المسؤولية الجنائية للمجنون ومن في حكمه ((دراسة تحليلية تطبيقية للقانون والواقع اليمني))

القاضي. الدكتور/ صالح عبدالله المرفدي قاض بمحكمة النقض

11/1/2024

يمكنك تنزيل الدراسة من هنا

مقدمة

الأصل في القانون الجنائي، أن كل شخص سليم العقل قادر على التمييز، يُعدّ مسؤولاً شخصيًا عن الجرائم التي ارتكبها. وهذا ما نادت به المدرسة التقليدية، التي قالت بحرية الاختيار كأساس للمسؤولية الجنائية، أي أن الشخص لا يسأل إلا عن الأفعال التي أتاها عن بينة واختيار، فمناط المسؤولية الجنائية هو القدرة على التمييز، ومعنى ذلك، أن كل شخص قادر على التمييز، يُعدّ مسؤولاً شخصيًا عن الجرائم التي ارتكبها، والشخص لا يمكن أن يكون قادرًا على التمييز، إلا إذا كان سليم العقل خاليًا من أي اضطراب قد يؤثر على وجدانه أو أحاسيسه أو أفكاره أو سلوكه.

ولقد لوحظ في الفترة الاخيرة انتشار ارتكاب بعض الجرائم- أبرزها القتل- الذي يشتبه فيها بإصابة بعض المتهمين بالأمراض العقلية أو النفسية أو العصبية، فبدءاً من جريمة القتل في مركز توب سنتر التجاري (بالمنصورة)، ومرورًا بجريمة الشروع في قتل طالبة بالقرب من كلية الآداب بمدينة (خورمكسر)، وانتهاءً باختطاف طفلة لا تتجاوز السنتين في مدينة (كريتر)، حيث ثارت بعض الإشكاليات في هذه الجرائم، حول موضوع شبهة إصابة الجناة بالأمراض العقلية أو النفسية أو العصبية. ومن هذا المنطلق، فإن مدلول المسؤولية الجنائية يدلّ على صلاحية الشخص على أن يتحمل تبعات سلوكه الذى قد يشكّل جريمة، وأساس المسؤولية الجنائية لدى الفكر الجنائي الحديث، هي حرية الإنسان في الاختيار، فقد كان في وسعه أن يكون خيرًا، ولكنه تخلّى عن الطريق السوى وسلك الطريق المعوج، فحق عليه العقاب، وبالتالي لا تنتفى المسؤولية عنه، إلا إذا فقد الشخص قدرته على الإدراك والاختيار.

أهمية الدراسة:

في هذا الإطار، تكمن أهمية دراسة المسؤولية الجنائية للمجنون ومن في حكمة من المصابين بالأمراض العقلية أو النفسية أو العصبية. وعلى حد علمي المتواضع، لم يتم بحث هذا الموضوع الخاص وبشكل دقيق ومعمّق في كتب وشروحات القانون اليمني، وانما جاء التطرق له في مؤلفات عامة وبشكل مقتضب، دون أن تتم الإحاطة بأهم المشكلات التشريعية والعملية التي تثيرها على أرض الواقع، بحيث لم يتم تحليل النصوص القانونية المتعلقة بالمسؤولية الجزائية للمجنون ومن في حكمه، ولمعرفة أهم العيوب والثغرات والقصور في تلك النصوص، وبيان عللها وصولاً لوضع المقترحات المناسبة لمعالجتها.

تساؤلات الدراسة:

واستنادًا لما سبق ذكره، وعند ارتكاب الجرائم الوحشية أو البشعة، دائماً ما تثور التساؤلات وأبرزها: هل هذا الجاني مجنون أم مريض نفسي أم عصبي؟! وهل جميع الأمراض العقلية والنفسية والعصبية مانعة للمسؤولية الجنائية أم مخففة للعقاب؟؟ وهل الضابط والمعيار لمنع المسؤولية الجنائية أو تخفيف العقاب راجع لنوع المرض نفسه، أم لدرجة تأثيره على الوعي والإدراك للأفعال والسلوكيات؟ وكيف يتم التعامل مع الجاني المصاب بشبهة المرض العقلي أو النفسي أو العصبي أثناء إجراءات التحقيق والمحاكمة وتنفيذ الحكم؟؟ وما هو موقف المشرّع اليمني لكل ما تقدم من أسئلة واستفسارات؟

خطة الدراسة:

وفي هذا المقام، وللإجابة على جميع ما تقدم من استفسارات وتساؤلات، ندرس موضوع المسؤولية الجنائية للمجنون ومن في حكمه عن الجريمة في القانون اليمني، وذلك في أربعة محاور: نتناول في الأول ماهية وأنواع الأمراض المانعة والمخففة للعقاب، ونستعرض في المحور الثاني التحليل القانوني والطبي للنص التشريعي اليمني، ونتحدث في الثالث عن مدى تـأثير المصاب بالجنون ومن في حكمه على مراحل نظر الدعوى الجزائية، ونخصص المحور الرابع لإشكالات التطبيق القضائي لموضوع البحث، ونختم الدراسة بوضع بعض المقترحات والتوصيات المتواضعة قدر الإمكان.

 

المحور الأول 
ماهية وأنواع الأمراض المانعة والمخففة للعقوبة

ولدراسة هذا المحور بشكل مفصّل نقسمه إلى فرعين: نتناول في الأول الأمراض المانعة للمسؤولية الجنائية أو المانعة للعقاب، ونخصص الفرع الثاني للأمراض التي تقام فيها المسؤولية الجنائية، ويجاز فيها تخفيف العقوبة.

الفرع الأول 
الأمراض المانعة للعقوبة

- أولاً: الخلل العقلي (الجنون) madness

ويقصد به المرض العقلي، والأمراض العقلية عديدة ومتنوعة، وللجنون درجات، فهو ليس على درجة واحدة، فيختلف من شخص إلى آخر، فقد يكون مطبقًا مستمرًا، وقد يكون دوريًا متقطعًا، وقد يكون جنوناً جزئيًا. ومن الواضح من خلال نص المادة (33- عقوبات)، أن المشرع اليمني لم يضع تعريفًا للجنون، ولو نظرنا للتعاريف الطبية للجنون بمعناه العام فهو: »زوال العقل أو ضعفه، بحيث يصعب التمييز بين الأفعال والأقوال، فيصبح الشخص عاجزًا عن التحكم في تصرفاته بصورة سليمة«، وبتعبير أدق وبعبارة بسيطة ومفهومه: «هو عدم قدرة الشخص على الانسجام والشعور بما يحيط به».

وفي الإجمال، مهما اختلفت التسميات بين الطب والقانون وبين النصوص التشريعية فيما بينها، إلا أن مصطلح الجنون واسع جدًا في علم القانون أكثر منه في علم الطب؛ فكلمة الجنون في علم الطب تعني الزوال الكامل للقوى العقلية الناجم عن مرض ما، أما في القانون فيعني الاختلال العقلي بكل أنواعه وأشكاله، والتي قد تصيب الجاني لحظة ارتكابه للجريمة، وتجعله فاقدًا للإدراك والوعي في تصرفاته وسلوكه وأفعاله. ومن الملاحظ أن المشرع اليمني ومن خلال نص المادة السابق (33)، أضاف إلى لفظ الجنون عبارة (أو العاهة العقلية)، وبالعودة إلى علم الطب، نجد أن هذه العبارة ذات مدلول واسع جدًا، فيشمل كل الآفات العقلية التي تصيب وظيفة العقل.. الأمر الذي يقودنا إلى تساؤل مفاده: هل يعني هذا أن جميع المصابين بالعاهات العقلية تمتنع عنهم المسؤولية الجزائية كالمعتوه والأبله، وهي أمراض تفقد بعض العقل والبعض الآخر لا يفقد ولا يزيل العقل تمامًا؟؟ مع التنويه إلى أننا سنجيب على هذا التساؤل في البند التالي.

- ثانياً: الاضطرابات العقلية المستقرة (العاهة العقلية)

وهي تلك الاضطرابات الدائمة المصاحبة للشخص منذ ولادته، ويطلق عليها بالتخلّف العقلي: «وهي حالة تصاحب الشخص منذ ولادته، فتوقف ملكاته الذهنية عند حد معين دون مستوى النضج الطبيعي للعقل»، وللتخلف العقلي عدة تسميات منها النقص العقلي والقصور العقلي، وكل هذه التسميات صحيحة من حيث توجهها إلى وصف معين من التخلف العقلي؛ وقد صنّف التخلف العقلي في القانوٍن إلى نوعين:

1 - أمراض العَتَه :idiocy

ويتعلق بالأشخاص الذين لهم ذكاء الجنون، ويقصد به أيضاً عدم تكامل نمو القوى العقلية، سواءً كان ملازماً للشخص منذ والدته، أم توقف نمو إداركه في سن معينة، فلا يظهر على المعتوه أية قدرة على التفكير أو تقبل المعرفة، فيتعلم الكلام أو المشي متأخرًا، وقد لا يتعلم إطلاقاً.

2 - أمراض البله :imbecility 

ويعتبر البله أشّد درجة من درجات التخلف العقلي ولكنه أقل درجة من المعتوه، وقد يًتراوح ذكاء الشخص المصاب بالبله ما بين 25 و50 درجة، وعمره العقلي أقل من 3 سنوات عن الطبيعي، ويستطيع المصاب بالبله أن يتعلم الكلام، إلا أن نطقه متعسّر، لذلك يعد تخلّفه من النوع المتوسط، ولكنه لا يستطيع العيش بمفرده، وقد يظهر عليه حب الاستطلاع، ودائماً ما تكون انفعالاته غير ناضجة.

ومن خلال ما سبق ذكره، يمكن القول أن المصاب بالعته أو البله لا يتصور غالباً وجود خطورة إجرامية بداخله، وذلك لقصوره العقلي عن ارتكاب الجريمة، ومع ذلك فهما مصنفان بالأمراض المانعة للعقاب التي تقتضي ابتداء عدم مساءلتهما جنائيًا. ويجب الأخذ بالحسبان، أن مدلول ومفهوم العاهة العقلية لا يقتصر على الأمراض الوارد ذكرها سابقًا، بل يشمل كل مرض يؤثر في حالة المخ أو الجهاز العصبي بعد نموه نموًا طبيعيًا، وعلى وظيفتيهما تأثيرًا يصل إلى حد الفقدان أو النقص في ملكة الإدراك والوعي عند الشخص، بحيث لا يستطيع السيطرة على أفعاله بصورة دائمة أو مؤقتة، ووفقاً لهذا المفهوم، قد يشمل ذلك بعض الأمراض العصبية، كالصرع، أو الهستيريا، أو اليقظة النومية، أو التنويم المغناطيسي... كما سيأتي تفصيل ذلك في الفرع الثاني.

الفرع الثاني 
الأمراض المخففة للعقوبة

وتعتبر هذه الأمراض غير مانعة للمسؤولية الجنائية، فيساءل على أساسها الجاني، لكن التشريعات العقابية، توجب تخفيف العقوبة في بعض الأمراض، وتجيز تخفيفها في البعض الآخر من الأمراض، وهذه الأمراض هي:

- أولاً: الاضطرابات الذهانية النفسية

ويكون تأثيرها أعمق وأكثر خطورة على الشخصية، حيث يصاب فيها الشخص باضطرابات حادة في كافة الوظائف والعمليات العقلية، كالتفكير والإدراك، وأبرزها:

1 - أمراض الفصام :schizophrenia 

وهي أمراض مرض ذهانية، تؤدي إلى عدم انتظام الشخصية وإلى تدهورها التدريجي، وبالرغم من أنه تندرج ضمن الأمراض النفسية، إلا أن بعضها قد يؤدي إلى تمزيق العقل وإصابة الشخص بالتصدع، فيختلّ في السيطرة على تصرفاته وأفعاله وسلوكه، ويطلق عليه علمياً (الخجل المبكر أو جنون المراهقة)؛ لارتباط هذا المرض بسن المراهقة. وأشهر أمراض الفصام هي (فصام المطاردة)، فيتخيل المصاب بأن شخصاً يطارده في حياته، وقد يضطر أحياناً إلى ارتكاب جريمة اعتداء أو قتل بحقة!

2 - أمراض الاكتئاب والهوس :bipolar disorder

وهذه الأمراض هي ذهان انفعالي، فتنتاب الشخص مجموعة من نوبات الهوس، وكذا الاكتئاب في فترات مختلفة، وقد يؤدي بالشخص بالإسراع في إظهار غضبه على أبسط الاحتكاكات والانفعالات، وأخطرها مرض (الاكتئاب السودوي)، والذي يؤدي إلى انفصال الشخص عن الواقع، كأن يسمع أصواتاً ويرى صوراً في مخيلته تطارده، كما قد تؤدي الإصابة بالاكتئاب والهوس إلى العزلة، وفقدان الاهتمام بالحياة، وتزايد احتمال الانتحار!

3 - أمراض جنون الارتياب :paranoia

وهي أنواع من الاضطرابات، يحتفظ فيها المصاب بقوة تفكَيره وإرادته وقدرته على العمل، فهو شخص لا تنتابه الهلاوس، ولكن تعترضه مجموعة من حالات الهذيان المنظمة بشكل بطيء، فيصبح الشخص متمسكًا بمعتقدات وهمية ثابتة، تنحصر بموضوع معين مع احتفاظه بحالته الطبيعية، وتوازن تفكيره في النواحي الأخرى. وهناك نوع يطلق عليه (بارانويا الذهان الاضطهادي)، فيشعر فيه المصاب بأنه مضطهد من طرف الغير، وأن هناك خططاً لقتله؛ ولأجل ذلك يضطرّ المصاب لارتكاب جريمة في بعض الأحيان.

- ثانياً: الاضطرابات العصابية 

وهي اضطرابات وظيفية تعتري الشخصية، وتبدو في صورة أعراض جسمية، وتشمل الآتي:

1 - أمراض الصرع epilepsy:

وهي مجموعة من النوبات التي تفقد المريض رشده، فيفقد السيطرة على جسمه، ويكون أخطر عندما يكون المصاب به مشوش الأفكار، مما قد يؤدي إلى قيامه بارتكاب أشياء خطيرة حتى على نفسه، لكن عندما يستيقظ المصاب لا يتذكر شيئاً مما حدث. وقد يأتي الصرع في أي وقت وفي أي سن، فيفقد الشخص الشعور والاختيار، وبالتالي يمكنه ارتكاب سلوكيات إجرامية خارجاً عن إرادته، وبالذات عند المصابين بمرض (الصرع العام)، الذي يؤثر على الدماغ ويفقد المصاب فيه الوعي بالكامل.

2 - أمراض الهرع hysteria:

وهي اضطرابات عصابية تفقد الشخص السيطرة على تصرفاته؛ إلا أنها لا تعدم الشعور نهائياً، فهي تعتبر ثورة عاطفية، إلا أن هذا النوع من الاضطرابات لا يحول دون قيام المسؤولية الجزائية، فقد أجاز القانون اليمني تخفيف العقوبة طبقًا لنص المادة (109) بصراحة عبارة «ظرف تقدير البواعث على ارتكاب الجريمة»، كما أوجب اعتباره عذراً مُخففاً للعقوبة في جريمة «قتل الزوج لزوجته حال تلبسها بالزنا».

3- أمراض اليقظة النومية والتنويم المغناطيسي :sleep myoclonus + hypnosis

ويكون فيها الشخص المصاب في حالة نوم عميق، لكنه يقوم بأفعال لا يشعر بها، وقد يصل الأمر فيها إلى أن يترك المصاب قرب فراشه أشياء خطيرة، كالسلاح؛ ليكون باستطاعته ارتكاب أي جريمة، في حين أن هذه الحالة إذا كانت مفتعلة بالتنويم المغناطيسي، فإن النائم يخضع لإرادة المنوم، ويوصف فعل المنوم في هذه الحالة )بفاعل الواسطة»، والنائم نفسه تعدم مسؤوليته جنائياً؛ شريطة أن تكون إرادته واختياره مقيدة بإرادة واختيار المنوم فيها.

- ثالثاً: عدم التوازن النفسي (الشخصية السيكوباتية)

وهي شخصية شاذة في تكوينها النفسي وغير متلائمة مع المجتمع، فالمصابون بها مدركون لما يحيط بهم، وما يصدر عنهم على النحو العادي المألوف، ولكن ما في الأمر أن موضوع الشذوذ في هذه الشخصية، هو انحراف أو اختلال العاطفة، ثم فساد القيم الاجتماعية التي تسيطر عليهم. والجدير بالإشارة، أن الشخصية السيكوباتية ليست عاهة في العقل بالمعنى العام؛ لأن التمييز فيها متوفر؛ وإرادة صاحبها صحيحة، وفي وسعه أن يسيطر عليها، فالاضطراب السيكوباتي ليس المصاب به شخصية مريضة لا نفسيًا ولا عصبيًا، وان كانت عاهة عقلية خاصة سببها انحراف أخلاقي واجتماعي في الشخص نفسه، بالرغم من توافر حرية الإرادة والاختيار فيها وبشكل كامل، وهما مناط قيام المسؤولية الجزائية.

واستخلاصًا لما سبق، فإن أغلب التشريعات العقابية، توجب المساءلة الجنائية على الأمراض النفسية والعصبية، لكنها بالمقابل تجيز فيها للقاضي تخفيف العقوبة، ويعود ضابط الإجازة في ذلك؛ إلى وجود نقصان أو اختلال أو ضعف في الوعي والإدراك للأفعال والتصرفات، لكن هذا لا يمنع انعدام المسؤولية في بعض الأمراض النفسية والعصبية؛ شريطة أن يكون هذا المرض قد أفقد الوعي والإدراك تمامًا، وأزال حرية الإرادة والاختيار لدى المصاب أثناء أو لحظة ارتكابه للجريمة!!

 

 

المحور الثاني 
التحليل القانوني والطبي للنص اليمني

وقبل الحديث عن هذا المحور بشكل مفصّل، نسرد النص القانوني للمادة (33- عقوبات)، ثم نقسم هذا المحور إلى ثلاثة فروع: نتناول في الأول التحليل القانوني للنص اليمني، ونتطرق في الفرع الثاني للتحليل الطبي للنص اليمني، ثم نخصص الثالث لطرح رأينا المتواضع.

النص القانوني: 

تنص المادة (33) من قانون العقوبات على الآتي: «لا يسأل من يكون وقت ارتكاب الفعل، عاجزاً عن إدراك طبيعته ونتائجه؛ بسبب: الجنون الدائم أو المؤقت، أو العاهة العقلية». كما تنص الفقرتان العاشرة والحادية عشرة من المادة (2) من قانون الإجراءات الجزائية على الآتي: «عاهة عقلية: هي علّه تؤدي إلى زوال العقل أو اختلاله أو ضعفه»، «فاقد الأهلية: هو الصغير الذي لم يبلغ سن التمييز أو فقد أهليته بسبب عاهة عقلية».

الفرع الأول 
التحليل القانوني للنص

يتضح من خلال نص المادة (33- عقوبات) ما يلي:

-    أولاً: استعمل المشرّع لفظ (عاجزًا)، والمشتقة من لفظ (العجز) والذي يعني لغويًا: (الضعف وعدم القدرة على القيام بعمل أو وظيفة معينه). ونرى أن هذا اللفظ غير مُعبّر للمعنى المراد إيصاله، وكان من المستحسن اختيار ألفاظ أكثر مرونة، وتناسب قصد المشرع من صياغة المادة، كلفظ فاقداً أو مختلّاً أو ناقصًا، ونحو ذلك من ألفاظ تناسب سياق النص القانوني.

-    ثانياً: لفظ (العجز) الوارد ذكره، لفظ قاصر ومبهم وغير صريح، وقد يكون عرضة لأكثر من تفسير، فقد يفهم منه الاكتفاء بالعجز النسبي أو غير الدائم؛ لإعفاء المجنون من المسؤولية الجنائية، وقد يفسر أن العجز يفترض أن يكون مطلقاً ودائماً؛ للإعفاء من المسؤولية؛ ذلك لأن تحديد العجز، إن كان (مطلقاً أو نسبياً)؛ يبنى عليه مدى تحديد المسؤولية الجنائية لفعل المختل عقليًا، سواءً كان مصابًا بمرض (عقلي أو نفسي أو عصبي)، فيترتب على أن المصاب بالعجز المطلق أو المختلّ بالكامل أو الفاقد للإدراك والوعي هو منع المسؤوليه الجنائية، بينما المصاب بعجز نسبي أو ناقص الإدراك أو الوعي يتحمل المسؤولية الجنائية، لكن بالمقابل يجاز أن تخفف عنه العقوبة. وهذا الأمر أوضحته أغلبية التشريعات العقابية العربية، حيث فرّقت بين فقدان العقل ونقصان العقل، وعلى ضوء ذلك، رفعت المسؤولية الجنائية عن المختلّ عقليًا (فاقد الإدراك)، وأوقعت المسؤولية عن المختلّ عقلياً (ناقص الإدراك)، لكنها بالمقابل أجازت تخفيف العقوبة.

الفرع الثاني 
التحليل الطبي للنص

يمكن إبراز تحليل النص القانوني من الناحية الطبية وفق النقاط الآتية:

-     أولاً: حصر المشرّع اليمني الأمراض في النص المذكور بمرض الجنون والعاهة العقلية، والمعلوم طبيًا، أن الجنون الدائم هو أخطر الأمراض العقلية، لاسيما الجنون المطبق، ويدخل في ذلك حكم الجنون المؤقت؛ شريطة أن يكون متوافرًا لحظة ارتكاب الجريمة. أما قول المشرع »أو العاهة العقلية«، فتعني وفق نص المادة (2 فقرة 10 إجراءات): »العلّة التي قد تؤدي إلى زوال العقل أو خلل أو ضعف فيه«. ومعنى هذا، أن المشرع أعطى للعاهة العقلية، معنى أوسع من مرض الجنون، كما فصلنا ذكره في الفرع الأول من المحور الأول من هذه الدراسة، وإن كان الأخير أكثر تأثيراً على الإدراك والوعي.

-    ثانياً: لم يذكر المشرّع المرض العصبي والمرض النفسي صراحة، على الرغم أن مسمى عبارة »العاهة العقلية« معنى عام لاختلال العقل، ولا يشترط فيه فقدان العقل تمامًا، فيكفي ضعفه أو اختلاله، لذلك، ووفقًا لتعريف النص الوارد في قانون الإجراءات، قد تشمل بعض الأمراض النفسية والعصبية حكم العاهة العقلية، وكما تعرفنا سابقاً في الفرع الأول، أن هناك العديد من الأمراض العصبية، قد تفقد الشخص وعيه وإدراكه تمامًا، كمرض الصرع والهستيريا، كما أن هناك أمراضاً نفسية تشابه أعراض المرض العقلي تمامًا، وأبرزها مرضا (الفصام الذي يمزق العقل والاكتئاب الذهاني أو السوداوي)، وأعراضهما تصل إلى حد الاضطرابات، كالهلوسات، والأوهام، وأهمها هلوسات الفقر، والمرض، وأوهام القهر والحرمان وغيرها... وقد تدفع المريض أحياناً لقتل نفسه، أو أحد المقربين، كما توصلت من خلال البحث، أن المريض في هذين المرضين غالباً ما يخفي حقيقـة مرضـه، خـشيةَ أن يوصف بالجنون، فيبقى متصلاً بمجتمعه متفاعلاً معه، ويكون قادراً على مواصـلة عملـه، (وهنا خطورة الأمر!!)، بخلاف المريض عقلياً الذي يعيش في عالم خاص به، وتنقطع صلته بمجتمعـه ولا يتفاعـل معهم، ولا يكون قادراً على ممارسة أي عمل؛ لعدم إدراكه ووعيه بما يدور حوله.. وفي كل الأحوال، إن من يصاب بمرض الفصام أو الاكتئاب، قد تنتابه لحظات جنون طارئة وليست دائمة؛ لأنه لا يعاني من فقدان الإدراك بالكامل، وإنما اختلال ونقص في الإدراك والوعي، وهذا في (عُرف القانون وأغلب التشريعات العقابية العربية)، يتحمل المسؤولية الجنائية، لكن تخفف عنه العقوبة.

الفرع الثالث 
رأينا في الموضوع

يثور التساؤل كما تقدم في التمهيد لهذه الدراسة، فهل منع المسؤولية الجنائية أو تخفيف العقاب راجع لنوع المرض أم لدرجة تأثيره على الإدراك والوعي؟؟ أغلب التشريعات العربية أخذت بمعيار درجة تأثير المرض على الوعي والإدراك، سواءً كان هذا المرض عقلياً أم نفسياً أم عصبياً، وعلى هذا الأساس منعت المسؤولية الجنائية عن فاقد الوعي والإدراك، وأقرّت المسؤولية عن ناقص الوعي والإدراك، لكنها أجازت تخفيف العقوبة. بينما اتجه المشرع اليمني اتجاهًا آخر فمنع المسؤولية الجنائية تبعًا لنوع المرض، وحصرها بالأمراض العقلية ومنها العاهة العقلية، في الوقت الذي ثبت طبيًا أن بعض المصابين بالعاهة العقلية لا يفقدون الإدراك، وإنما يصابون بضعف أو اختلال في العقل (كالمعتوه)، فالأخير صحيح أنه مريض عقليًا لكنه قد يكون ناقص الإدراك لا فاقدًا له تمامًا، فهل نمنع عنه المسؤولية الجنائية؟ وبالمقابل، فإن المريض نفسيًا بمرض (الاكتئاب الذهاني السودوي أو مرض الفصام) الذي تصل حالته إلى تمزيق العقل، قد تنتابه أحياناً لحظات من تصرفات الجنون المؤقت، كما أن المصاب بمرض عصبي (كالصرع أو الهستيريا)، أحياناً يمكن أن تنتابه لحظة فقدان للإدراك، فكيف سيتم التعامل مع هذه الحالات؟ هل سيتم مساءلتهما جنائيًا وفقاً لمنظور المشرع اليمني، باعتبار حصره للمرض العقلي أو العاهة العقلية كمانع للمسؤولية؟!

وفي الإجمال، وللإجابة على هذه التساؤلات، فإن جميع الأمراض أيًا كانت عقلية أو نفسية أو عصبية لا تتساوى في درجة تأثيرها على عقل الإنسان، فمنها من تجعله عاجزًا كليًا عن الإدراك والوعي، وفي هذا الإطار بالتحديد، بين أحد الأحكام الصادرة من المحكمة العليا اليمنية بصنعاء- تناوله أستاذنا الدكتور/ عبدالمؤمن شجاع الدين في أحد تعليقاته- ومفاده: «أن المرض النفسي لا يمنع المسؤولية الجزائية». ومعنى هذا أن المحكمة العليا استندت لنوع المرض في تقرير المساءلة الجنائية، ولم تستند لدرجة تأثير المرض على الإدراك والوعي، ومع تقديرنا لعلمائنا الأجلاء مصدري الحكم، فإنني أميل (وبكل تواضع) إلى ترجيح أن منع المسؤولية الجنائية لا يكون بحسب نوع المرض، وإنما في درجة تأثير المرض على تصرفات وأفعال وسلوكيات الشخص لحظة ارتكابه للجريمة، فمن الأمراض كما ذكرنا سلفًا تجعل الشخص ناقصًا للإدراك والوعي، ومنها ما تجعلة فاقدًا للإدراك والوعي، وحكم ذلك، أن الأول يساءل جنائيًا، ويجوز تخفيف العقوبة عنه، بينما تمنع المسؤولية الجنائية عن الثاني، وهذا بعكس ما استخدمه المشرع اليمني من لفظ (عاجزًا)، فالعجز مصطلح طبي مطاطي وفضفاض، فقد يكون الجاني مصاباً بعجز نسبي في الإدراك أثناء ارتكابه للجريمة، فلا يمنع هذا الأمر من مساءلته جنائيًا، وإن كان يجوز تخفيف العقاب عنه، بعكس من كان مصابًا بعجز مطلق في الإدراك، فمن باب أولى منع مساءلته جنائيًا، وفي المحصلة، كان ينبغي على المشرع اليمني التفرقة في درجة المسؤولية الجنائية، كما هو معمول في التشريعات العربية، وذلك باستخدام مصطلح (فاقد الإدراك) الذي يمنع المسؤولية، ومصطلح (ناقص الإدراك) الذي يقرّ بالمسؤولية ويجيز تخفيف العقوبة، على الرغم أن المشرع اليمني ذكر معياري فقدان الإدراك ونقصانه في المادة (105 عقوبات)، حيث أكّدت صراحة على أن (فقدان الإدراك) لمرض عقلي، يقتضي إدخال المريض في أحد المحال الحكومية المعدة لعلاج الأمراض العقلية، كما أجازت للقاضي الحكم بعقوبة مخففة (لناقص الإدراك).

 

المحور الثالث 
تأثير مراحل الجنون على الدعوى الجزائية

من المعلوم أن أمراض الجنون وما في حكمها، قد تصيب الشخص في مرحله غير محددة، سواءً كانت سابقة على ارتكابه للجريمة، أو أثناء ارتكابها، كما قد يصاب الجاني بالجنون في مراحل سابقة أو لاحقة على المحاكمة، ولكل مرحلة من هذه المراحل حكمها الخاص، وفقاً لما يأتي:

الفرع الأول
المرحلة السابقة والطارئة للجريمة

- أولاً: المرحلة السابقة للجريمة 

ويكون المتهم فيها مصابًا بالمرض قبل ارتكابه للجريمة، بمعنى أن له تاريخاً مرضياً سابقاً على ارتكاب الجريمة، وهذه الحالة يسهل على الطبيب المختص بيان رأيه للمحكمة؛ باعتبار أن هناك معرفة سابقة بتاريخ المرض، ومراحل تطوره، ودرجة خطورته، وهل مرضه متقطع أم مستمر، وعلاقة مرضه بالجريمة المرتكبة... وصولاً لتحديد مدى عجزه عن إدراك أفعاله وتصرفاته من عدمه لحظة ارتكابه للجريمة. وفي هذه الحالة، إذا كان المتهم مصاباً بحالة جنون، أو أي عاهة عقلية لحظة ارتكابه للجريمة، انتفت المسؤولية الجزائية عنه، وعلى هذا الأساس، فإن مانع المسؤولية الجزائية لا ينتج أثره، إلا إذا كان محققًا وقت ارتكاب الجريمة، لا بما كانت عليه قبل ذلك، وهذا ما نستخلصه من عبارة النص الواردة في المادة (33- عقوبات) بقولها: «لا يسأل من يكون (وقت) ارتكاب الفعل عاجزاً عن إدراك...».

- ثانياً: المرحلة الطارئة للجريمة

وفيها لا يكون المتهم مصاباً بأي مرض عقلي، كالجنون أو نحوه... ولا بأي عاهة عقلية قبل ارتكاب الجريمة، لكنه قد يصاب بجنون طارىء، أو عاهة عقليه طارئة، تفقد أو تنقص وعيه وإدراكه، وتدفعه إلى القيام بارتكاب جريمة، وهذه النوع يصعب على الطبيب تحديد حالة المتهم لحظة ارتكابه للجريمة، كما أشرنا إليه سابقاً. 

ومن نافلة القول، أن حالة الحرب المتواصلة التي تشهدها اليمن وفي جميع المجالات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والخدماتية والمعيشية، وكذا عدم الاهتمام بإمكانيات الطب العقلي والنفسي والعصبي في اليمن، ولعدم التعامل الطبي الصحيح مع هذه الحالات، ونتيجة لإهمال بعض الأسر والأهل بحالة مرضاهم، ولجوء البعض منهم إلى الشعوذة والدجل في محاولات يائسة لعلاج مرضاهم! وقد يصل الأمر أحيانًا إلى حالة حبس مرضاهم وتقييدهم؛ مما يؤدي إلى تدهور حالتهم الصحية، فيتحول بعضهم من مرضى نفسيين إلى مرضى عقليين، فيصعب السيطرة عليهم، لذلك، نراهم منطلقين بشكل ملحوظ في الشوارع والمدن، وإلى درجة وصول المصابين بالأمراض النفسية والعقلية إلى ربع سكان اليمن، وهذا بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية أكتوبر 2023م، فكل هذه العوامل من الأسباب الرئيسية التي تواجه فيها النيابات والمحاكم، صعوبة بالغة في تقرير الحالة الصحية للمتهم المشتبه بإصابته بمرض عقلي أو نفسي أو عصبي.

الفرع الثاني 
المرحلة السابقة واللاحقة للحكم

- أولاً: المرحلة السابقة على الحكم

ونعني هنا إصابته بجنون طارئ بعد ارتكاب الجريمة وقبل صدور الحكم، وبالتأكيد سيؤدي ذلك إلى توقف بعض إجراءات التحقيق لحين شفائه، وفي هذا الخصوص، نظّم المشرع اليمني إجراءات التحقيق ومحاكمة المتهمين الذين يشتبه إصابتهم بمرض عقلي أو عاهة عقلية من المواد من (279 وحتى المادة 282إجراءات جزائية)، حيث أكّدت المادة (279) في حال دعا الأمر فحص حالة المتهم العقلية، فيجوز للنيابة أو المحكمة، أن تأمر بوضع المتهم تحت الملاحظة في أحد المستشفيات المخصصة ولمدة لا تزيد على 45 يوماً، كما بيّنت المادتان (280 و283) نفس الحكم في التعامل مع المتهم المريض عقليًا، والذي يتعين في حال استمرار حالته المرضية بعد مرور الفترة الزمنية المذكورة سابقًا دون علاج، فيجب على النيابة أو المحكمة أن تحدد موقفها، إما بإصدار قرار بألا وجه لإقامة الدعوى من النيابة، أو الحكم ببراءة المتهم لانعدام المسؤولية، سيما إذا كان المتهم على درجة عالية من الخطورة، أو كانت الجريمة جسيمة كارتكابه جريمة قتل، فعليها أن تقرر، إما استمرار حجز المتهم في المؤسسة العلاجية؛ إذا ما اتضح لها أن حالته ستتحسن صحيًا، أو تسلمه لأحد أقاربه أو أصدقائه إن وجدوا، شرط أن يتعهدوا برعايته ومنعه من الإضرار بنفسه أو بالغير، وعلى أن يتم إحضاره عند الطلب في حال شفائه قبل الحكم عليه.

ومما تجدر الإشارة بالقول، أن المشرّع اليمني قرر أن تستمر الإجراءات الأخرى التي ليس لها تأثير على حالة المتهم المصاب بالمرض، كسماع الشهود، أو المعاينة، أو تفتيش منزله، ونحو ذلك طبقًا لنص المادة (281 من نفس القانون). كما صرّحت المادة (282) على خصم المدة التي يقضيها المتهم تحت الملاحظة في الحجز من مدة العقوبة، والتي من الممكن أن يحكم بها عليه. كما أكّدت المادة (377 من نفس القانون) على أنه، في حال اتضح للمحكمة، أن المتهم عند ارتكابه للفعل المسند إليه، كان في حالة من حالات انعدام المسؤولية أو موانع العقاب، فيتعين على المحكمة إنهاء القضية وإخلاء سبيل المتهم فوراً.

- ثانياً: المرحلة اللاحقة على الحكم

ونعني هنا في حال ما إذا أصيب المحكوم عليه بالجنون بعد النطق بالحكم وقبل تنفيذ العقوبة، فيطبّق عليه حكم المادة (499 إجراءات)، حيث أكّدت على عدم جواز تطبيق العقوبة عليه، ويجب على النيابة حينئذ تأجيلها لحين براءته من المرض، وذلك بالإحالة للمصحة للعلاج إلى حين شفائه، وإن يئس الأمر ولم يرج شفاؤه بناءً على تقارير طبية رسمية، وكانت العقوبة المقررة عليه بدنية، «كالقصاص أو الجلد أو الرجم ونحو ذلك...»، فتقرر المحكمة تأجيل العقاب عليه إلى حين شفائه أو يتداركه الموت، إلا إذا تنازل من له الحق بالقصاص، أو صدر أمر بالعفو من ولي الأمر في عقوبة الحد.

وفيما يتعلق بإصابة المحكوم عليه بمرض عقلي أو عاهة عقلية خلال تنفيذ عقوبة الحبس، فتقرر المحكمة وضعه تحت الحراسة في إحدى المؤسسات العلاجية حتى تنتهي مدة عقوبة الحبس، وفي حال شفائه قبل انتهاء مدة العقوبة، يعاد إلى السجن لاستكمال ما تبقى من العقوبة، كل ذلك إعمالاً لحكم المادة (471 فقرة 3 إجراءات)، على أن يستثنى من ذلك، العقوبات المالية، كالديات أو الأروش، وكذا الغرامات المقررة لخزينة الدولة، أو المصادرة، كما يشمل ذلك، عدم سقوط حق المجني عليه أو المتضرر من الجريمة من رفع دعوى التعويض من الجريمة، مع التنويه بفرض التعويض على ماله إن كان له مال، ما لم فعاقلته (أقاربه من جهة الأب) تضمن الأضرار بسبب الجريمة، وهذا بالاستناد للأحكام الواردة في المادة (34 عقوبات).

المحور الرابع 
إشكالات التطبيق القضائي

ونقسم هذا المحور إلى فرعين: نتناول في الأول مسألة إثارة فحص المتهم عقليًا أو نفسياً أو عصبياً، وكيفية التصرف فيه من قبل المحكمة، ونتطرق في الفرع الثاني لتقرير الخبير الطبي المختص عن حالة المتهم العقلية أو النفسية أو العصبية، ومدى حجيته على المحكمة.

الفرع الأول 
إثارة طلب فحص المتهم والتقرير بشأنه

- أولاً: إثارة طلب فحص المتهم

من الطبيعي أن يتم إثارة فحص المتهم من قبل أطراف الدعوى الجزائية، سواء من النيابة، أو من المحكمة نفسها، أو من المتهم بناءً على طلب من محاميه، حيث نصّت المادة (208 إجراءات) على أن يكون طلب تقرير الخبير وجوبياً في الأحوال الآتية: وذكرت الفقرة (ب) من نفس المادة، الحالة النفسية للمتهم عندما يثور شكّ أثناء القضية، حول قدرته على إدراك ماهية أفعاله وإدارتها. وعلى الرغم أن القانون لم يحدد الجهة التي ينبغي لها أو يجوز لها إثارة هذا الطلب، إلا أن الغالب الأعم، أن يثار هذا الطلب من قبل (محامي المتهم)؛ باعتبار أن ذلك من مصلحة المتهم، ولا يعني هذا أنه لا يجوز للنيابة أن تثير هذا الطلب، سواء في مرحلة التحقيقات أو في مرحلة المحاكمة، فالنيابة (خصم شريف) ينبغي عليها مراعاة حسن تطبيق القانون، سواءً كان ذلك في مصلحة المتهم أو ضده، ومن باب أولى، يجب على المحكمة التصدي لهذا الطلب وإحالة المتهم للفحص؛ إذا ثار »مُجرّد شك« عن حالته النفسية أو العقلية أثناء المحاكمة، وهو ما نصت عليه المادة (269 من نفس القانون فقره ج)، على وجوب أن تبت المحكمة في شأن تأجيل الجلسة؛ إذا تطلّب الأمر إحالة المتهم إلى أحد المستشفيات الرسمية للفحص عليه وعلاجه، كما أكّد ذلك نص الفقرة (د) من نفس المادة، على أنه في حال إصابة المتهم بمرض عقلي أثناء سير إجراءات المحاكمة، تقرر المحكمة عدم إمكانية مثوله وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه.

ولا مناص من القول، بأن على القضاة الجنائيين بوجه خاص، استعمال مهارات عالية جداً في التعامل مع المتهمين، حتى يستطيعوا التمييز بين المتهم السوي والمتهم الذي يعاني اضطرابات ذهنية، وهذه الخبرة يكتسبونها بالممارسة، ومن خلال المناقشات مع العديد من المتهمين بالجلسة، فعليهم التركيز على تصرفات المتهم الماثل أمامهم، وكيف يتجاوب مع المحكمة؟ وأين ينظر؟ وكيف يحرك جسمه أو يديه؟ وكيف يرد على أسئلة المحكمة أو النيابة العامة أو الدفاع أو الضحية؟ وهل هو يتقيد بالسؤال أم يخرج عن نطاق هذا الأخير؟ وهل هو يجيب عن الأسئلة بكل طلاقة؟ أم يجيب وهو في حالة من القلق والانفعال؟ وغيرها من أنواع السلوك التي تعطي صورة أو انطباعاً عن الحالة الذهنية للشخص الصادرة عنه... وهذا ما يجعلهم ينجحون عادة في التمييز بين المتهم السوي والمتهم غير السوي.

- ثانياً: قرار المحكمة بالإحالة للطبيب

فيما يتعلق بمسألة قبول طلب فحص المتهم المقدم من محاميه أو من النيابة أثناء المحاكمة، فإن قبول هذا الطلب يعود لتقدير سلطة المحكمة! ويختلف الأمر في حال رفض الطلب عن حال قبوله، ففي الحالة الأولى يجب على المحكمة أن تسبب تسبيبًا سائغًا ومنطقياً عن أسباب رفضها لطلب فحص المتهم قبل الحكم في القضية برمتها، بعكس ما إذا تراءى لها قبول الطلب، فيكفي قناعتها بالتصريح بالشك عن حالة المتهم النفسية أو العقلية أثناء المحاكمة، وإن كنا نرجّح أن توافر الشك ليس أمراً ضرورياً بحد ذاته، فيكفي (توافر مُجرّد الشك!!)، فحينئذ ينبغي على المحكمة إحالة المتهم للفحص؛ ذلك أن مُجّرد قبول طلب الفحص لا يعني التقرير بانعدام المسؤولية! بل إن الطلب يمرّ بمراحل: الأولى/ قبوله من حيث الشكل، والثانية/ إجراء الفحص، والثالثة/ إظهار نتيجة الفحص على المحكمة، والرابعة وهي الأهم/ قبول هذه النتيجة من عدمها. وتأسيسًا على ذلك، قد تكون نتيجة الفحص أن المتهم كان غير مدرك لأفعاله لحظة ارتكاب الجريمة، ولا يعني هذا أن نتيجة الفحص ملزمة للمحكمة؛ لأنها الخبير الأكبر، فلها في سبيل ذلك، الأخذ بما جاء في التقرير أو تركه، مع التسبيب المنطقي في حال ترك نتيجة التقرير...

وفي هذا السياق، وفي حكم حديث ومشهور (لمحكمة النقض المصرية) في الطعن رقم ٢٧١٥٨ لسنة 2018م، وفي القضية الجنائية المرفوعة من نيابة شمال القاهرة، أرست مبدأ قضائياً يتلخص في حيثياته بالآتي: «ولئن كان من المقرر أن تقدير حالة المتهم الفعلية أو النفسية من المسائل الموضوعية التي تختص محكمة الموضوع بالفصل فيها، إلا أنه لسلامة الحكم يقينًا إذا تمسك به المتهم، أن تجري تحقيقاً في شأنه بلوغاً كفاية الأمر فيه، ويجب عليها تعيين خبير للبت في هذه الحالة اثباتاً أو نفياً، أو أن تطرح هذا الدفاع بما يسوغ، ولما كان ذلك، وكان ما رد به الحكم على دفاع الطاعن في هذا الشأن لا يسوغ به اطراحه، بخلو الأوراق مما يفيد على وجه قاطع، أن المتهم كان يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلي؛ لأن البداءة يتضمن الدعوة إلى تحقيقه، مما يصم الحكم بالقصور في التسبيب والفساد في الاستدلال، ولما كان ذلك، فإنه يتعين نقض الحكم والإعادة دون حاجة إلى بحث باقي أوجه الطعن». وبدورنا فإننا نميل إلى ما اتجهت اليه محكمة النقض المصرية، في أن مسألة قبول فحص المتهم، يكون للمحكمة فيه (خط رجعة)؛ لتقرير الحكم بقبول نتيجة الفحص من عدمه، بعكس رفض طلب الفحص ابتداءً، فإنه قد يعرض الحكم للبطلان؛ باعتبار أن رفض هذا الطلب، قد يُعدّ إخلالاً لطلبات الدفاع الجوهرية ابتداء.

الفرع الثاني 
حجية تقرير الخبير والحكم به

- أولاً: حجية تقرير الطبيب

في بعض الأحيان يواجه بعض القضاة صعوبة في التعرف على حالة المتهم العقلية أو النفسية أو العصبية، فعلى - سبيل المثال لا الحصر - في بعض قضايا القتل العمد، قد يكون فيها المتهم مُختلّاً عقلياً، سواءً كان مصاباً بجنون مطبق، أو مصابًا بنقص في العقل أو الوعي، وما يزيد الطين بلّه، أن بعض التقارير الطبية، تحدد حالة المتهم حين عرضه على الطبيب المختص، وأحيانًا تتحدث عن خلاصة موجزة لتاريخه المرضي - إن كان قديمًا -، فيما تترك الأهم، وهو عدم تحدد طبيعة حالته الصحية لحظة ارتكابه للجريمة، فنجد أن نتيجتها النهائية غير حاسمة، وتنتهي بعض التقارير الطبية أحيانًا بعبارة: «إن حالته غير معلومة!!». وحرصاً على ذلك، نرى - ومن وجهة نظرنا - أن تشخيص حالة المتهم يجب أن تتم في العيادة أو المستشفى الخاص بعلاج الاضطرابات الذهنية، حتى يمكن للطبيب أن يجري معه عدة مقابلات، وقد يستعين بالطاقم المكلّف بتتبعه؛ لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول سلوكه داخل المؤسسة العلاجية. كما يسمح وجود المتهم بمستشفى علاج الاضطرابات الذهنية، بإمكانية إخضاعه لعدة عمليات تشخيصية، ويسمح كذلك للخبير بأخذ رأي باقي الأطباء المختصين بنفس المؤسسة الصحية، وهو ما يساعد الخبير على فهم حالة المتهم بشكل دقيق، فيحسم مسألة إصابته باضطراب ذهني من عدمه.

وحري بنا التطرق إلى مواجهة احتمالات، أن ينجح المتهم في تضليل الطبيب الخبير بتمويهه بحركات أو سلوكيات معينة؛ من أجل التملّص من المسؤولية الجنائية، فيصوّر نفسه أمامه على أنه مصاب باضطراب ذهني، والحال أنه لا يعاني من أي اضطراب من هذا القبيل، أو يمتنع عن الإجابة على أسئلة الطبيب الخبير فتتعقد مهمة هذا الأخير... ولتفادي كل هذه الإشكالات، فعلى القاضي الجنائي عندما يأمر بإجراء خبرة طبية على متهم، عليه أن يأذن بإحالة هذا الأخير على مستشفى لعلاج الاضطرابات الذهنية؛ من أجل عرضه على الخبير الذي عينه للقيام بالخبرة، كما يجب عليه ألا يقيد هذا الأخير بأجل قصير من أجل إنجاز الخبرة المذكورة؛ لأن تشخيص الحالة المرضية مرتبط بدراسة سلوك المتهم، وهذه الدراسة لا تتأتى إلا إذا كان سلوك هذا الأخير تحت ملاحظة ومراقبة المختصين داخل المؤسسة الصحية، كما نرى بأنه يجب أن تكون الخبرة الطبية ثلاثية خاصة في قضايا الجنايات، لأنه كلما ازداد عدد الأطباء المكلفين بتشخيص حالة المتهم المرضية كلما تقلص هامش الخطأ في الخبرة الطبية، وحتى يمكن الاطمئنان إليها أكثر في تقرير المسؤولية الجنائية للمتهم.

- ثانياً: الحكم على تقرير الطبيب

إن دراسة حالة المتهم لحظة ارتكابه للجريمة، تحتاج لتفصيلات كثيرة من التدقيق والفحص والتخصصية، وكذا إجراء التجارب التقييمية، ويجب أن نكون صريحين، بأننا مازلنا في (اليمن) نسير بخطى بطيئة ومتخلّفة، في إزالة الوصمة عن الأمراض العقلية والنفسية والعصبية من جانب، والخلط بين التخصصات النفسية، كتخصص الطبيب النفسي والأخصائي النفسي، ودور كل منهما، وحدود إمكانياتهما التخصصية. وفي هذا الشأن، يضطر بعض القضاة وفي بعض القضايا، إلى إهمال تقارير الخبراء الطبية غير الوافية عن حالة المتهم (المشتبه به صحيًا)، فيلجأ البعض منهم للبحث عن ظروف وملابسات الجريمة، كأسلوب ارتكابها، وزمن ومكان ارتكابها، وبواعث ودوافع ارتكابها، وماضي المتهم الإجرامي إن وجد، وعلاقته بالمجني عليه؛ وتصرفه السابق أو اللاحق لارتكاب الجريمة؛ لعلهم يجدون إجابة شافية، يمكن أن تحدد حالة المتهم العقلية والنفسية والعصبية لحظة ارتكابه للجريمة. 

ومما لاشك فيه، أن القاضي الجنائي كأصل عام، يتمتع بسلطة تقديرية واسعة في موازنة وسائل الإثبات، وهذه السلطة لا يجب تقييدها بأي قيد إجرائي أو موضوعي، ولو كان الأمر يتعلق بمسائل فنية؛ لأن المسؤولية الجنائية للمتهم، وإن كانت مسألة متصلة بالجاني فقط، فإن مناقشة عناصرها وشروطها لا يتم بمعزل عن الواقعة القانونية المحالة بها الدعوى الجنائية، وفي هذا الموضوع بالتحديد، القاضي هو من يبرز تزامن إصابة المتهم باضطراب ذهني مع زمن ارتكابه للجريمة، وهو من يتحقق من قانونية الخبرة الطبية، وهو من يقارنها مع باقي أدلة الإثبات المعروضة عليه، وله في هذا الإطار مجموعة من الصلاحيات... وعليه، نرى بأن مسألة تقدير حالة المتهم الذهنية، تدخل في نطاق السلطة التقديرية للقاضي الجنائي، شريطة استعانته بخبرة طبية تساعده من أجل الحسم في مسألة إصابة المتهم باضطراب ذهني من عدمه، وكذا مسألة درجة تأثير هذا الاضطراب على إرادة أو إدراك هذا الأخير، حتى يستطيع الحسم في مسؤوليته الجنائية.

واستناداً إلى ما سبق ذكره، نرى بأن الخبرة في هذه الحالة يمكن أن تكون جدية وضرورية وشبه حاسمة، وعلى القاضي الجنائي أن يأمر بها ليس بتوافر الشك بحالة المتهم الذهنية فحسب، بل بمجرد توافر الشك؛ لتعلق الأمر بمسألة طبية فنية اختصاصية، يصعب عليه فهمها في غياب تقرير طبيب مختص، والذي يعتبر من العناصر الضرورية التي يبني عليها القاضي الجنائي اقتناعه الصميم، ومن خلال مقارنة مضمون باقي وسائل الإثبات التي يتضمنها ملف القضية، وما دار أمامه بالجلسة من مناقشات مع المتهم المتابع، وما جاء في تصريحات أطراف الدعوى، وظروف وملابسات القضية المعروضة عليه... وخلاصة القول، بكون تقدير حالة المتهم الذهنية من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بتقديرها، يجب أن يبقى هو الأصل لانسجامه مع فلسفة المشرع الجنائية، التي تعطي للقاضي الجنائي سلطة واسعة في تقدير وسائل الإثبات؛ حتى يستطيع تكوين اقتناعه بكل حرية وتجرّد، غير أن ذلك لا يعني بأن القاضي الجنائي مخيّر في اللجوء إلى خبرة طبية، بل يجب عليه أن يأمر بإجرائها تلقائياً أو بناء على طلب؛ إذا كانت متعلقة بتحديد الحالة الذهنية للمتهم وبمجرد توافر الشك؛ ولتعلق الأمر بمسألة طبية صرفة بعيدة عن مجال اختصاصه القانوني، وذلك حتى يستطيع فهم الحالة المرضية للمتهم التي على ضوئها يقرر في مسؤوليته الجنائية.

 

خاتمة النتائج والمقترحات

- أولاً: النتائج 

المتأمل لواقع المعيشة في حياتنا، يجد أن الكثير من الأمراض منتشرة كثيرًا في مجتمعنا اليمني، وبالذات الأمراض النفسية، وأبرزها كما ذكرنا مرضا (الفصام والاكتئاب السودوي الذهاني)، بحيث يضطر بعض المصابين القيام بارتكاب جرائم شنيعة، كالقتل أو الاغتصاب أو السرقة بإكراه ولو على الأقارب.. والغريب أن بعض أحكام الإعدام قد تصدر بحقهم وهم ناقصو الإدراك والوعي تمامًا؛ تحت حجج ومبررات أن هذه جرائم وحشية وبشعة وعنيفة، وبضغط شديد من الرأي العام، ممثلاً بالصحافة، ووسائل التواصل الاجتماعي، ويكون ذلك أحياناً في جلسة أو جلستين قضائية على الأكثر، وأحياناً يمكن أن يكون دون حضور محامين عنهم؛ مما يجعل الأحكام الصادرة بشأنهم، محل شكّ وتندرج تحت طائلة »البطلان المتعلق بالنظام العام«؛ لعدم تحقيق وسائل حقوق الدفاع الجوهرية، كحق أصيل وركن أساسي لإجراء المحاكمات العادلة.

ولعله من المفيد التأكيد، والنصح لزملائنا السادة القضاة الجدد وحديثي العهد، بأن يبذلوا الجهد، ويستفرغوا الوسع في دراسة القضية من كافة جوانبها، وأن يبينوا أسباب ارتكاب الجريمة، وظروفها، وشخصية الفاعل كشرط أولي؛ لتحديد مسئوليته الجزائية، بغية الوصول إلى حكم عادل.. ولا يثنيهم مبرر، أن المشرع اليمني لم يترك لهم فرصة؛ لتخفيف العقاب في الجرائم التي يقدم متهموها بشبهة فقدان الوعي، أو نقصان للإدراك، ولهم في سبيل ذلك، تطبيق مبادئ تفريد العقاب المذكورة بصريح المادة (١٠٩) عقوبات، وأهمها مراعاة درجة المسؤولية الجنائية، التي تصنّف جرائم المجنون والمختلّ عقليًا أو نفسيًا أو عصبيًا إلى: مسؤولية (كاملة) والتي تنطبق على الأصحاء، ومسؤولية (ناقصة) وتنطبق على ذوي العجز النسبي أو ناقصي الإدراك، ومسؤولية (منعدمة) وتنطبق على المصابين بعجز كامل أو فقدان كلي للإدراك والوعي... وهذه من المخارج القانونية، التي من الممكن أن يستندوا اليها، كأساس متين لحيثيات وأسباب أحكامهم بشكل صائب..

- ثانياً: التوصيات والمقترحات

١-  نقترح على المشرّع اليمني، تحديد نوع العجز ودرجته وحكمه، والمذكور في نص المادة (33- عقوبات)، فإن كان عجزاً كلياً، يكون فيه الشخص فاقدًا للإدراك والوعي والتمييز لأفعاله وتصرفاته، ترفع عنه المسؤولية الجنائية. وإن كان عجزاً نسبياً، يكون فيه الشخص ناقص الإدراك والوعي والتمييز لأفعاله، يجاز أن تخفف عنه العقوبة.

2 –  نرى من المناسب توحيد المصطلحات باستخدام عبارة (اضطرابات ذهنية)، بدل باقي العبارات المتعددة من قبيل (خلل في القوى العقلية) و(الأمراض العقلية والنفسية والعصبية) و«العاهة العقلية) وغيرها، وذلك تماشياً مع التصنيف الدولي للاضطرابات الذهنية (ICD) ولتوحيد العمل بالتصنيفات الدولية للاضطرابات الذهنية من قبل الأطباء المختصين في معالجة الاضطرابات الذهنية.

3- نشدد على الاهتمام والعناية اللازمة، لإنشاء لجان طبية متخصصة؛ لتقييم حالات المتهمين والمحكوم عليهم، والمشتبه بإصابتهم بأمراض عقلية أو عصبية أو نفسية. والنص صراحة على أن الخبرة تجريها لجنة خبراء من ثلاثة اختصاصيين بمستشفى علاج للاضطرابات الذهنية، وبإذن من القاضي الجنائي الذي يأمر بها، ويسمح من خلاله بنقل المتهم المحبوس من المؤسسة السجنية إلى مؤسسة لعلاج الاضطرابات الذهنية، ووضعه رهن إشارة الخبراء؛ من أجل إنجاز الخبرة في ظروف مناسبة تضمن الحصول على نتائج دقيقة، لا سيما في القضايا التي تكون عقوبتها الإعدام!!

4- نهيب بأهالي المرضى المختلّين عقليًا، بأن المسؤولية الشرعية والقانونية تقع على عاتقهم، إما بإدخال أقاربهم بالمصحة، أو إبقائهم لديهم تحت عناية ومراقبة شديدة؛ حتى لا يتضرر شخص أو تسلب روح، كانت ضحية شخص غير مسؤول عن تصرفاته؛ لأن ذلك قد يعرّض الشخص المسؤول عن هذا المريض للمساءلة القانونية، متى ثبت تقصيره عن الرقابة على من يتولى مسؤوليته إذا ارتكب جريمة.. وأدعو في هذا الخصوص، أن يتدخل المشرع، بقرارات رادعة لتنظيم مثل هذه الأمور؛ حماية للأرواح وللمرضى أنفسهم.

5- ننصح زملاءنا السادة القضاة وأعضاء النيابة، بالاهتمام بمسألة تقدير حالة المتهم العقلية أو النفسية أو العصبية، فيتعين عليهم إذا تمسّك به المتهم وأصر عليه، أن يجروا تحقيقًا كافيًا، ولا ضير عليهم إن عيّنوا خبيرًا للإثبات أو النفي، ولو خلت أوراق الملف بما يفيد أن المتهم كان يعاني من اضطراب نفسي أو عقلي أو عصبي وقت ارتكاب الجريمة.

6– وبالمقابل، نوصي المشرع بمعاقبة من يثبت أنه أدّعى الجنون بعد ارتكابه للجريمة؛ للإفلات من العقوبة، واعتبار ذلك ظرفًا مشددًا، وإن كان هذا الادعاء والفعل، يتشابه إلى حد ما مع الأركان المادية لجريمة تضليل العدالة!

هذا والله أعلم، وهو الموفق للصواب.

 

 

 

 

 

 

 

 

قائمة بأهم المؤلفات والمراجع

١- علي عبدالقادر القهوجي، علم الإجرام والعقاب، دار المطبوعات، الإسكندرية، ٢٠٠٩م.

٢- عوض محمد، شرح قانون العقوبات المصري (القسم العام)، دار المطبوعات، الإسكندرية، 1998م.

٣- عبدالقادر عوده، التشريع الجنائي الإسلامي، ط دار التراث، القاهرة، ٢٠٠٣م.

٤- عبدالمؤمن شجاع الدين، التعليقات على أحكام المحكمة العليا اليمنية.

٥- سمير إسحاق بنات، الجنون كمانع من موانع المسؤولية الجزائية، بحث مقدم لجامعة القدس، فلسطين، ٢٠١٤م.

٦- لطفي الشربيني، الطب النفسي والعقلي، أحكام وتشريعات الأمراض النفسية والعقلية، ط دار مصر للنشر، 2001م.

٧- ياسر خلف الصافي، الاضطرابات النفسية وأثرها على المسؤولية الجزائية، منشورات زين الحقوقية، 2019م.

٨- ضاري خليل محمود، أثر العاهة العقلية في المسؤولية الجزائية، ط مركز البحوث، بغداد، ١٩٨٢م.

٩- وجيه محمد خيال، آثار الشذوذ العقلي والعصبي، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق جامعة عين شمس، ١٩٨٣م.

١٠- محمد السيد عبدالرحمن، علم الأمراض النفسية والعقلية والعصبية، ط مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، ٢٠١٤م.

١١- محمود نجيب حسني، شرح قانون الإجراءات الجنائية، ط دار النهضة العربية، القاهرة، ٢٠١٩م.

١٢- مجلي حسن علي، المسؤولية الجزائية في القانون والقضاء والفقه اليمني، طبعة سلسلة القانون والقضاء والفقه اليمني، ٢٠٠٥م.

١٣- قانون الإجراءات الجزائية اليمني النافذ، رقم (١٣) لسنة ١٩٩٤م.

١٤- قانون الجرائم والعقوبات اليمني النافذ، رقم (١٢) لسنة ١٩٩٤م.