالمساواة وحق الدفاع وحق المواجهة وحق الطعن بالحكم فضلاً عن ذلك حرص الإمام علي (عليه السلام) على إيجاد قواعد خاصة لضمان نزاهة القضاة وحيدتهم وحماية استقلالهم تجاه الخصوم، وكذا ضمانات لاحقة بالرقابة على أعمال القضاة، وضرورة ثبات الحكم القضائي بموافقته للشرع والقانون، والغرض من هذه الضمانات، هو حماية القاضي من نفسه وحمايته من الآخرين، وحماية المتقاضين من القضاة، من التعسف في استعمال السلطة القضائية أو إلى نوع من التعدي على حقوق المتقاضين.
ويُعد ما جاء في العهد بخصوص القضاء من الوثائق الأصيلة، التي أرست الأسس التي يستند إليها النظام القضائي العالمي عموماً والإسلامي على وجه الخصوص، ويتضح أن رسالة الإمام علي (عليه السلام) تُعد من أكثر الرسائل أصالة وسعة في بناء هذا النظام الإنساني، ولم نجدها في غيره من الوثائق حتى اليوم، وما تزال هذه الوثيقة هي النبع الصافي والآلية القرآنية النقية لعموم البشرية، وأصبحت أفضلية هذه الرسالة من المسلمات التي لا يستطيع أحد إنكار حقيقتها، ولا يبدو ذلك الأمر غريباً، لأن النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) أكد على أن: (أقضى أمتي علي).
وقد نال هذا العهد الاهتمام الكبير من قبل العديد من المنظمات الدولية التي شهدت بأنه من أعظم الوثائق التي عرفتها الإنسانية، وأن البشرية قد استفادت أيما استفادة من عهد الإمام علي إلى مالك الأشتر ونجد مضامينه جاءت في المواثيق والإعلانات الدولية التي توصلت إليها البشرية قبل ستين عاماً، وتفاخر بها اليوم.
ونؤكد اليوم أن الحل لجوانب القصور والاختلال في النظام القضائي اليمني وعدد من الدول، ما إن لو طبقت ما تضمنه عهد الإمام علي لمالك الأشتر من أسس ومبادئ قضائية عظيمة، لتلاشى هذا الاختلال وتصحح المسار في مجال العدالة برمته، كما سنرى في ثنايا البحث.
المحتويات:
المقدمة:
الفرع الأول: ضمانات تتعلق بشروط تعيين القضاة.
– اختيار الأكفاء للقضاء.
1- شرط الكفاءة العلمية
2- شرط العدالة
3- شرط العقل والبلوغ
4- شرط سلامة الحواس
5- شرط مكارم الأخلاق
6- شروط تعيين القضاة في القانون اليمني والعراقي.
الفرع الثاني: ضمانات تهتم بحقوق القضاة «إعلاء مكانة القضاء»
1) الكفاية المالية للقاضي(الصك المفتوح)
2) الحصانة القضائية للقاضي (إعلاء مكانة القاضي)
3) الاستقلال لمؤسسة القضاء.
4) درجات التقاضي وحق الإستئناف.
5) وحدة الأحكام القضائية.
الفرع الثالث: ضمانات تختص بالمتقاضين (الإجراءات)
1- حق المساواة بين الخصوم.
2- حق الدفاع والمحاماة
3- حق مبدأ المواجهة
4- من آداب القضاء.
5- تنفيذ الأحكام القضائية
- الخـاتــمـة.
المقدمة
الإمام علي (عليه السلام) لا يحتاج إلى تعريف، فهو صفحة مضيئة من الإشراق الإنساني، تضيف شرفاً إلى تاريخ الإنسانية، وثروة علمية لاتحد بحدود، إذ اتسم فكره بالاستقامة والواقعية التي كونت له رصيداً من التألق والثراء المعرفي، لم نجده في غيره.
فالإمام علي (عليه السلام) أقضى أهل زمانه، لأنه أعلمهم بالفقه والشريعة وهما الوجدان، الذي أعطاه القدرة في استخدام علمه في القضاء أصدق توجيه، وفي المأثور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله للإمام علي (عليه السلام): «لا بارك الله في معضلة لم تحكم فيها يا أبا الحسن» وقوله: «لولا علي لهلك عمر» وقوله أيضاً: «لا يُفتين أحد في المسجد وعلي حاضر»[1]، ولا ريب أن التأمل القانوني في قضاء الإمام علي (عليه السلام) يعد بحثاً عن القضاء الإسلامي بأعلى مستوياته وستقتصر ورقتنا على ما تضمنه عهد الإمام علي (عليه السلام) للصحابي الجليل مالك بن الأشتر النخعي (رضوان الله تعالى عليه) في مجال القضاء حين ولاه على مصر والذي يكفيه فخراً أن الإمام قال فيه: «رحم الله مالكاً فلقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)».
لم يعرف العرب قبل الإسلام سلطة تشريعية تسن لهم القوانين وسلطة تحكم بينهم، فكان شيخ القبيلة بمثابة قاضيها يحكم بين أفرادها وفق العرف والتقاليد المستمدة من التجارب والمعتقدات للعرب، وللشعوب المجاورة كالفرس والروم ومن عايشهم من اليهود والنصارى، فكأن العرف والتقاليد قانون غير مدون، ومع ذلك كان القضاء مضطرباً؛ لأنه غير صادر عن قانون محدود بعدة قوانين؛ ولأنه لا يستند إلى سلطة عليا تتولى الإشراف عليه والعمل على تنفيذ أحكامه[2]، إلى أن جاء الإسلام ليرسي ويؤسس للعدالة بين البشر نظاماً قضائياً متميزاً وسباقاً وعادلاً لم تعرف البشرية له مثيل من قبل، وكفالة حسن سير التقاضي ومنها ضمان الاستقلال.
أهمية البحث: نالت السلطة القضائية اهتماماً من قبل بعض المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، وبدأت هذا الاهتمام بمجال القضاء الجمعية العامة للأم المتحدة ثم أحالتها إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة لها، وأقيمت المؤتمرات وعقدت النقاشات وتمخض هذا كله عن الإقرار، مع الحقوق الأخرى للإنسان، أن وجود محكمة حيادية ومنصفة ومستقلة هو أحد حقوق الإنسان، التي يجب أن يتمتع بها الفرد داخل الدولة، وكان ذلك الإقرار بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ثم العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وبناء على ذلك تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة ما يسمى (المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية) وتعتبر هذه المبادئ الحد الأدنى المتفق عليه بين الدول لاستقلالية السلطة القضائية، وكذلك صدر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للجمعية العامة الإجراءات التنفيذية الخاصة بالمبادئ الأساسية المذكورة[3]. الأمر الذي يدل على أن المبادئ الأساسية إنما صدرت للتنفيذ، حيث نص العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة (14) منه على حق الإنسان في أن تنظر دعواه محكمة مستقلة، وقد طورت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الحق ليشمل السلطة القضائية بأكملها وذلك عن طريق وضع ما سمته (المبادئ الأساسية بشان استقلال السلطة القضائية)، كما وضعت إجراءات للتنفيذ الفعال لهذه المبادئ[4]. وتقوم لجنة حقوق الإنسان وبعض المنظمات غير الحكومية بمتابعة تنفيذ المبادئ الأساسية، هذا من جانب، ومن جانب آخر تبرز أهمية السلطة القضائية في الدولة في أن الدساتير بصفة عامة تضعها في مصاف السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتخصص لها أسوة بالسلطتين الأخريين فصلاً كاملاً تبين فيه تعريف السلطة القضائية ومهامها وحدود سلطتها وتشكيلها وأقسامها، تحرص الدساتير العربية بصف خاصة- ومنها الدستور اليمني- على بيان أن العدل أساس الحكم، ولكي تضمن تحقيق ذلك فإنها تنص على أنه لا سلطان على القاضي في قضائه وترفع من شأنه وتحصنه من التأثيرات، والدستور اليمني ينص على مبدأ استقلال القضاء وعدم جواز التدخل في سير العدالة، ذكرها في ست مواد يتيمة[5]، تبدأ بالمادة 149 وتنتهي بالمادة 154 من أصل 162 مادة[6].
وكل ذلك من المبادئ القضائية جاء قبل ألف وأربعمائة عام في عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى مالك الاشتر هو الرسالة التي أرسلها علي بن أبي طالب إلى مالك بن الاشتر النخعي عندما ولاه الحكم في مصر، فهي عهد في كيفية إدارة الدولة وسياسة الحكومة ومراعاة حقوق الشعب وفيه نظريات الإسلام في الحاكم والحكومة ومناهج الدين في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحرب والإدارة والأُمور التعبدية والقضائية. وبالرغم من أن قضاء الإمام (عليه السلام) يعد ثروة علمية، فإنه لم يحظَ باهتمام المختصين بالقانون بالدراسة والتحليل وبالعمق الذي تضمنته هذه الرسالة، وإنما انصب جهد الفقهاء على سرد الوقائع التي قضى بها الإمام علي على سبيل الحكمة والموعظة.
وقد اعتمد هذا العهد في الأمم المتحدة كونه من أوائل الوثائق الحقوقية في تاريخ البشرية التي تحدد الحقوق والواجبات بين الدولة والشعب، هذا العهد وصل إلى أذن الأمين العام للأُمم المتحدة عبر زوجته السويدية، وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة: إنّ هذه العبارة من العهد يجب أن تعلّق على كلّ المؤسسات الحقوقية في العالم، والعبارة هي: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق»، وهذه العبارة جعلت كوفي عنان ينادي بأن تدرس الأجهزة الحقوقية والقانونية عهد الإمام لمالك الأشتر، وترشيحه لكي يكون أحد مصادر التشريع للقانون الدولي، وبعد مداولات استمرّت لمدّة سنتين في الأمم المتحدة صوّتت غالبية دول العالم على كون عهد علي بن أبي طالب لمالك الأشتر أحد مصادر التشريع للقانون الدولي، وقد تمّ بعد ذلك إضافة فقرات أُخرى من نهج البلاغة للإمام علي (سلام ربي عليه) بالإضافة إلى عهده إلى مالك الأشتر كمصادر للقانون الدولي.
وكتب عن عهد الإمام علي للأشتر الكاتب والأديب العربي عباس محمود العقاد بمؤلفه بعنوان: (عبقرية الإمام علي)، في مجموعة كتب العبقريات الصادرة له. (عبقرية أبي بكر الصديق، عبقرية عمر بن الخطاب، عبقرية الإمام علي)
وذكر ميشيل هاملتون مورغان: جاء في كتابه los history الموجود حالياً في مكتبة الكونغرس الأمريكي بواشنطن لمؤلفه الكاتب الأمريكي المعاصر ميشيل هاملتون مورغان الذي يذكر فيه إعجابه الفائق بالسياسة الحكيمة لشخص خليفة المسلمين علي بن أبي طالب بعد أن اطلع على رسائله التي حررها إلى ولاته في الأمصار الإسلامية ومنهم مالك الأشتر مؤكداً عليهم أن يعاملوا المواطنين من غير المسلمين بروح العدل والمساواة في الحقوق والواجبات. فالكاتب الأجنبي اعتبر ذلك انعكاساً صادقاً لسلوكيات الخليفة الحميدة المؤطرة بفضائل الأخلاق التي أهلته للدخول في تاريخ الإنسانية من أبوابه العريضة.
وكتب المؤرخ المصري توفيق أبو العلم: «كان علي بن أبي طالب شخصية خصبة، إنه كان مظهراً من مظاهر التكامل الإنساني، بعد أن انتخبه المسلمون خليفة للمسلمين، بدأ بتطبيق برنامجه الإصلاحي في إشاعة العدل والمساواة بين أبناء الأمة الإسلامية بصرف النظر عن دينهم ومذهبهم ولغتهم ولون بشرتهم واتجاهاتهم السياسية والاجتماعية، لقد أمر الولاة أن يكونوا رحماء مع رعاياهم كما تجلى ذلك في رسالة الإمام عام 656م إلى والي مصر مالك الاشتر».
والكاتب المسيحيّ جورج جرداق قال: «هل عرفت إماماً لدين يوصي ولاته بمثل هذا القول في الناس! فإنّهم «إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، أعطِهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه». والقائمة تطول في من كتب عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
أهداف البحث:
يهدف البحث إلى إيضاح النظام الوارد لمسألة حسن سير التقاضي في عهد الإمام علي بن أبي طالب في تلك الفترة وكذا النظام القضائي القائم اليوم في اليمن، وتشخيص مكامن الخلل اليوم ووضع إطار لمعالجتها من خلال ما ورد في العهد من ضمانات.
حيث أسس عهد القضاء للإمام علي (عليه السلام) ضمانات مهمة تهدف إلى تنظيم حسن سير القضاء وإجراءاته، عندما وضع شروطاً وصفات يجب أن تتوفر في من سيعين قاضياً، وهي ضمانات سابقة، وضمانات حقوق القاضي كالمرتب الكافي وحصانته وإعلاء مكانته، وهي ضمانات مصاحبة، كما وضع ضمانات تتعلق بالمختصمين أمام القضاء وعدم الإضرار بهم، كالمساواة وحق الدفاع وحق المواجهة وحق الطعن بالحكم فضلاً عن ذلك حرص الإمام علي (عليه السلام) على إيجاد قواعد خاصة لضمان نزاهة القضاة وحيدتهم وحماية استقلالهم تجاه الخصوم، والغرض من هذه الضمانات، هو حماية القاضي من نفسه، التي قد تدفعه إلى التعسف في استعمال السلطة القضائية أو إلى نوع من التعدي على حقوق المتقاضين، وحماية القاضي من الغير بعدم التدخل في شئون العدالة والتأثير عليها، وعهد الإمام (عليه السلام) وضع حداً لهذه التصرفات التي قد تؤثر على نزاهة القاضي وحياده؛ لأن القاضي بشر والنفس أمارة بالسوء وقد وضع الإمام علي (عليه السلام) أسساً لضمان وظيفة التقاضي، وأن العدل أساس الحكم حيث قال الإمام علي عليه السلام في هذا العهد: «وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية».
مشكلة البحث:
تتضح المشكلة من خلال التساؤلات التالية:
1. هل وضع عهد الإمام أسس عملية حسن سير التقاضي للبناء عليها، وهل المواد القانونية القائمة في اليمن بهذا الشأن كافية، وإن كان هناك قصور أو فراغ تشريعي فما هي النصوص الغائبة ونحن بحاجة لها؟
2. ما هي المعالجات الرئيسية والتعديلات المطلوبة في عدد من التشريعات اليمنية؟.
منهج البحث وتقسيماته:
استخدم الباحث المنهج المقارن ومنهج تحليل المضمون والمنهج الوصفي، لدراسة موضوع البحث؛ لإلقاء الضوء على ضمانات وأسس التقاضي عند الإمام علي (عليه السلام) التي وردت بصورة شاملة كاملة، وهذه الأسس تعد من الضمانات المهمة لصحة التقاضي بالمقارنة بما جاء عند الإمام علي (عليه السلام) والتشريع اليمني والعراقي ما أمكن في ثلاثة فروع هي: ضمانات تتعلق بشروط تعيين القضاة وضمانات تهتم بحقوق القضاة ومؤسسة القضاء ثم ضمانات تتعلق بالإجراءات والمتقاضين.
الفرع الأول
ضمانات تتعلق بشروط تعيين القضاة
رأينا أن نعرج هنا على تعريف القضاء: (فالقضاء يعني فصل الخصومة بين المتخاصمين، والحكم بثبوت دعوى المدعي أو بعدم حق له على المدعى عليه)[7].
شروط تعيين القاضي:
لقد شدد الإمام علي (عليه السلام) في شروط من يصلح للقضاء؛ وذلك لأن القضاء مسلط على دماء، وأعراض، وممتلكات الناس، وهو الذي يحكم، ويفصل في كلّ ذلك، فينبغي في رجال القضاء توفر شروط دقيقة فيمن يتولى القضاء، لكي تتم عملية التقاضي بصورة سليمة، ومستقيمة؛ ولأهمية القضاء كون العدل أساس الحكم يتوجب اختيار القضاة ممن هم أفضل الناس وممن تتوفر فيهم شروط محددة وصفات معينة، وهذه الشروط والصفات لاختيار القاضي جاءت في عهد الإمام علي (عليه السلام)، لمالك الأشتر؛ لكي تؤهلهم على إرساء العدالة وليكونوا قضاة ينظرون ويفصلون في الخصومات بين الرعية بكل إنصاف، وهذه الشروط هي الضوابط والضمانات السابقة للترشيح لوظيفة القاضي، وهو أمر معمول به اليوم في كافة النظم القضائية في العالم، وقد حددها الإمام علي في عهدة للأشتر بقوله: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ...»، ثم حدد الإمام علي عدداً من الشروط والصفات التي يجب توفرها في القاضي عندما قال: «ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل»، وسنبينها كما يلي:
1- شرط الكفاءة العلمية:
أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى شرط الكفاءة العلمية في رسالته لمالك الأشتر والتي جاء فيها: «ثم اختر للحكم [أي القضاء] أفضل رعيتك»، واشتراط أفضل الرعية لا يعني أن يكون القاضي أعلم أهل زمانه، وإنما يفهم منها الترجيح في الصفات التي يجب أن تتوفر في القاضي على غيره وأن يحيط علماً بمعرفته بتفاصيل القضايا التي تعرض عليه. وقد عبّر عنها الإمام (عليه السلام) بقوله: «لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه» أي إنه لا يكتفي عند إصدار حكمه بما يبدو له بأول فهم ويقر به دون أن يأتي على أقصى الفهم بعد التأمل، فهو لا يكتفي بأقوال الخصوم، وإنما يحاول أن يستزيـــد ويضيــف إلـــى معلومــاته، معلومــات أخــــرى حتى يحيط بالـقضية المـعروضة أمامه من كل جوانبها؛ لأن الإحاطة بـــذلك ستمكنه من الوصول إلى جعل الحقيقة القضائية مطابقة للحقيقة الواقعية؛ ولذلك وصف الإمام هذا القاضي بـقوله: «وأوقفهم في الشبهات»، وهي ما لا يتضح الحكم فيه بالنص، فلا يحكم إلا وقد دله علمه على أصل الحادثة الصحيح بعد الصبر على تكشف الأمور وبعد الأخذ بالحجج والمقاييس. وينتقد الإمام علي (عليه السلام) القاضي الجاهل الذي أوصلته إلى منصب القضاء أمور غير الكفاءة العلمية، بأنه: «قد سماه أشباه الناس عالماً وليس به فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ما كثر حتى إذا ارتوى من ماء جن واكتنز من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً ضامناً تخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المهمات هي حشو رث من رأيه ثم قطع به فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت»[8].
ولتحقيق شرط الكفاءة العلمية، كان الإمام علي (عليه السلام) يجمع القضاة والفقهاء بين حين وحين، ليوحد الأسس التي تقوم عليها الأحكام القضائية في كافة أنحاء البلاد ويجعل من القضاة على علم واسع بما بلغ إليه الاجتهاد.
وقد جاء عن الإمام علي (عليه السلام) لقاض: «هل تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال: لا، قال: فهل أشرفت على مراد الله عزّ وجلّ في أمثال القرآن؟ قال: لا، قال: إذاً هلكت، وأهلكت».
- والقاضي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن، وحقائق السنن، وبواطن الإشارات، والآداب، والإجماع، والاختلاف، والاطلاع على أصول ما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه، ثم إلى حسن الاختيار، ثم إلى العمل الصالح، ثم الحكمة، ثم التقوى، وهناك شروط دقيقة في من يتولى القضاء، وشرط الكفاءة العلمية، يُعد من أول الشروط التي يجب أن تتوفر عند القاضي؛ لأنه بدون هذا الشرط، سوف يضطر القاضي إلى أن يحكم إما بعلمه المحدود وإما وفق هواه، وكلاهما لا يكفي؛ لأن يقيم حدود المساواة بيــن الناس، فالكفاءة العلمية تعـني معرفة القــاضي الــشاملة بــالقــوانيــن والأحــكــام وتحــديــد الواقــعة التــي يــريــد الحــكـم فيــها تحــديــداً دقيــقاً، فهو يستند بذلك إلى خبرة الأجيال والقوانين والشرائع التي سبقته.
ويجب أن يستند كذلك إلى قوانين موحدة، تكون نافذة في جميع أنحاء البلاد، فلا يصدر قاض البصرة مثلاً، حكماً في قضية، يكون قاض الكوفة قد أصدر حكماً معارضاً له في قضية مشابهة لها، ويكون قاضي بغداد قد أصدر حكماً ثالثاً لا يتفق مع واحد من هذين في أساس ولا فرع.
وشرط الكفاءة يستوجب على القاضي أن يكون لديه علم مرتبط بالقانون والأحكام وعلم يرتبط بالواقع، ويعتمد في تطبيقه للأحكام والقوانين على قدرة القاضي على الاستنباط عند ربطه بين النظرية والواقع، ويشترط المشرعان اليمني والعراقي شرط الكفاءة العلمية في من سيعين قاضياً، بأن يكون حائزاً على شهادة عليا أو من معهد القضاء العالي بعد الشهادة الجامعية الأولى من كلية الشريعة والقانون أو الحقوق كما سنرى لاحقاً.
2- شرط العدالة:
العدالة: ملكة في النفس، تمنع صاحبها من ارتكاب الكبائر والرذائل والإصرار على الصغائر، فهي استواء أحوال الإنسان في دينه واعتدال قوله وأفعاله. وشرط العدالة يمكن أن نستنتجه من عهد الإمام لمالك بن الأشتر، والذي جاء فيه: «ولا يكونّن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه»، وجاء في هذا العهد أيضاً قوله (عليه السلام): «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية».
ولما كانــت شخصيــة الإمــام علي (عليه السلام) من الأصالة والتماسك، فــقد ضــرب بنفسه أروع الأمثال على المساواة المطلقة بين الناس أمام القضاء، فقد شكا أحد الناس الإمام علي (عليه السلام) إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في خصومة، وكان عمر خليفة، فأحضرهما وقال لعلي: «قف يا أبا الحسن بجانب خصمك، فبدا التأثر على وجه الإمام علي(عليه السلام): فقال عمر: أكرهت يا علي أن تقف إلى جانب خصمك؟ فقال: لا ولكني رأيتك لم تُسوّ بيني وبينه، إذ عظمتني بالتكنية ولم تُكنه»[9].
والعدالة عند الإمام علي (عليه السلام) تستند إلى روح التشريع الإسلامي ونصوصه، فهي ليست مجرد فضيلة من الفضائل، بل بوصفها جزءاً من الشريعة، وقد وردت كثير من الآيات القرآنية في الحث على الأخذ بالعدالة، منها قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل) [النحل:90]، بل ذهبت العدالة في الإسلام مدى بعيداً، أبعد مما عرف في أية شريعة أخرى من الشرائع السماوية أو الوضعية، إذ نجد القرآن الكريم يحث على العدالة حتى ضد نفس المرء وحتى على الأعداء، فقد ورد قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) [النساء:125]، فإن الله يأمرنا في هذه الآية الكريمة أن نكون عدولاً حتى ولو جاء ذلك العدل ضد أنفسنا أو الوالدين أو ذوي القربى ولحقنا الضرر من ذلك. وقوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا، أعدلوا هو أقرب للتقوى) [المائدة:8]، والإسلام لا يتطلب العدالة من القضاء فحسب، وإنما هي مفروضة على كل من يملك سلطة أيضاً، فقد أوجب الإسلام على الحكام، التزام العدالة حتى مع الأعداء[10].
وشرط العدالة يمكن أن نستنتجه أيضاً من قول الإمام علي في عهده للاشتر: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك...الخ»، واختيار الأفاضل للقضاء، فكلما كان القاضي فاضلاً عادلاً، فإن له فاعلية أكبر في إصدار الحكم القضائي بالعدل ومعيار العــدالة الذي يجب أن يتوفــر في القــاضي هو اجتناب الكــبائر وعــدم الإصرار على الصغائر؛ لأن ارتكاب الكبائر يؤدي إلى الإخلال بالعدالة أما ارتكاب الصغائر، فإنه لا يؤدي إلى الإخلال بالعدالة إلا عند الإصرار عليها، والإصرار: حالة نفسية، تعني كون الإنسان مرتكباً للذنب، لا بوصفه صدفة عابرة على النفس، بل بإقبال نفسي ثابت، والكبائر: هي كل ذنب توعد الله عليه بالعقاب بالكتاب العزيز، أو هي: كل ذنب توعد الله عليه بالنار، وهي ارتكاب المحرمات المتفق عليها، وهي الكفر بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وأكل الربا ومال اليتيم ظلماً والفرار من الزحف، أما الصغائر، فهي- بحسب تعبير العلامة الحلي: «ترك المندوبات وإن أصر عليها ما لم يبلغ الترك إلى التهاون بالسنن»[11].
وقد ذكر هذا الشرط المشرعان اليمني والعراقي عندما قالا: «أن يكون محمود السيرة وحسن السمعة»، في الفقرة (4) من القانون اليمني، والفقرة 3 من القانون العراقي من المادة التي ذكرت الشروط وسنوردها لاحقاً.
3- شرط العقل والبلوغ:
نستخلص هذا الشرط ضمناً من قول الإمام علي: «واختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك»، والأفضلية هنا تستوجب البلوغ والعقل. أجمع الفقهاء المسلمون على هذين الشرطين[12]،؛ لأن كلاً منهما شرط طبيعي، ذلك أن فاقد العقل الذي هو مناط التكليف غير مكلف، فإنه من باب أولى أن تكليفه بالقضاء لا يصح، وعليه لا تصح ولاية المجنون ولا السفيه للقضاء، وكذلك لا يجوز تقليد الصبي القضاء؛ لأنه لا يملك الولاية على نفسه، فكيف يملك الولاية على غيره؛ ذلك أن العقل هو وسيلة مُثلى يستطيع بها القاضي أن يكون قادراً على أداء وظيفته القضائية على أفضل شكل، وفي رسالة القضاء للإمام علي (عليه السلام) للأشتر ما يؤكد على أن هناك بعض الصفات التي لا تتم إلا بتسديد العقل، ليس فقط العقل بوصفه مقابلاً للجنون، وإنما الاستفادة من العقل في مراحله العليا وهو الذكاء، الذي يتوصل به القاضي إلى الكشف على الحقائق الواقعية المطابقة للحقائق القضائية، فجاء في رسالة الإمام (عليه السلام) بأن يختار القاضي الذي تتوفر فيه صفات تؤكد رجاحة العقل ومكارم الأخلاق: «بأن يأخذ بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم، من لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء»، وتعتمد هذه الأمور على قدرة وإرادة ووعي، وهذه كلها من معطيات العقل.
وشرط العقل والبلوغ عبر عنه القانونان اليمني والعراقي، بكامل الأهلية، وهي سن ثلاثين عاماً في القانون اليمني، وسن ثمانية وعشرين عاماً في القانون العراقي[13].
4- شرط سلامة الحواس:
نقصد بشرط سلامة الحواس: أن تكون حواسه سليمة من أي عيب، وذلك بأن يكون القاضي سليماً في سمعه وبصره ونطقه، ونستطيع أن نستخلصها ضمناً في عهد الإمام علي أنها تتفق مع الرأي الراجح من الفقه إلى عدم جواز قضاء الأصم والأعمى والأخرس؛ لأن الأعمى لا يستطيع التمييز بين الخصوم، وكذلك الأصم لا يفرق بين إقرار وإنكار، بل إن جانباً من الفقه ذهب إلى استحباب صفات أخرى في القاضي، منها سلامة أطرافه وبهجة صورته وزيادة ورعه واتصافه بكل جميلة، تزيده هيبة في النفوس وعظمة في القلوب وخلوه عن كل ما ينقص من قدرته ومنزلته.
وبالرغم من أن الإمام علي (عليه السلام)، لم يشر إلى هذه الصفات بصورة مباشرة في عهده، غير أن هذا الشرط، يمكن أن نجده في أفضل الرعية والصفات الأخرى، وكذا في وصاياه، وفي موضع آخر فقد أمر القاضي شريح بقوله: «وآسِ بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك»، وهذه المساواة لا تتحقق إلا لمن سلمت حواسه.
وذكر المشرع اليمني هذا الشرط سلامة الحواس بكونه خالياً من العاهات المؤثرة على القضاء، وكذا المشرع العراقي اشترط توفر الجدارة البدنية واللياقة[14].
5- شرط مكارم الأخلاق وعلوها (صفات القاضي)[15]:
الخلق العظيم الكريم مصدر كل قضاء شريف؛ لذلك يجب أن يتوفر في شخص القاضي، شرط خلقي، فلا يكفي وجود الشروط التي ذكرناها بدونه، وقد اشترط عهد القضاء للإمام علي (عليه السلام) شروطاً أخرى تؤكد على توفر المزايا الخُلُقية وهي على النحو الآتي:
أ- ولا تضيق به الأمور:
أي يمتلك سعة الصدر وضبط النفس والرفق بالمتخاصمين حتى ولو أسمعوه كلاماً عنيفاً يضيق به الصدر، فهو يسيطر على عواطفه بما يمتاز به من كفاءة علمية ونفس عزيزة.
ب- ولا تُمحِكُه الخصوم:
ويقصد بهذه الصفة أن لا يضيق خلق القاضي عندما يثيره الخصوم ومبالغتهم بالأمور الهامشية، وإنما يجب أن يكون حيادياً، يقتصر دوره على ما يقدمه الخصوم من أدلة في الدعوى، وأن ينطلق اقتناعه دائماً مما قدموه من أدلة وما اتخذوه من موقف وأن يسيطر على مشاعره، مهما أثاره الخصوم، وذلك بأن يلتزم الحياد وأن يقف بين الخصوم موقف الحكم الذي يزن المصالح القانونية للخصوم بالعدل.
ج- ولا يتمادى في الزّلة:
يجب على القاضي أن لا يصر على الخطأ؛ لأنه إنسان عادل يهدف عمله إلى رفع الظلم عن الخصوم، فعليه أن يقدر الأمور كما هي، ويعمل بموجبها، وأن يعمل دائماً على تصحيح الخطأ ولا يصر عليه.
د- ولا يحصَرُ من الفئ إلى الحق إذا عرفه:
من الصفات التي يجب على القاضي أن يتصف بها، هي أن لا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق، فهو يعود إلى الحكم السابق إذا عرف صواب هذا الحكم؛ لأن القاضي بشر، وقد يخطئ لذلك فإن الإمام علي (عليه السلام) أجاز له تصحيح هذا الخطأ والرجوع إلى الحكم الصحيح؛ لأن تصحيح الحكم خير من التمادي فيه.
هـ - ولا تُشرف نفسه على طمع:
الطمع من سافلات الأمور، ومن نظر إليه وهو في أعلى منزلة النزاهة، لحقته وصمة النقيصة، فكيف بمن هبط إليه وتناوله؛ لذلك يؤكـد الإمــام علي (عليه السلام) عــلى الــقاضي بأن لا يـشرف على طمـع ويجــب عليه أن لا يتسرع إلى كسب الغنائم؛ لأنــه لا يـخاف أن يفوته شيء مــن الربح إذا حكم بما أراد الله.
و- ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه:
وهذه الصفة تعني أن لا يكتفي القاضي في الحكم بما يبدو له بأول فهم ويقربه وإنما يحيط بالحكم إلى أقصى درجة من الفهم والتأمل؛ لأنه يمتلك شرط الكفاءة العلمية، وهو شرط أساس في الشخص الذي يجب أن يتولى وظيفة القضاء، فهو يتبصر بأمور القضية تبصراً طويلاً، ولا يكتفي بالمعلومات الأولية التي يحصل عليها كل قاض وإنما يزيد عليها من استنباطه الإبداعي، وعملية الاستنباط عملية شاقة، تتطلب من القاضي بذل مجهود ذهني في تكوين اعتقاده. وبما أن استنباط القاضي يقوم على الاحتمال والترجيح، فإنه يكون معرضاً للخطأ؛ لأن القاضي بشر وقدراته محدودة؛ ولذلك يجب عليه أن يظهر كثيراً من الحكمة والحذر فيما يستنبطه من وقائع الدعوى.
ز- وأوقفهم في الشبهات:
ويقصد بهذه الصفة أن لا يأخذ القاضي بما لا يتضح فيه الحكم إلا بالدليل الواضح، فإذا لم يتضح له الدليل، فيجب عليه عدم إصدار الحكم في القضية المعروضة عليه إلى أن يصل إلى أصلها الصحيح؛ لذلك يجد صاحب الحق نفسه مضطراً إلى أن يقنع القاضي بإقامة الدليل على وجوده إذا ما تعرض هذا الحق للإنكار من جانب الغير، وبدون إقامة هذا الدليل، لا يستطيع أن يحصل على الحماية القضائية، فيتعرض لفقدان حقه؛ لأن القاضي لن يكون ملزماً بأن يسلم بصدق هذا الادعاء ويستطيع القاضي أن يحسم المنازعات بين الخصوم وأن يدحض الادعاءات الكاذبة والكيدية؛ تحقيقاً للعدالة لصالح جميع المتخاصمين.
ح- وآخَذَهُم بالحجج:
أي يجب أن يستند القاضي في حكمه على الأدلة التي يقدمها الخصوم أمامه، لأن الحق دون دليل، يصبح هو والعدم سواء بسواء، وإذا كانت الشريعة الإسلامية ترسم لكل فرد حدود حريته وتبين حقوقه وواجباته، فإن أسباب النزاع، قد تنعدم بين الناس إذا ما التزم كل شخص حدوده وأدى حق غيره، غير أنه لما كانت النفس الإنسانية مطبوعة على الأثرة، ميالة إلى الاستزاده مما لها، للتخلص مما عليها ولو بغير حق، كان ذلك مثاراً للمنازعات بين الأفراد، ولقد جاء في الحديث الشريف أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه)؛ ولذلك يجب على القاضي أن يجعل الدليل هو الأساس في قبول الدعوى ويجب عليه أن يرد كل دعوى لا تستند إلى دليل.
ط- وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم:
يجب على القاضي أن لا يكون ضجراً من كثرة مراجعة الخصوم له، وإنما عليه أن لا يمل من هذا الأمر، وأن لا يقضي وهو غضبان أو جائع أو ممتلئ أو عطشان؛ لأن هذه العوارض تشوش عليه نظره وفكره، مما يشغله عن الحق، وهذه الصفات من آداب القضاء المعروفة في الفقه الإسلامي.
ي- وأصبرهم على تكشف الأمور:
يشترط الإمام (عليه السلام) على القاضي أن لا يتسرع عند إصدار الحكم وإنما يجب عليه أن يتبصر في الأمور تبصراً طويلاً وأن يتحمل الصبر من أجل كشف الملابسات التي تحيط بالقضية المعروضة عليه.
ك- وأصرمهم عند اتضاح الحكم:
اشترط الإمام علي (عليه السلام) في القاضي الحب المطلق للعدالة والميل الأصيل لدفع الظلم، فبمجرد أن يصل إلى الحقيقة الواقعية، يجب عليه أن يكون صارماً في قطع الخصومة وإصدار الحكم العادل بها.
ل – ممن لا يزدهيه إطراء:
على القاضي أن لا يخشى في الحق أحداً ولا يتأثر بالمديح أو الإطراء؛ لأنه يمتلك شخصية قوية في كل حكم يجب أن يصدره.
م- ولا يستميله إغراء:
وهذه الصفة تعني أن على القاضي أن لا يتأثر بالإغراءات المادية التي يقدمها الخصوم أحياناً من هدية أو رشوة، أو يكون فيه حنين إلى الحظوة لدى الوجهاء، فهو لا يشرف على طمع؛ لأنه من أفضل الرعية، ولأن الإغراء يؤدي بالقاضي إلى الانحراف عن العدل، وقد عالج الإمام علي (عليه السلام) هذا الأمر كما سنرى ذلك بتأمين القاضي اقتصادياً، كي لا يطمع برشوة أو منفعة فينحرف عن العدالة[16].
6ـ شروط اختيار القضاة في التشريع اليمني[17] والعراقي[18]:
شروط التعيين في وظائف السلطة القضائية وفقاً للقانون اليمني، حددها المشرع اليمني في القانون رقم (1) لسنة 1991م، بشأن السلطة القضائية:
يشترط فيمن يعين ابتداءً في وظائف السلطة القضائية في القانون اليمني رقم (1) لسنة 1991م، ما يلــي:
1. أن يكون يمني الجنسية، كامل الأهلية، خالياً من العاهات المؤثرة على القضاء.
2. ألا يقل عمره عن ثلاثين عاماً، ولا يتولى العمل القضائي إلا بعد مضى فترة تدريبية لا تقل عن سنتين في المجال القضائي.
3. أن يكون حائزاً على شهادة من المعهد العالي للقضاء بعد الشهادة الجامعية في الشريعة والقانون، أو في الحقوق من إحدى الجامعات المعترف بها في الجمهورية اليمنية أو خارجها.
4. أن يكون حسن السيرة والسلوك والسمعة.
5. ألا يكون قد حكم عليه قضائياً في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة.
6. يستثنى من شرطي الحصول على شهادة المعهد العالي للقضاء وحد السن الأدنى من يلتحق بوظائف النيابة العامة.
أما في التشريع العراقي في قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979م فإن وزارة العدل هي التي تقوم بتعيين المتخرجين في المعهد القضائي، إذا توافرت فيهم الشروط الآتية:
1. أن يكون عراقياً بالولادة ومتمتعاً بالأهلية المدنية الكاملة.
2. أن لا يزيد عمره عند قبوله في المعهد على أربعين سنة ولا يقل عن ثمان وعشرين سنة.
3. أن لا يكون محكوماً عليه بجناية غير سياسية أو جنحة مخلة بالشرف.
4. أن يكون محمود السيرة وحسن السمعة.
5. أن تتوافر فيه الجدارة البدنية واللياقة.
6. أن يكون متخرجاً من إحدى كليات القانون في العراق أو أية كلية قانون معترف بها بشرط اجتيازه امتحاناً بالقوانين العراقية، يحدده مجلس المعهد ومواده وكيفية إجرائه.
7. أن لا يكون قد سبق فصله من المعهد.
8. أن تكون له ممارسة فعلية بعد التخرج في الكلية، مدة لا تقل عن ثلاث سنوات في المحاماة، أو في وظيفة قضائية أو قانونية في دوائر ومؤسسات الدولة[19]. ويُعفى من شروط الممارسة الطلبة من حملة الشهادات العليا في الدراسة القانونية من درجة الماجستير أو أعلى.
9. واشترطت المادة السابعة المعدلة من قانون التنظيم القضائي رقم (160) لسنة 1979م، فيمن يعين قاضياً أو نائباً (مدعياً) عاماً، أن يكون متخرجاً من المعهد القضائي ومتزوجاً.
وعند مقارنة هذه الشروط مع الشروط التي استلزمها الإمام علي (عليه السلام) في رسالته القضائية، نجد أن هناك شروطاً مهمة، غفلت هذه التشريعات عنها وهو شرط الكفاءة الأخلاقية (قيم ومبادئ عليا) والتي حددها الإمام علي (عليه السلام) بأن يكون القاضي من أفضل الرعية وكذلك شرط الحكمة والدراية الواسعة للقضاة.
الفرع الثاني
ضمانات تهتم بحقوق القاضي (إعلاء مكانة القضاء)
لقد اهتم الإمام علي (عليه السلام) بإعلاء مكانة القضاء والقضاة في هذا العهد التاريخي بصورة جلية وواضحة، فبعدما وضع الشروط المميزة الواجب توافرها في القاضي، ووضع لنا حقوق القضاة في الاستقلال والراتب الكافي، بقوله: «وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى، وتُطلب به الدنيا».
ووضع النظام القضائي عند الإمام علي (عليه السلام) فيما يخص حق القاضي ضرورة تأمين ركيزتين أساسيتين، وهما تأمين الوضع الاقتصادي للقضاة، وتحقيق الحصانة القضائية للقاضي؛ لأن عدم ضبط هاتين الركيزتين، قد تؤدي بالقضاة إلى الانحراف.
1) الكفاية المالية للقاضي (الصك المفتوح):
تفاخر بريطانيا اليوم بأن نظامها القضائي يمنح القاضي مرتباً شهرياً بشيك مفتوح يحدد القاضي المبلغ الكافي له كمعيشة شهرية، وقد سبقها إلى ذلك الإمام علي (عليه السلام) بـ «1400» عام، حيث جعل للقاضي صكاً مفتوحاً، وتعتبر رواتب القضاة في الإسلام أعلى رواتب يتقاضاها موظف في الدولة الإسلاميّة، فلم يحدد الإسلام لهم مرتباً معيناً، بل لهم صك مفتوح كي لا تلجئهم الحاجة، والفاقة إلى أخذ الرشوة من المتخاصمين، فتختل الأحكام القضائية وتختفي العدالة، ولكي لا يضطر القضاة إلى الانحراف عن الحق، عند عدم تأمين الاحتياجات الاقتصادية لهم؛ لذلك اهتم الإمام علي (عليه السلام) بذلك وأعطى الأمن المعيشي للقضاة أولوية، جاء ذلك في عهده لمالك الأشتر والذي جاء فيه: «وأفسح له [أي القاضي] في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس»؛ ولذلك ألزم الإمام (عليه السلام) السلطة بأن توسع على القاضي وعلى عياله، خوفاً من أن يطمع في أموال الناس. لذلك كان عطاء القاضي في عهده أكبر عطاء يناله عامل من عمال الدولة الإسلامية. وهذا ما دأبت عليه تشريعات الدول المتقدمة، بمنح القاضي راتباً يصل إلى أعلى مسئول في الدولة، لكي لا يطمع لرشوة أو منفعة وينحرف عن جادة الحق.
2) الحصانة القضائية للقاضي:
أوضح الإمام علي (عليه السلام) هذا الأمر في عهده إلى مالك الأشتر حيث جاء فيه: «وأعطه [أي القاضي] من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً»، وبهذا العهد يوصي الإمام علي (عليه السلام)، أن تكون للقاضي منزلة رفيعة عند السلطة التنفيذية بحيث لا يستطيع أحد مهما كانت درجته أن يعيق عمله ذلك؛ لأن القاضي إذا ما تم تأمين الأمن الوظيفي له، فإن الخاصة أو العامة سوف تهابه، ولا يجرؤ أحد على الوشاية به عند السلطة خوفاً منها وإجلالاً لعظمة القاضي؛ لأنه من دون تأمين هذا الأمن الوظيفي للقاضي وبوصفه بشراً فإنه يخاف من السلطة أن تغدر به أو تقضي عليه، أو يخاف من التهديد بالقتل ومن أن ينال الوجهاء المتنفذون من كرامته والاعتداء عليه إذا قضى عليهم لصالح مظلوم أو لغير مصلحتهم.
وقد أقرت التشريعات المعاصرة هذا المبدأ الذي اعتمده الإمام علي (عليه السلام)، وأخذت به غالبية التشريعات المعاصرة.
واعتبر المشرع العراقي، تدخل المسئولين أو أي مواطن في شؤون القضاء، جريمة يعاقب عليها القانون، وكذلك المشرع اليمني الذي نص على ذلك في الدستور اليمني وكذا في قانون السلطة القضائية.
- يتضح هنا أثر هذه الضمانة التي وضعها الإمام علي لسمو مكانة القاضي في النظام الإسلامي ومكانته الرفيعة، فليست هناك رتبة في السلطة الإسلاميّة أرفع من رتبة القاضي إلّا رتبة الإمام، وولي الأمر بحيث لا يلجأ القاضي إلى أحد الوزراء، أو القادة كي يقربوه من الحاكم الأعلى للمسلمين، أو يمدحوه لديه حتّى لا يصبح أداة طيعة في أيدي هؤلاء المسئولين؛ كي يحكم لصالحهم إن حدثت لهم قضية لديه، بل هو أرفع وأسمى منهم جميعاً، وأقرب شخص لدى الإمام، وهذه هي عظمة وسمو النظام القضائي في الإسلام، فقد حذر الإسلام القاضي من أخذ الرشوة وقبول الهدية، كذلك، وسد عليه الطريق إن سولت له نفسه يوماً ما في ذلك الأمر، فقد اعتبر الإمام علي (عليه السلام) الرشوة مالاً محرماً كالذي يأخذ الأجرة على القيادة والسحر والبغاء وكتب علي (عليه السلام) إلى رفاعة: «احذر التحف من الخصوم، وحاذر الدخلة»، ففي هذا النص نجد الإمام علي (عليه السلام) يحذر رفاعة القاضي من قبول التحف، والدخلة من المتخاصمين، وقبول رشوتهم بأي عنوان كانت سواء بعنوان الهبة، أو الهدية، فكل ذلك محرم على القاضي، كذلك لا يجوز للقاضي أن يسمح لغير المتخاصمين أن يتدخل في سير المرافعات، ويتوسط لديه بأن يحكم لصالح فريق دون الآخر، وهذا هو المراد من قوله (عليه السلام): «... وحاذر الدخلة».
- الحصانة التي يتمتع بها القضاة في الدستور والقانون اليمني:
الدستور اليمني شدد على استقلال القضاء والقضاة وحصانتهم في المواد (149، 151)[20]، ثم جاء قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 1991م على ذكر الحصانة القضائية[21] بما يلي:
يتمتع القضـاة بالحصانـة التاليـة:
1. لا يجوز عزل القضاة من مناصبهم إلا بعد عقوبة تم توقيعها في دعوى محاسبة بموجب أحكام قانون السلطة القضائية.
2. لا يجوز القبض على القاضي أو حبسه احتياطاً في غير حالة التلبس إلا بعد الحصول على إذن من مجلس القضاء الأعلى ليأذن باستمرار حبسه أو يأمر بإخلاء سبيله بضمان أو بغير ضمان.
3. لا يجوز رفع الدعوى الجزائية على القضاة إلا بإذن من مجلس القضاء الأعلى بناء على طلب النائب العام، ويعين مجلس القضاء الأعلى المحكمة التي تتولى محاكمة القاضي.
4. مع عدم الإخلال بما للقضاء من استقلال فيما يصدر عنه من أحكام أو قرارات يكون لوزير العدل حق الإشراف الإداري والمالي والتنظيمي على جميع المحاكم والقضاة، ولرئيس كل محكمة حق الإشراف على القضاة التابعين له، وللنائب العام حق الإشراف على أعضاء النيابة العامة على ضوء القوانين والقرارات التي تنظم ذلك.
ضمانات تخص مؤسسة القضاء
3)- استقلال مؤسسة القضاء:
بالرغم من أن السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية في دولة المدينة، كانت موحدة وغير منفصلة، حيث لم يظهر مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث الإ حديثاً، فإننا نجد فكرة استقلال السلطة القضائية في منهج الإمام علي (عليه السلام)، من خلال ممارساته القضائية عند تأمينه الأمن الوظيفي والاقتصادي للقضاة، فأكسبهم بذلك الحصانة وضمان عدم عقاب السلطة التنفيذية لهم. غير أن القضاة بالرغم من كل أسباب الوقاية التي كفلها لهم الإمام (عليه السلام) في عهده، حيث أجاز للسلطة العليا مراقبتهم والنظر في أحكامهم ومراجعتها في ضوء العقل والوجدان. فجاء في عهده: «ثم أكثر تعاهد قضائه»، أي تتبعه بالاستكشاف والتعرف على أفضل القضاة الذين تتوفر فيهم الشروط التي أشار إليها الإمام (عليه السلام) في عهده. فقد كان يمارس الإشراف المباشر على عمل القضاة بنفسه؛ ونظراً لمــا يحــظى به الجــهاز القـضائي من موقــع ممـتاز فــي إصــلاح شــؤون المجتمع، فقد كان يحرص على ممارسة القضاء والفصل في القضايا من خلال موقع أطلق عليه (دكة القضاء) بالرغم مما عليه من مهام ومسؤوليات، وهذه الرقابة العليا هامة لعمل القضاء وإرساء العدالة وتطبق اليوم بما يسمى الطعن بالاستئناف والطعن بالمحكمة العليا، كما يمنح رئيس الدولة حق الإشراف الإجرائي على القضاء في القوانين والدساتير الحالية، والرقابة الدقيقة للإمام علي (عليه السلام) بهذه المواصفات للقضاء لا تتعارض مع استقلال القضاء، بل تعد عاملاً مساعداً في دعم هذا الاستقلال؛ لأن هذه الرقابة، تهدف إلى التأكيد على تقويم الجانب الأخلاقي والسلوكي للقاضي وتضمن عدم انحرافه واستقلاله للحرية الممنوحة له، والسلطة دون رقابة تؤدي إلى الحماقة.
يعد استقلال السلطة القضائية من الأسس المهمة التي يستند إليها النظام القضائي والذي أقرته غالبية التشريعات المعاصرة، ويقصد به أن لكل من السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وظيفة تختلف عن الأخرى ولا يجوز التداخل بين هذه الوظائف، وإلا فإن التوازن المنظم للمجتمع سوف يختل، ويترتب على هذا الاستقلال عدم جواز نقل القاضي أو عزلة، واستناداً للرقابة التي فرضها الإمام (عليه السلام) على القضاء، فإن القاضي إذا خرج عن حدود الضوابط التي رسمها الإمام له في رسالته، فإنه يجوز لولي الأمر أن يتدخل ويعزل هذا القاضي عند ظهور فساده أو انحرافه، ونتفق مع الرأي الراجح في الفقه الإسلامي والذي اعتمده الإمام (عليه السلام) في ممارساته القضائية بعدم جواز عزل القاضي من قبل ولي الأمر، إلا إذا كانت هناك أسباب مسوغة ومشروعة تجيز هذا العزل، وقد عزل الإمام (عليه السلام) أبا الأسود الدولي لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة، كذلك للقضاة استقلاليتهم ولا يجوز لأحد أن ينقض حكمهم، أو يلغي مسار المرافعات ما دام حكمهم موافقاً للشرع الحنيف، فقد أكدت النصوص الفقهية على أنّه: «لا يجوز الترافع إلى حاكم آخر بعد حكم الحاكم الأول، ولا يجوز للآخر نقض حكم الأول إلاّ إذا لم يكن الحاكم الأول واجداً للشرائط، أو كان حكمه مخالفاً لما ثبت قطعاً من الكتاب والسنة».
وأول من نادى بمبدأ الفصل بين السلطات هو العالم الفرنسي مونتسكيو[22]، حيث يرى مونتسكيو أن السلطات تنقسم إلى ثلاث، وهي: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وأن عدم فصل السلطة القضائية عن السلطة التشريعية أو التنفيذية يؤدي إلى عدم توافر الحرية، ففي حالة اندماج السلطة القضائية بالسلطة التشريعية فإن حياة الرعية وحريتها ستتعرضان للتحكم الانحيازي؛ لأن القاضي حينئذ سوف يكون هو المشرع، أما في حالة اندماج السلطة القضائية بالسلطة التنفيذية، فإن القاضي يمكن أن يتصرف بعنف وظلم، وأن جميع السلطات الثلاث بيد رجل واحد أو جهة واحدة يؤدي إلى نهاية كل شيء، سواء كان هذا الشخص من الشعب أم من النبلاء.
وأول تطبيق لمبدأ الفصل بين السلطات واستقلال السلطة القضائية هو إعلان فرجينيا للحقوق في عام 1776م، حيث جاء في البند الخامس من هذا الإعلان «يجب أن تكون السلطتان التشريعية والتنفيذية للولاية مستقلتين ومنفصلتين عن القضائية»، ثم أصدرت بقية الولايات الأمريكية إعلانات مشابهة لإعلان فرجينيا وفي خطابه أمام برلمان نيويورك لإقناعهم بتبني الدستور، ذكر الكسندر هملتون أنه: «لا توجد حرية إذا كانت سلطة القضاء غير مفصولة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية .. إن الاستقلال الكامل للمحاكم ضروري».
ثم أدخلت مواد هذا الإعلان كتعديل على الدستور الأمريكي في عام 1789م، وصدق من قبل الولايات في عام 1791م.
وبتاريخ 26 أغسطس 1789م وافقت الجمعية الوطنية الفرنسية على إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي كتبه ماركوس دو لافاييت، الذي يعتبر الصديق الشخصي لجيفرسون السفير الأمريكي في فرنسا الذي أصبح فيما بعد رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
ويؤكد الدستور وقانون السلطة القضائية باليمن رقم (1) لسنة (1991م) على أن” القضاء سلطة مستقلة في أداء مهامه والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية جهة وبأية صورة التدخل في القضايا أو في شأن من شئون العدالة ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط الدعوى فيها بالتقادم».
إن استقلال القضاء هدف ثابت وحتمي لتحقيق العدالة في المجتمع فرضته طبيعة العمل القضائي ذاته وفرضته إرادة الشعوب الحرة؛ تجسيداً لمثلها العليا في العدل وضبطاً لحركتها نحو تحقيق أهدافها في الحياة الكريمة، فإن لم يكن القضاء مستقلاً، فلا يمكن أن تكون هناك عدالة، وإذا كان العدل هو أساس الحكم فإن استقلال القضاء هو أساس العدل، وبالرغم من أن التشريعات المعاصرة نصت على استقلال السلطة القضائية، إلا أن هذا الاستقلال في العديد من هذه الدول، مقيد ولا وجود له في الواقع، فلا تزال السلطة القضائية، تحت هيمنة السلطة التنفيذية والتشريعية، فالقانون أعطى الحق للسلطة التنفيذية، أن تقوم بعزل القاضي، فمثلاً نصت المادة (58) من قانون التنظيم القضائي العراقي رقم (160) لسنة 1979م، على: «إنهاء خدمة القاضي إذا ثبت عدم أهليته في الاستمرار في الخدمة القضائية».
والدستور اليمني نص على مبدأ استقلال القضاء وعدم جواز التدخل في سير العدالة في المادة 149: «القضاء سلطة مستقلة قضائياً ومالياً وإدارياً والنيابة العامة هيئة من هيئاته، وتتولى المحاكم الفصل في جميع المنازعات والجرائم، والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية جهة وبأية صورة التدخل في القضايا أو في شأن من شئون العدالة، ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون، ولا تسقط الدعوى فيها بالتقادم»، ويؤكد هذا قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة (1991م) على أن القضاء سلطة مستقلة في أداء مهامه والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية جهة وبأية صورة التدخل في القضايا أو في شأن من شئون العدالة ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط الدعوى فيها بالتقادم[23].
وتنبع أهمية استقلال القضاء من التالـي:
- استقلال القضـاء ضمان أساسي لحريات المواطنين وحقوقهم.
- استقلال القضـاء ضرورة لحماية سيادة القانون.
- استقلال القضـاء يكسب الناس الثقة في نزاهة القضاء وفي شرعية النظام السياسي.
وكي يقوم القضاء بمهامه وواجباته أوجد العديد من المحاكم التي يناط بها تحقيق العدل بين الناس والجهات المختلفة.
وضماناً لنزاهة واستقلال القضاء حظر قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة (1991م) على القضاة مزاولة التجارة، ومنع الجمع بين وظيفة القضاء وأي وظيفة أخرى أو أي عمل لا يتفق مع واجبات القاضي واستقلال وكرامة القضاء
ويجب على كل من يتولى وظيفة من وظائف السلطة القضائية قبل مباشرته لأعماله أن يقدم كشفاً بما يملكه من مال وعقار ويراجع من قبل جهة الاختصاص في مجلس القضاء الأعلى بصورة سنويـة.
كمـا يحظر القانون على القضاة إفشاء سر المداولات ويجب على كل من يتولى وظيفة من وظائف السلطة القضائية قبل مباشرته لأعماله أن يحلف اليمين التالية:
«أقسم بالله العظيم أن أكون متمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله وأن احترم الدستور والقانون، وأن أحكم بين الناس بالعدل وأن أحرص على شرف القضاء وعلى مصالح الشعب، وأتصرف في كل أعمالي وفقاً لما تقتضيه واجبات القاضي والله على ما أقول شهيد».
ويحلف رئيـس وقضـاة المحكمـة العليـا والنائـب العـام أمام رئيس الجمهورية بحضور وزير العدل، أما باقي القضاة فيحلفون أمام رئيس المحكمة العليا بحضور رئيس وأعضاء إحدى دوائرها كما يؤدي أعضاء النيابة العامة الآخرون اليمين أمام وزير العدل بحضور النائب العام.
4- حق الاستئناف (درجـات التقاضي):
حق (الاستئناف) تمييز الأحكام: حكم القاضي صحيح ونافذ طالما والقاضي يحكم بكتاب الله، وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالروايات الصحيحة المنقولة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) والصحابة الأخيار فهو قاض شرعي يعتبر بمثابة القاضي الذي نصبه الإمام، فحكمه نافذ وصحيح، وهذا الأمر يشمل الفقيه المجتهد القادر على معرفة أحكام الله تعالى، فهو الحاكم والقاضي وحتى إن كان غير مجتهد، فيجب أن يكون مطلعاً على أحكام الله، ومخولاً من قبل الفقيه المجتهد.
هناك نوعان من الأحكام يجوز للمترافع أن يميزها إلى السلطة القضائية العليا، المتمثلة بالنبي (صلى الله عليه وآله) وفي يومنا هذا تسمى (محكمة التمييز) أو المحكمة العليا أو الاستئنافية والتي يكون لها الحق في النظر في الحكم الصادر من المحكمة الابتدائية:
1- إذا كان الحكم مخالفاً لكتاب الله، وسنة رسوله، والقوانين الإسلاميّة الثابتة في الكتاب، والسنة، ففي هذه الحالة من حق المتداعين تمييز هذا الحكم.
2- إذا كان القاضي لا تتوفر فيه الشروط المرعية في تولي القضاء، من قبيل العدالة، والعقل، والبلوغ ... الخ، من الشروط الأخرى، أو كان مشهوراً بالجور والظلم، ففي هذه الحالة يكون للمتداعين الحق في تمييز حكم هذا القاضي.
فعن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام)، قال : «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من حكم في درهمين بحكم جور، ثم جبر عليه كان من أهل هذه الآية: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة:44] فقلت: يا ابن رسول الله، وكيف يجبر عليه؟ قال: يكون له سوط، وسجن، فيحكم عليه، فإن رضي بحكومته وإلاّ ضربه بسوطه، وحبسه في سجنه).
وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) «أنّه لما استقضى شريحاً، اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتّى يرفعه إليه»،
وهذا هو حق ولي الأمر، فله الحق بالاطلاع على الحكم وتمييزه، وهنا يتضح: أن الحكم إذا كان مخالفاً للكتاب، والسنة فيجوز حينئذ تمييزه ونقضه، أما إذا كان مطابقاً للكتاب، والسنة، وكان القاضي تتوفر فيه الشروط الشرعية، فلا يجوز نقضه، وتبديله حتّى وإن استجدت فيه بعد زمن أمور أخرى، كما جاء ذلك في حديث نقله الشيخ المفيد (رحمه الله) في أماليه عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «وكان علي يقول: لو اختصم إليّ رجلان فقضيت بينهما ثم مكثا أحوالاً كثيرة، ثم أتياني في ذلك الأمر لقضيت بينهما قضاءً واحداً؛ لأن القضاء لا يحول ولا يزول أبداً»، وهذه هي (الثبوتية في أحكام القضاء الإسلامي)، فأحكامه ثابتة، ومستقرة ما دامت موافقة لما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) وليست صادرة عن غير ذلك فقد نهى الإسلام عن أن يحكم القاضي برأيه وبالقياس نابذاً كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله)، فعن جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الحكم بالرأي والقياس»، ونقل الشهيد الثاني (رض) في منية المريد: عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (من أفتى بفتيا من غير تثبت (علم) فإنما إثمه على من أفتاه)، فكل حكم وكل حادثة لها حل في الشريعة الإسلاميّة بحيث لم تترك قضية واحدة إلاّ أعطت فيها الرأي المناسب، وهذه هي عظمة القوانين الإسلاميّة، فعن جعفر بن محمّد (عليه السلام): «أنّه سئل عما يقضي به القاضي قال: بالكتاب، قيل: فما لم يكن في الكتاب، قال: بالسنة، قيل: فما لم يكن في الكتاب، ولا في السنة، قال: ليس من شيء هو من دين الله، إلاّ وهو في الكتاب، والسنة، قد أكمل الله الدين، فقال جل ذكره: (اليوم أكملت لكم دينكم) [المائدة:3]، ثم قال (عليه السلام): «يوفق الله ويسدد لذلك من شاء من خلقه، وليس كما تظنون» والإمام (عليه السلام) يعني بالعبارة الأخيرة أن الله يوفق عباده المخلصين للاجتهاد في الشريعة، واستنباط الأحكام من مظانها الأصلية بحيث يعطون الأحكام المناسبة لمستحدثات المسائل المستجدة بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد أغنت أحاديث، وممارسات الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) المكتبة الإسلاميّة، وأعطت لكل واقعة حلَّاً ولا يمكن لأحد أن يخالف ما سنّهُ الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) والذين هم أقضي المسلمين عموماً، فعن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل أنّه قال لأبي ليلى: «... ألم يبلغك قوله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: (أقضاكم علي)؟ قال: نعم، قال: فإذا خالفت قوله: ألم تخالف قول رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ ... الخ الحديث، فإن الإسلام قد حذر القاضي من أن يخطئ حكم الله، فكيف به، وهو يخالف هذا الحكم، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (من حكم في قيمة عشرة دراهم فأخطأ حكم الله جاء يوم القيامة مغلولة يده، ومن أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء، وملائكة الأرض)، وهذه الأحاديث إن دلت على شيء فإنما تدل على كبر وعظم مسؤولية القضاء، وخطورته في المجتمع ككل.
وهنا نجد أهمية تحديد عدد من الأحكام أقدرها بعشرة كحد أقصى لكل قاض إن تم نقضها من قبل المحكمة الأعلى يعزل القاضي من وظيفة القضاء، وهو ما لم يذكره التشريع اليمني والعراقي اليوم، إلا أن عدداً من التشريعات المتقدمة في مجال القضاء قد وضعت هذا النص الهام جداً.
5)- المحاكم الخاصة بأهل الذمة:
لقد أعطى الإسلام الحرية التامة لأهل الذمة من اليهود، والنصارى في أن يتحاكموا فيما بينهم طبقاً لشريعتهم، ولا يتدخل القضاء الإسلامي في ذلك ولا يعترض على أحكامهم، ولكن إذا أراد الذمي أن يترافع في محاكم المسلمين، فله الحق في ذلك، ويحكم له القاضي المسلم وفقاً للشريعة الإسلاميّة، لا وفقاً لشريعته، فعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه قال : «إذا ترافع إلى القاضي أهل الكتاب، قضى بينهم بما أنزل الله جل وعز، كما قال تبارك اسمه»، بل إن الإسلام أمر القاضي أن يقبل دعوى الكتابي في إهراق خمره، أو قتل خنزيره من قبل المسلم؛ لأن الخمر والخنزير يملكهما الكتابي، وهما من الأمور المباحة لديه، أما القضاء الإسلامي، فلا يقبل دعوى المسلم على الغير في هاتين القضيتين؛ لأن الإسلام قد حرم الخمر، والخنزير عليه، وهذه هي منتهى حقوق الإنسان في الشريعة الإسلاميّة كما أكدته لنا النصوص الفقهية التالية: «يعتبر في سماع الدعوى أن يكون متعلقها أمراً سائغاً، ومشروعاً، فلا تسمع دعوى المسلم على آخر في ذمته خمراً، أو خنزيراً، أو ما شاكلها».
6)- وحدة الأحكام القضائية:
الأصل في القضاء الإسلامي عدم جواز اختلافهم في إصدار الأحكام القضائية، بل لابد من وحدة الرؤية فيها ومن مطابقة الحقيقة القضائية للحقيقة الواقعية، على قدر الإمكان. وأحكام الإمام (عليه السلام)، هي أحكام مطابقة للحق وهي أحكام ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان؛ لأنه يستقي علومه وقضاءه من العلم الإلهي، وبهذا الصدد يشير الإمام (عليه السلام) بقوله: «لو اختصم إليّ رجلان، فقضيت بينهما ثم مكثا أحوالاً كثيرة ثم أتياني في ذلك الأمر لقضيت بينهما قضاءً واحداً؛ لأن القضاء لا يحول ولا يزول»، وبالتأكيد فإن هذا الحكم أمر يتفرد به الإمام (عليه السلام) وحده؛ لأن الحقيقة القضائية عنده، تكون دائماً مطابقة للحقيقة الواقعية، أما الحقيقة القضائية عند القضاة العاديين فإن الأحكام التي يصدرونها بعيدة من أن تكون محل يقين مطلق، وإنما قناعتهم بها تبنى في الأساس على احتمال قوي بقدر الإمكان، يكفي للإقرار بوجود الحق المدعى به، إذ أن من المسلم به أن القاضي يستند على أدلة إثبات لا تؤدي مهما كانت قوتها إلى حقيقة يقينية، بل مجرد احتمال أن يقتنع به القاضي على أنه الوضع الأرجح والأقرب إلى الواقع، فالحقيقة القضائية، قد لا تكون مطابقة للحقيقة الواقعية في بعض الأحيان.
وقد كان الإمام (عليه السلام) يجمع القضاة والفقهاء بين حين وآخر ليوحد الأسس التي يقوم عليها الأحكام في كافة أرجاء دولته، ويجعل كلا من القضاة على علم واسع بما إليه الاجتهاد وكان (عليه السلام) يقول: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام، فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه»، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً.
وعلى حد تعبير الأستاذ الفرنسي (هنري كابيتان): «إن المحاكم أقامت شيئاً فشيئاً بناء خاصاً من القواعد القانونية وفقهاً يكمل ويثري العمل التشريعي، وبغير هذه الثروة الدائمة من قضاء المحاكم، تشيخ القوانين ويلحقها الذبول». وعليه فإن اطلاع الفقه القانوني على أحكام المحاكم والتعليق عليها، يعزز من رصانتها العلمية ومن الوصول إلى الحقيقة الواقعية.
والتشريعات الحديثة تعمل على أن يكون الأصل إصدار أحكام قضائية موحدة؛ ولذلك نظمت هذه التشريعات التقاضي على درجتين وجعلته من الأسس المهمة التي يستند إليها القضاء، ومقتضى هذا النظام أن للخصوم الحق في إعادة طرح النزاع بعد الحكم به مرة أخرى على محكمة أعلى درجة لإعادة النظر في قضاء المحكمة التي أصدرت الحكم فيه وتصحيح الأحكام لاحتمال وقوع خطأ فيها، وبذلك تحقق رقابة قضائية ذاتية للمحكمة الأعلى على المحكمة الأدنى، مما يجعل حكم المحكمة الأخيرة أكثر دقة بدراسة موضوع الدعوى والتدقيق فيها للوصول إلى العدالة ووحدة الأحكام وهذا ما أشار إليه الإمام (عليه السلام) بقوله السابق، فالإمام هو المحكمة العليا التي تصحح الأخطاء التي يقع فيها القضاة.
7)- القضـاء وحـدة متكـاملة في التشريع اليمني:
أخذاً بمبدأ وحدة القضاء استنادا إلى المادة (148) من الدستور والتي تنص على أن «القضاء وحدة متكاملة ويرتب القانون الجهات القضائية ودرجاتها ويحدد اختصاصاتها... «، فلا يجوز فصل موظفي القضاء عن القضاة؛ لأن في هذا تجزءة ما لا يجوز تجزءته، ويحقق استقلال القضاء، عملاً بنص الدستور على أن القضاء سلطة مستقلة قضائياً ومالياً وإدارياً والنيابة العامة هيئة من هيئاته، وتتولى المحاكم الفصل في جميع المنازعات والجرائم، والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية جهة وبأية صورة التدخل في القضايا أو في شأن من شئون العدالة ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون، ولا تسقط الدعوى فيها بالتقادم، ولا يغيب عن البال أن المقصود بالاستقلالية هي الاستقلالية الكاملة بما فيها الاستقلالية الوظيفية، وذلك حتى لا تخضع المحكمة لأي تأثير.
يؤكد قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة (1991م)، على أن القضاء سلطة مستقلة في أداء مهامه، والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية جهة وبأية صورة التدخل في القضايا أو في شأن من شئون العدالة ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط الدعوى فيها بالتقادم.
الفرع الثالث
ضمانات تختص بحقوق المتقاضين (الإجراءات)
هناك عدد من المبادئ التي تعد ضمانات تتعلق بحقوق المتقاضين وحسن سير العدالة، أكدتها التشريعات المعاصرة اليوم، منها التشريع اليمني والعراقي في القوانين الإجرائية المدنية والجزائية، إلا أن السبق في وضع هذه المبادئ كان للإمام علي (عليه السلام)، منها:ـ
1- حق المساواة بين الخصوم أمام القضاء:
جعل منها الإمام علي (عليه السلام) المساواة بين الخصوم قاعدة أساسية في القضاء، فلا يجوز الانحراف عنها، فالناس أمام القضاء متساوون وحق اللجوء للقضاء مضمون للجميع ودون أن يكون هناك أي تمييز بينهم بسبب اللغة أو الجنس أو اللون أو الدين، وتجلت هذه المساواة بأبهى صورة لها في عهد الإمام علي (عليه السلام) عندما شدد على وجوب التساوي بين الخصمين في النظر والكلام والسلام، ولقد عزل الإمام علي (عليه السلام) أبا الأسود الدؤلي عن القضاء لما بلغه أن صوته علا على صوت الخصم، فقال له: «لم عزلتني وما خنت وما جنيت؟ فقال الإمام (عليه السلام): إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك».
2- حق الدفــاع والمواجهة:
حق الدفاع من الأسس المهمة التي يستند عليها نظام التقاضي في التشريعات المعاصرة، إذ أعطت هذه التشريعات للخصوم حق الدفاع أمام القضاء سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم في الدعوى. واشترطت حضورهم عند اتخاذ الإجراءات القانونية في مواجهة الخصوم، لكي يحيطوا علماً بكل هذه الإجراءات التي اتخذوها وإعطائهم الفرصة في الرد عليها، وقد حضر الإمام علي (عليه السلام) بنفسه إلى المحكمة للإجابة عن أسئلة القاضي الذي نصبه، وهو بهذا السلوك يدلل عملياً على الموقع الممتاز الذي يحظى به القضاء واستمد الإمام (عليه السلام) هذه المبادئ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أوجب على القاضي أن يسمع دعوى أطراف النزاع، فلا يحكم لأحد الخصمين دون أن يسمع كلام الآخر، وذلك عملاً بما رواه الإمام علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (يا علي إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقضي بينهما حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، فإنك إن فعلت ذلك تبين لك القضاء).
وطبق الإمام علي (عليه السلام) هذه القاعدة في القضية التي رُوي فيها «أن امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطؤها ليس ببعل لها، فأمر الخليفة عمر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت: اللهم إنك تعلم أني بريئة، فغضب الخليفة عمر، وقال: وتجرح الشهود أيضاً؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ردوها وأسالوها فلعل ّ لها عذراً، فردت، وسئلت عن حالها، فقالت: كان لأهلي إبل فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماءً، ولم يكن في إبل أهلي لبن، وخرج معي خليطنا وكان في إبله لبن، فنفد مائي، فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أمكنه من نفسي، فأبيت، فلما كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كُرهاً، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): الله اكبر (فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه) [البقرة:173]، فلما سمع ذلك عمر خلّى سبيلها» فالخليفة عمر أخذ بالعرف السائد في مثل هذه القضايا وهو اعتماد رأي الشهود مع وجود الدلائل التي توحي بأن المرأة قد ارتكبت جريمة الزنا، ورفض أن يسمع إلى حقها في الدفاع عن نفسها والطعن بشهادة الشهود، لكن مع تطبيق قاعدة حق الدفاع عن نفسها تغير الأمر الذي أثبت بأنها كانت مجبرة ولا توجد عقوبة على المضطر.
3- حق المحاماة في القضاء الإسلامي:
أجاز الإسلام للمتداعين انتخاب المحامين، والمدافعين، والوكلاء، كي يقوموا بواجب الدفاع، والحضور بدلاً عنهم، خاصة إذا كانوا بحاجة إليهم ولم يستطيعوا أن يباشروا هذا الأمر بأنفسهم، أو أنهم ليس لديهم الرغبة في الحضور لأمور شتى، أو لا يستطيعون البيان الواضح للدفاع عن مطالبهم، فقد أعطاهم القضاء الإسلامي كلّ الحق في انتخاب محام أو وكيل يتولى أمرهم كما أكدته لنا النصوص الفقهية فقد ذكر الشيخ الطوسي في النهاية في حديث طويل عن الإمام علي (عليه السلام) في قضية الرجل الأخرس الذي ترافع لديه (عليه السلام) فقال: «ائتوني بوليه، فأتي بأخ له فأقعده إلى جنبه...» الخ الحديث، كذلك نرى نصاً فقهياً آخر يقول: «إذا كان الموكل غائباً، وطالب وكيله الغريم بأداء ما عليه من حق، وادعى الغريم التسليم إلى الموكل، أو الإبراء، فإن أقام البينة على ذلك، فهو، والا فعليه أن يدفعه إلى الوكيل»، فإن كلمة الوكيل أو الولي تعني: المحامي الذي يتولى الدفاع عن الخصم أو الخصم الآخر، فمبدأ المحاماة مبدأ إسلامي لا غبار عليه ما دام المحامي يدافع عن الحق والصدق الظاهريين، أما حقيقة الأمرين فهو غير مسئول عنها.
4- من آداب القضاء الإسلامي:
يكشف لنا عهد الإمام علي لمالك لأشتر مما جعله الإسلام للقضاء آداباً، وسنناً في غاية الكمال، والرفعة منها:
أولاً: عدم جواز القضاء والحكم، والقاضي في حالة غضب، أو اضطراب، أو نعاس، حتّى لا تؤثر هذه الحالات النفسية على صحة الأحكام الصادرة عنه، فعن الإمام علي (عليه السلام)، أنّه قال لرفاعة: «لا تقض وأنت غضبان، ولا من النوم سكران».
ثانياً: المساواة بين الخصمين، وعدم جواز تلقين الشهود، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أنّه نهى أن يحابي القاضي أحد الخصمين، بكثرة النظر، وحضور الذهن، ونهى عن تلقين الشهود)، فالكل سواسية أمام القانون سواء الفقير أو الغني، أو السيد، أو المسود.
ثالثاً: لا يجوز للقاضي أن يحكم في القضايا دون سماع قول المتداعين، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه: (نهى أن يتكلم القاضي قبل أن يسمع قول الخصمين، يعني يتكلم بالحكم).
رابعاً: لا ينبغي للقاضي أن يقضي في بيته، فعن علي (عليه السلام): «أنّه بلغه أن شريحاً يقضي في بيته فقال: يا شريح، اجلس في المسجد، فإنه أعدل بين الناس، فإنه وهن بالقاضي أن يجلس في بيته»، وهذا دليل على أن مكان القضاء مكان مقدس، وطاهر، وحيادي.
خامساً: عدم رفع القاضي صوته على الخصم، فقد روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) ولى أبا الأسود الدؤلي القضاء ثم عزله، فقال له: لم عزلتني؟ وما خنت ولا جنيت! فقال (عليه السلام): «إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك».
سادساً: أن يقف المدعي عن يمين المدعى عليه، ففي فقه الرضا (عليه السلام): «فإذا تحاكمت إلى حاكم، فانظر أن تكون عن يمين خصمك» إلى أن قال: «فإذا ادعيا جميعاً، فالدعوى للذي على يمين خصمه».
سابعاً: لا يجوز أن ينزل أحد الخصمين ضيفاً على القاضي دون الخصم الآخر، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أنّه نهى أن ينزل الخصم على قاض)، ونزل رجل على علي (عليه السلام) بالكوفة فأضافه، ثم جاءه في خصومة، فقال له: «أخصم أنت؟ تحول عني، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى أن ينزل الخصم إلاّ ومعه خصمه».
وقد روى أحمد بن حنبل (رض)، وأبو داود والترمذي رواية مشابهة وهي: (أن علياً لما بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن قاضياً قال: يا رسول الله، بعثتني بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء، قال: فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صدري وقال: اللهم اهده وثبت لسانه، قال علي: فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين).
وعنه (عليه السلام) أن الرسول (صلى الله عليه وآله) قال: (يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتّى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء).
مما تقدم يتضح الشعور العميق لدى الإمام (عليه السلام) في مساواته الخصوم وإن هذا الخُلق العظيم هو مصدر كل قضاء أصيل وعادل.
5- حق تنفيذ الأحكام القضائية:
جاء في عهد الإمام علي: «أصرمهم عند اتضاح الحكم»، أي لابد للأحكام الصادرة عن القضاء الإسلامي من قوة تنفيذية قادرة على تنفيذها وتطبيقها، وإلا أصبحت قرارات القضاء الإسلامي حبراً على روق من دون تنفيذ، وبهذا تفقد هيبتها، ولا معنى لها، فقد أكدت النصوص الفقهية على ضرورة تنفيذ أحكام القضاء الإسلامي، وأعطت الحق كلّ الحق للقاضي في أن يستخدم القوة لتنفيذ أحكامه من قبيل إقامة الحدود، والقصاص، والتعزيرات، والحبس، والمصادرة، والبيع، وما شاكلها من الأحكام للقضايا المختلفة: «إذا حكم الحاكم بثبوت دين على شخص، وامتنع المحكوم عليه عن الوفاء جاز للحاكم حبسه، وإجباره على الأداء...».
الخـاتـمـة
اتضح بكل جلاء أن عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، قد وضع أسس التقاضي قبل أربعة عشر قرناً، وهو ما تفاخر به البشرية إلى يومنا هذا، وما تضمنه هذا العهد الذي يعد دستور حياة للبشرية جمعاء، وليس للمسلمين فقط؛ لذا يتوجب على كل المشرعين الدستورين والقانونيين في جميع الدول أن ينهلوا من تلك القواعد العظيمة والمبادئ الراسخة التي وضعها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في عصر كانت البشرية تعيش حالة من الجهل والتخلف في مختلف الجوانب.
يعد ما تضمنه عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى مالك الأشتر في مجال القضاء، من الوثائق المهمة لإرساء مداميك وقواعد القضاء العادل وأسس التقاضي، التي استند إليها الفقهاء في تحديد صفات اختيار القاضي وشروطه وتحقيق العدالة والمساواة أمام القضاء والتي كانت معطلة بين الحكام والناس، فقد درج غالبية الحكام على تولية القضاء رجالاً ذوي صفات تستلزم مصالح هؤلاء الحكام، حتى إذا ما ساوى القانون بين طبقات الناس فإن القاضي يعطل هذه المساواة ويحكم بمصالح الحكام وأصحاب الامتيازات. ويشير الأستاذ جورج جرداق إلى أن تاريخ أوربا في القرون الوسطى، يفيض باختيار هذا النوع من القضاة، وكذلك تاريخ الشرق العربي أيام الأمويين والعباسيين والمماليك والأتراك وغيرهم، إذ أن الجرائم التي ارتكبها القضاة المنحرفون باسم العدالة، لما يخزي جبين الإنسانية وتستوجب اللعنة على رؤوس أولئك القضاة. إن استقلال القضاء هدف ثابت وحتمي لتحقيق العدالة في المجتمع فرضته طبيعة العمل القضائي ذاته وفرضته إرادة الشعوب الحرة تجسيداً لمثلها العليا في العدل وضبطاً لحركتها نحو تحقيق أهدافها في الحياة الكريمة، فإن لم يكن القضاء مستقلاً فلا يمكن أن تكون هناك عدالة وإذا كان العدل هو أساس الحكم فإن استقلال القضاء هو أساس العدل.
ولقد استطاع الإمام علي (عليه السلام) وضع مداميك السلطة القضائية، وإعلاء مكانتها من خلال تلك المبادئ والضمانات التي رفعت من شأنها ومنحتها الاستقلال، وحددت فيها أهم الشروط الواجب توافرها فيمن سيعمل بوظيفة القضاء، وأهم الصفات لمكارم الأخلاق التي يجب أن يتصف بها القاضي، كما شدد العهد على حقوق القضاة منها، المرتب الكافي الذي يطلبه القاضي كصك مفتوح كضمانة للاكتفاء المالي وضمانة الحصانة القضائية للقاضي، كما أرست مبدأ المساواة وأهم الإجراءات والحقوق مثل: حق المساواة، حق الدفاع، وحق المواجهة، وحق المحاماة، كما وضعت مبدأ استئناف الأحكام القضائية، ودرجات التقاضي.
وبهذا يكون للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، السبق في وضعه لنا أسس وقواعد نظام قضائي متميز، تتحقق به العدالة المنشودة للبشرية، حيث يعد هذا العهد من أهم الوثائق الإنسانية التي تكفل تحقيق العدالة وحقوق الإنسان وآلية تنفيذية لما تضمنه القرآن الكريم، ويتأكد لدينا أن هذا العهد له السبق الإنساني في هذا المجال، حيث تتجاوز مدته الألف والأربعمائة عام.
تعد رسالة القضاء للإمام علي (عليه السلام) من الرسائل الأصيلة، التي أرست الأسس التي يستند إليها النظام القضائي الإسلامي، فإن رسالة الإمام علي (عليه السلام) تعد من أكثر الرسائل أصالة وسعة في بناء هذا النظام. ولم نجده في غيرها، وأصبحت أفضلية هذه الرسالة من المسلمات التي لا يستطيع أحد إنكار حقيقتها. ولا يبدو ذلك الأمر غريباً؛ لأن النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) أكد على أن (أقضى أمتي علي). وقد أوضحت لنا رسالة الإمام علي (عليه السلام) الشروط والصفات التي يجب أن تتوفر في الشخص الذي تسند إليه وظيفة القضاء، وقدمت لنا الوسائل الكفيلة لضمان هذه الوظيفة والتقاضي أمامها.
- ولا شك أن البشرية قد استفادت أيما استفادة من عهد الإمام علي إلى مالك الأشتر ونجد مضامينه جاءت في العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي وقعت عليه الدول في عام 1966م، ودخل حيز التنفيذ في عام 1976م. ويتألف هذا العهد من ثلاث وخمسين مادة مقسمة إلى ستة أجزاء.
التوصيات:
- إعادة النظر في قانون السلطة القضائية النافذ وإضافة الركائز التي وردت في عهد الإمام علي لمالك الاشتر، على شكل نصوص قانونية واضحة وملزمة، منها توصية شرط مكارم الأخلاق وكفاءة الحكمة وسعة المدارك التي يجب أن يتحلى بها القاضي، وكذلك إدراج نص قانوني يُعطي القاضي راتباً مفتوحاً بما يكفيه في العيش بعيداً عن الفاقة والحاجة للآخرين، وهو ما أكده الإمام عندما أمر الأشتر أن يفسح للقاضي بالبذل.
- كما أوصي بتأكيد المكانة العالية لمؤسسة القضاء والقضاة التي شدد عليها الإمام في عهده من خلال تصحيح مبدأ الاستقلال للسلطة القضائية وللقاضي وتعزيز هذا المبدأ، بوضع نصوص جديدة بقانون السلطة القضائية النافذ.
- كما أوصي بإرساء مبدئي الثبوتية للأحكام القضائية في قانون السلطة القضائية وهذا المبدأ الذي أرساه الإمام علي (عليه السلام)، وهو مبدأ غائب في القانون اليمني والعراقي ونشدد هنا على إضافة نص في قانون السلطة القضائية وهو: «أن القاضي الذي تنقض المحكمة الأعلى خمسة من أحكامه، توجه له إنذاراً، ثم إذا وصلت الأحكام التي نقضتها المحكمة الأعلى إلى ثمانية أحكام يوجه إليه إنذار أخير ونهائي، أما إذا بلغت عشرة أحكام ألغيت من محكمة أعلى فإن هذا القاضي يتم عزلة من القضاء»، الأمر الذي سيعالج العديد من الاختلالات القائمة اليوم في مجال القضاء باليمن.
- إدراج عهد الإمام علي لمالك الأشتر ضمن المقررات الدراسية لطلاب كلية الشريعة والقانون والحقوق على مستوى الجمهورية بالجامعات الحكومية والخاصة، وكذلك طلاب المعهد العالي للقضاء.
- أوصي مجلس القضاء الأعلى بعقد عدد من الورش والدورات تهتم بمضامين عهد الإمام علي لمالك الأشتر في مجال القضاء والعدالة وحقوق الإنسان، وإعداد مشاريع تعديلات عدد من القوانين المرتبطة لإضافة نصوص قانونية تترجم هذه المبادئ الكبرى التي تضمنها العهد.
مــراجـــع البــحــث
1- دستور الجمهورية اليمنية- مجموعة التشريعات اليمنية- الكتاب الأول 2003م– مكتب النائب العام– صنعاء. الجمهورية اليمنية.
2- قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 1991م باليمن.
3- أ. د. عباس زبون العبودي- تأملات قانونية في رسالة القضاء للإمام علي (عليه السلام).
4- أ. د الشيخ مخلص أحمد الجدة- النظام القضائي في الإسلام.
5- ميشال ماي، دولة القانون. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، لبنان، 1982م.
6- د/ عثمان خليل عثمان ود/سليمان الطماوي، القانون الدستوري، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، 1950- 1951م.
7- مجلة الحقوق، السنة التاسعة، العدد الثاني، يونيو 1985م.
8- مصطفى أبو زيد فهمي، النظم السياسية والقانون الدستوري، دار المطبوعات الجديدة الإسكندرية (2000 ميلادية) الكتاب الثاني.
9- محاضر اجتماعات لجنة الدستور والمجلس التأسيسي، ملحق مجلة الحقوق، العدد الثالث، السنة الثالثة والعشرون، سبتمبر 1999، الطبعة الأولى محضر الجلسة السابعة (7) 22/5/1962م.
10- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، المجلد الأول– طبعة بيروت- دار المهدي- ط1منقحة 2004.
11- ابن فرحون (برهان الدين المالكي) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام طبع دار المعرفة– بيروت– دون سنة نشر.
12- أحمد الرحماني الهمداني– الإمام علي (عليه السلام) من حبه عنوان الصحيفة – ط1ـ منشورات التاريخ العربي– بيروت 2005.
13- د.آدم وهيب النداوي– المرافعات المدنية– طبع جامعة بغداد / كلية القانون 1988م.
14- الحائري السيد كاظم الحسيني– القضاء في الفقه الإسلامي– طبع مجمع الفكر الإسلامي 1423 هـ.
15- الشيخ محمد تقي التستري – قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) - طبع أهل الذكر – ط1 صفر 1426 هـ.
16- الشيخ المفيد محمد بن النعمان، المقنع في الأصول والفروع ـ سلسلة الينابيع الفقهيةـ طبع طهران 1406هـ.
17- د. شوكت عليان – الوجيز في الدعوى والأثبات في الشريعة الإسلامية. طبع بغداد 1978م.
18- الشيخ الطوسي (شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن)، الأمالي – طبع مؤسسة الوفاء ط2 1981.
19-الحلي (المحقق) أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن – شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام – طبع طهران الجزء الرابع ـ دون سنة نشر.
20- د، عبد الحميد متولي – مبادئ نظام الحكم في الإسلام – طبع الإسكندرية 1974م.
21ـ أحمد أمين ضحى الاسلام ج5، وقد اشتهر أكثم بن صيفي بأنه كان قاضي العرب يومئذٍ.
22- د/خالد محمد الجمعة – مبدأ استقلال القضاء في العهد الدولي – بحث منشور مجلة الحقوق جامعة الكويت العدد الأول مارس2008م الكويت.
23- تكملة منهاج الصالحين (الإمام الخوئي «رض») كتاب القضاء، الدر المختار : 4 / 309، الشرح الكبير: للدردير بحاشية الدسوقي، شرح الجامع الصحيح للإمام ابن عمرو الإباضي / ج 3 /، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام لمحمد حسن النجفي / ج 14.
24- الاختصاص للشيخ المفيد نقلاً عن / مستدرك الوسائل /ج 17، كتاب القضاء، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام لمحمد حسن النجفي /ج14/ البحار للمجلسي / ج 103.
25- العلامة الحلي– القواعد الفقهية سلسلة الينابيع الفقهية – ط- طهران 1406هـ.
26- نص عهد الإمام علي لمالك الأشتر، وانظر شرح أحكام قانون الإثبات.
27- التشريع العراقي في قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979م.
[1] الأستاذ جورج جرداق- الإمام علي صوت العدالة والإنسانية– المجلد الأول طبع ببيروت- دار المهدي الطبعة الأولى، منقحة 2004 ص82.
[2] أحمد أمين- ضحى الإسلام ص225، وقد اشتهر أكثم بن صيفي بأنه كان قاضي العرب يومئذٍ.
[3] د/ خالد محمد الجمعة– مبدأ استقلال القضاء في العهد الدولي– بحث منشور مجلة الحقوق جامعة الكويت– العدد الأول مارس2008م-دولة الكويت ص129.
[4] د/ خالد محمد الجمعة- مرجع سابق– ص 135.
[5] نجد الدستور اليمني لم يمنح السلطة القضائية سوى 6 مواد بالمقابل منح السلطة التشريعية 42 مادة، والسلطة التنفيذية 48 مادة.
[6] راجع دستور الجمهورية اليمنية- مجموعة التشريعات اليمنية- الكتاب الأول 2003م– مكتب النائب العام– صنعاء- الجمهورية اليمنية.
[7] تكملة منهاج الصالحين (الإمام الخوئي «رض») كتاب القضاء، الدر المختار: 4/ 309، الشرح الكبير: للدردير بحاشية الدسوقي، شرح الجامع الصحيح للإمام ابن عمرو الإباضي/ ج3 / ص241، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام لمحمد حسن النجفي/ ج 14 / ص6.
[8] الاختصاص للشيخ المفيد نقلاً عن مستدرك الوسائل/ ج17/ كتاب القضاء، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام لمحمد حسن النجفي /ج14 / ص 9، البحار للمجلسي/ ج103/ ص254.
[9] جورج جرداق– المرجع السابق ص354.
[10] د. عبد الحميد متولي– مبادئ نظام الحكم في الإسلام– الإسكندرية 1974م ص218.
[11] العلامة الحلي– القواعد الفقهية سلسلة الينابيع الفقهية– ط- طهران 1406هـ ص445.
[12] للمزيد من التفصيل راجع قوانين الإثبات والمرافعات في الدول العربية.
[13] راجع قانون السلطة القضائية باليمن والعراق.
[14] راجع الشروط المطلوبة ممن يتقدم للقضاء في التشريع اليمني والعراقي.
[15] راجع نص عهد الإمام علي لمالك الأشتر، وانظر شرح أحكام قانون الإثبات.
[16] وقد اعتبرت المادة (286) من قانون المرافعات المدنية العراقي النافذ قبول القاضي منفعة مادية لمحاباة أحد الخصوم من الأسباب التي تؤدي مسؤولية القاضي عن تعويض الخصوم عن الضرر الذي لحق بهم من جراء هذه المحاباة.
[17] المشرع اليمني في القانون رقم (1) لسنة 1991م، بشأن السلطة القضائية.
[18] التشريع العراقي في قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979م .
[19] وأجازت الفقرة الثانية المضافة إلى المادة الرابعة من القانون رقم (16) لسنة 1988م والمعدل لأحكام قانون التنظيم القضائي رقم (160) لسنة 1979م، تعيين المحامي قاضياً بمرسوم جمهوري إذا أمضى مدة ممارسة في مهنة المحاماة، لا تقل عن عشر سنوات ولم يتجاوز عمره الخامسة والأربعين استثناء من شرط التخرج في المعهد القضائي.
[20] دستور الجمهورية اليمنية.
[21] قانون السلطة القضائية باليمن.
[22] انظر على سبيل المثال: عثمان خليل عثمان وسليمان الطماوي، القانون الدستوري، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، 1950م- 1951م، صفحة 279-280، ولكن البعض يرى أن هناك العديد ممن نادى بهذا المبدأ وأولهم: أرسطو وجون لوك، انظر: عدنان حمودي الجليل، مبدأ الفصل بين السلطات وحقيقة أفكار مونتسكيو، مجلة الحقوق، السنة التاسعة، العدد الثاني، يونيو 1985م، صفحة 101.
[23] المادة 1 من قانون السلطة القضائية اليمني النافذ.