الطريق إلى العدالة الانتقالية في الجمهورية اليمنية
القاضي/ عبد العزيز ضياء الدين البغدادي
مقدمة
نعم العدالة حُلم والعدالة الانتقالية جزء من هذا الحلم الكبير للإنسان الباحث عن الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وهو حُلمٌ بطول الحياة وعرضها على المستوى العام والخاص للفرد والمجتمع.
وحين نصف العدالة بالحلم لانقصد بذلك التيئيس من السعي نحو تحقيقه وإنما التحفيز للعمل من أجل ذلك، لأن الأحلام عند الأحرار ملح حياتهم وعنوان أي نشاط إبداعي يقومون به أو ينوون القيام به فالنوايا أحلام وهي الخطوة الأولى نحو العمل حسب الحديث النبوي الشريف: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، والمعنى هنا اقتران النية بالعمل مع التأكيد بأن العمل هو الأصل أي أنك إذا نويت القيام بعمل ما وبذلت وسعك في إنجازه ثم حالت بينك وبين هدفك أو تحقيق حلمك معوقات خارجة عن إرادتك، فالقاعدة هنا: قوله تعالى: ﴿ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ﴾.
وهذا لا يعني أن النية وحدها تغني، العمل يحتوي على المضمون الذي باتت النية ضمن تكوينه بعد أن تجاوز النية إلى الفعل، ولذلك لا يعاقِب القانون على النوايا مهما كان سوؤها وإنما يعاقِب على كل فعل قام به الإنسان بهدف إحداث فعل مجرَّم وحدثت عنه نتيجة ما، كما يعاقِب على جرائمِ الشروع إذا لم تتحقق النتيجة لأسباب خارجة عن إرادة الفاعل أو التارك لأن الجريمة تكون بالفعل المباشر كما تكون بالترك أي بالسلب أو الإيجاب.
والعدالة الانتقالية من خلال جمع مفهومها بين القانون والسياسة والعدالة فإن انتهاكها للحقوق والحريات يكون بكل الوسائل والإجراءات والسياسات المخالفة للقانون وللسياسات الحكيمة ولا جريمة ولا عقوبة حسب المبدأ الدستوري والقانوني: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون) وكل الجرائم يجب أن تدرج ضمن الأفعال المعاقب عليها سواء كانت السياسة متجهة نحو العقاب أو نحو العفو بالشروط الواجب الالتزام بها والتي يجب أن توضع في الاعتبار عند البدء بالصياغة النهائية لقانون العدالة الانتقالية والعمل على تنفيذه، وهذا مرهون بتحقق شروط إصدار القانون وأهمها:
1- حدوث الانتقال الفعلي من حالة الثورة أو الاضطراب والفوضى والحكم المستبد الذي ارتكب التجاوزات وانتهاكات حقوق الإنسان إلى حالة الاستقرار.
2- انتخاب سلطة جديدة تعبر عن إرادة الشعب وتتبنى مطالبه في عدالة انتقالية تتوفر فيها كل الشروط والأركان المتفق عليها دولياً أو التي طبقت بإشراف الأمم المتحدة في العديد من تجارب الدول التي مرت بأحداث وثورات وانقلابات وتجاوزتها.
3- ولأن هذه الشروط لم تتوفر في التجربة اليمنية لأسباب داخلية وخارجية عديدة بعضها معلوم والبعض الآخر مازال قيد التكتم، ورهن النفاق السياسي السائد المسير للسياسة الدولية فإن صدور ما أسمي بقانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في اليمن عام 2013 صار في حكم العدم.
في هذا البحث تناولت حسب المتاح مفهوم العدالة الانتقالية كمصطلح من مصطلحات القانون الدولي الجديدة نسبياً وشروطها وأركانها، كما قدمت قراءة أولية متواضعة لمشروع القانون المشار إليه آنفاً نشرته فور إصداره بصورة مستعجلة بدفع بعض القوى والأحزاب السياسية التي كان بعضها كما تبين حينها مدفوعاً بدافع الحرص على إخراج اليمن من دوامة العنف التي كانت مؤشراتها واضحة من خلال تكثيف التدخل السعودي في الشأن اليمني وعدم تمكن اليمنيين مع الأسف من جعل مبادرة حل القضية اليمنية بأيديهم وهو سر نجاح كل الحلول في كل مراحل الصراع سواء في اليمن أو في أي بلد في العالم عملاً بالمثل الشعبي اليمني والعربي: (ماحك جلدك مثل ظفرك).
وقد بينت الأحداث والوقائع على الأرض منذ ذلك الحين وحتى اللحظة أن الاستعجال المخل الذي حرك المشروع والعمل على دفن الحقائق والإخلال بمبادئ العدالة وعدم مواجهتها بصدق وصبر وشفافية وروح جهادية حقيقية، وتقديم كل ذلك قرباناً للسياسة والحكمة المزعومة تبين أن كل ذلك هو أساس المشكلة التي دفنا رؤوسنا جميعاً في الرمال وما زلنا كي لا نرى الحقيقة التي هي مفتاح العدالة الانتقالية وقلبها.
في المفهوم:
مصطلح العدالة الانتقالية من أحدث مصطلحات القانون الدولي وهو مصطلح يتكون من كلمتين يرتبط وجود أحدهما بالآخر هما: العدالة، والانتقال فالعدالة مفهوم عام إذا تبعه الانتقالية حوله إلى معنى خاص هو: (العدالة الانتقالية) المعروف اليوم كمصطلح قانوني سياسي يعطي للعدالة معنىً ظرفياً للعدالة ذا معنى تتداخل فيه فروع القانون العام والخاص الدولي والوطني والسياسي بالقانوني، ولكن بما يجعل السياسة خادماً للعدالة وليس العكس !، ولهذا فإننا سنقسم هذه القراءة إلى جزأين الأول: المفهوم العام الدولي للعدالة الانتقالية ويتضمن الجزء الثاني فيتضمن: قراءة أولية لمشروع قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية:
أولاً: المفهوم العام الدولي للعدالة الانتقالية:
يبدو أن محاولة جادة للإجابة على السؤال الذي تضمنته العبارة: (كيف نحول الأخطاء البشرية عدلاً؟)، التي كتبها كبير أساقفة جنوب إفريقيا "ديزموند توثر" على جدار منزله في- كيب تاون- العاصمة، ومعلوم أن جنوب إفريقيا عاشت في ظل نظام التمييز العنصري للحكام الذين هم أقلية من البيض أصولهم هولندية وبريطانية وبرتغالية، وقد استمر نظام الفصل العنصري المعروف ب (الأبارتايد) – مصطلح أصله انجليزي من عام 1948م وهو عام احتلال اليهود الصهاينة لفلسطين، وقد انتهت مأساة جنوب افريقيا عام 1990م عام تحقيق الوحدة السياسية اليمنية المهددة بمخاطر عديدة من الداخل والخارج!
أما مأساة فلسطين فإنها تزداد نمواً وتعقيداً، بفضل السلطات العربية الفلسطينية التي تدار وتغذى انقساماتها وممارساتها السرية والعلنية ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية من مطابخ معلومة مجهولة يساعدها مستوى ضعف الوعي بحجم المأساة وأبعادها وكيفية مواجهتها، ويبدو أن من الواجب أن ترتبط محاولة الإجابة على سؤال الأسقف الجنوب إفريقي عميق الدلالة بمحاولة جادة وفاعلة للإجابة على سؤال مفترض مهم هو: كيف العمل لتحقيق عدالة انتقالية حقيقية وفق معايير الأمم المتحدة والمجلس الدولي لحقوق الإنسان وكل الدول التي طبقت هذه المعايير تطبيقاً فعلياً ولم تتلاعب بالعدالة خدمة للسياسة كما هو حاصل في معظم بلدان إن لم يكن جميع البلدان التي عانت وما تزال من الاضطرابات واستمرار السياسات الخاطئة والاستبداد وممارسة العديد من أشكال التمييز العنصري والعرقي والديني والمذهبي والانتهاكات القاسية لحقوق الإنسان وتغذية النزعات الانفصالية والمناطقية وغيرها من الممارسات؟.
ومن الواضح أن تعاطف شعب وحكومة جنوب إفريقيا ومواقفهم الشريفة الداعمة للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة في كل المحافل والمناسبات تأتي من إدراك ووعي شعب جنوب إفريقيا ثم حكومته بخطورة العنصرية التي عانى منها، ومن المؤكد أن من علامات الدول الحرة والقوية أن يكون الشعب على وعي تام بأنه صاحب السلطة يمنحها من يشاء ويسحب الثقة عن أي حكومة لا تحقق مصالحه ولا تقدم له الخدمة اللازمة ولا تحترم الدستور ومبدأ سيادة القانون، هذا هو المؤشر لوجود شعب مؤهل لفرض وتحقيق عدالة انتقالية بكامل الشروط والمعايير الدولية التي ترسم معالمها وتدعم خطوط سيرها نحو تحقيق السلام- الغاية المرجوة منها.
وهناك تجارب كثيرة للدول التي عانت من انتهاكات حقوق الإنسان وما صنعته في مجال تطبيق العدالة الانتقالية وهي تجارب تختلف من دولة لأخرى إلا أن أقسى تجربة كما هو واضح ما جرى ويجري في اليمن وسنبين أسباب ذلك في الجزء الثاني من هذه القراءة.
محاولة للتعريف:
عرَّفت الأمم المتحدة، والمجلس الدولي لحقوق الإنسان والمحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وبعض فقهاء القانون والسياسة والباحثين العدالة الانتقالية بأنها:
1- في 2010م تبنت الأمم المتحدة التعريف التالي للعدالة الانتقالية: (مجموعة كاملة متكاملة من الآليات المرتبطة بالمجتمع التي تهدف إلى إزالة إرث من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبت على نطاق واسع في الماضي، يكون تطبيق هذه الآليات من شأنه ضمان المساءلة وخدمة العدالة وتعزيز المصالحة)[1].
2- ويرى المستشار عادل ماجد أن من أهم الأحكام التي أسست لمفهوم العدالة الانتقالية: (في شكلها المعاصر حكم المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان في قضية رودريجز ضد هندوراس عام 1988م حيث أكدت أنه تقع على الدول أربعة التزامات أساسية في مجال حقوق الإنسان وهي:
أولاً: اتخاذ خطوات معقولة لمنع انتهاكات حقوق الإنسان.
ثانياً: إجراء تحقيقات جادة بشأن الانتهاكات عند وقوعها.
ثالثاً: فرض عقوبات ملائمة على المسؤولين عن الانتهاكات.
رابعاً: ضمان تقديم التعويض لضحايا الانتهاكات.
وقد أكدت المحكمة هذه المبادئ صراحةً في قراراتها اللاحقة كما تم التأكيد عليها في قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وهيئات الأمم المتحدة ومنها المجلس الدولي لحقوق الإنسان)[2].
أهم أسباب غموض مصطلح العدالة الانتقالية وجذورها التاريخية:
لا يزال مفهوم العدالة الانتقالية محاطاً بكثير من الغموض والالتباس لعوامل عديدة منها:
1- أن المصطلح ما زال حديثاً نسبياً أقصد مفهومه المعاصر أما جذور العدالة الانتقالية حسبما يرى كثير من المؤرخين فهي قديمة قدم التأريخ البشري لارتباطه بالصراع وضرورة تحقيق السلام بعد كل دورات العنف الممتدة امتداد التأريخ، وكذلك الحاجة إلى التعايش لضمان استمرار الحياة والصورة البدائية الأولى لتطبيق المبدأ تعتمد على مدى سماحة القادة المنتصرين في المعارك أو الاجتياحات والغزو وما يجودون به تفضلاً منهم أي أنه مرتبط كلياً بمبدأ قانون القوة، ومع تطور الصراعات والحروب واتساع آثارها الكارثية وبالذات بعد الحربين العالميتين تطورت أساليب البحث عن صيغ جديدة للحوار من أجل تحقيق السلام فحدث تطور هائل من خلال بروز القانون الدولي ومع إنشاء عصبة الأمم ثم منظمة الأمم المتحدة وميثاقها وأصبح للتدخل الدولي في فض النزاعات وحل المشاكل بين الدول قواعد متفق عليها تتطور باستمرار رغم كل المآخذ على آليات فضها والمعايير المزدوجة التي تتحكم في سير العدالة الدولية التي ما تزال تراوح عند نقطة توازن القوة الذي أعطى ما يطلق عليه حق الفيتو في رفض أي النقض أو الاعتراض على أي من القرارات التي تراها الدول صاحبة هذا الحق، وبذلك بقيت شريعة الغاب أو قانون البقاء للأقوى هي السائدة.
ومع ذلك يبقى الأمل كبيراً في تطور منتظر يعطي مكانة أكبر لعدالة دولية لها معنى العدالة الكاملة وهو أمل يحتاج تحقيقه لجهد إنساني ونضال مستمر لكل أحرار العالم.
2- قلة البحوث والسياسات الناجحة حول طرق النجاح في مشروع العدالة الانتقالية التي تتمكن من خلالها المجتمعات من إحداث التغييرات الضرورية الممكنة وبناء أنظمة تنهي آثار الانتهاكات والتجاوزات والمظالم التي كانت سبباً رئيساً في الصراعات والحروب بصيغتها القديمة أسباباً وأسلوباً وشكلاً ومضموناً، ثم ما طرأ على التأريخ البشري من تطور في كل ذلك مع ظهور الثورات المسلحة والسلمية والحروب الجديدة التي استخدمت فيها الأسلحة الحديثة والفتاكة بما فيها أسلحة الدمار الشامل بحثاً عن أساليب جديدة للسيطرة عن تغيير أنظمة الحكم بكل الوسائل ووفق النماذج والتجارب التي شهدها العالم في القرون الماضية وأكثرها حركة القرن العشرين الذي شهد تطورات هائلة ومدهشة بقدر ما شهد من مآس وويلات نتيجة حربين مدمرتين (الحربين العالميتين الأولى والثانية المشار إليهما في البند السابق) راح ضحيتها عشرات الملايين من الضحايا نتيجة تطور وسائل القتل وأسلحة الدمار الشامل والفتاك.
3- عدم وجود قانون عالمي واضح للعدالة الانتقالية ملزم لجميع الدول يشكل مرجعية الاحتجاج الاجرائي ومرتكز للتوعية بمضامين متفق عليها عالمياً يتضمن على الأقل إلزامية القواسم المشتركة التي وردت تعريف الأمم المتحدة للعدالة الانتقالية، وعدم إفساح الدول المهيمنة على النظام الدولي العالمي المجال أمام الشرعية الدولية المحايدة الحقيقية ليكون لها القدرة على التقدم خطوات أكثر عدلاً في فرض السلام في العالم بعيداً عن المعايير المزدوجة، والتوقف عن توظيف العدالة وحقوق الإنسان لأصحاب النفوذ والمصالح المتوحشة ما يعيق تحقيق الأمن والاستقرار بمفهوم أساسه تحقيق العدالة.
ومفهوم العدالة الانتقالية طبقاً لما أسلفنا (يعني الاستجابة للانتهاكات المنهجية الواسعة النطاق لحقوق الإنسان بهدف تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات وظلم وقمع وتعزيز إمكانيات تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية، أي أنها تكييف للعدالة بمفهومها العام على النحو الذي يلائم مجتمعات تخوض مرحلة من التحولات في أعقاب حقبة من تفشي انتهاكات حقوق الإنسان سواء حدثت فجأة أو على مدى عقود طويلة، بعبارة أخرى يربط مفهوم العدالة الانتقالية بين مفهومين هما: العدالة، والانتقال، بحيث يعني تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التي تمر بها دولة من الدول فوصف العدالة بالانتقالية يعني أنها عدالة متعلقة بفترة محددة هي مرحلة انتقال الدولة والمجتمع من حالة طارئة مؤقتة إلى حالة مستقرة مثل الانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلام أو من حال الاحتلال والنزاع الداخلي المسلح إلى حال الاستقلال أو حالة التصالح بين القوى المتصارعة أو انتقال السلطة من سلطة مستبدة إلى مرحلة ديمقراطية حقيقية تفرز سلطة من صنع الشعب واختياره الحر.
في البعد الفلسفي للمصطلح:
ولمفهوم العدالة الانتقالية بعد فلسفي، وممن أشار إلى هذا البعد الأستاذ/ عبد القادر الهواري في بحثه القيم الموسوم بـ: (فقه العدالة الانتقالية) مؤكداً على أن: (جذور العدالة الانتقالي وبعدها الفلسفي قديمة حيث نجدها في فلسفة الأنوار من خلال فلسفة (هوبز) ونظريته حول المجتمع المتصارع، مروراً بـ: جان جاك روسو ونظرية العقد الاجتماعي التي تفرض عدة تنازلات من جميع الأطراف، وصولاً إلى الفلسفة الميكافيلية) التي حاولت العدالة الانتقالية من خلالها إيجاد حلول ظرفية لمشاكل معقدة لماضي المجتمعات، وهذا ما أدى إلى فشل أغلب هذه التجارب من خلال إعادة فتح ملفات الانتهاكات الجسيمة في العديد من الدول لأن الضحية يعيش مرة واحدة لكن التأريخ تتقاذفه أمواج المستقبل)[3].
ومن يستفيد من التأريخ هو من يتعمق في استخراج إيجابياته والاستفادة منها في أي مجال ومعرفة السلبيات وتجنبها لأن التأريخ يجب أن يكون ملك الإنسان لا عبئاً عليه.
من المبادئ والاستراتيجيات التي تتأسس عليها العدالة الانتقالية:
أولاً: المبادئ:
1- مبدأ المساواة: وهو المدخل لتحقيق العدالة عموماً والعدالة الانتقالية صورة من صور تحقيق العدالة، وشروط العدالة الانتقالية تعطي المجتمع المدني المعبر عن الروح الإيجابية المحبة للسلام بكل تفاصيله دوراً في تحقيقها، ولأن العدالة الانتقالية تتصل بداهة بالمرحلة الانتقالية لأي دولة لارتباطها كما أسلفنا بالانتقال من حالة اللااستقرار والفوضى وانتهاكات حقوق الإنسان بكل صورها وأسبابها ومسببيها فإنها تقتضي دائماً درجة عالية من الحرص على تحقيق العدالة نظراً للخشية من روح الانتقام التي تسيطر غالباً في هذه المرحلة، ومن المؤكد أن تحقيق مبدأ المساواة لا يتم إلا بواسطة سلطة قضائية مستقلة عادلة كفؤة تمتلك ثقافة قانونية وسياسية وفكرية تمكنها من استيعاب شروط ومتطلبات العدالة الانتقالية القانونية والسياسية ومعرفة دقيقة بكيفية التعامل مع منظمات المجتمع المدني وقواه الحية عموماً لأن هذا النوع من العدالة يقوم على الحوار الجاد حول كيفية طي صفحة الماضي ونسيانها وبدء صفحة جديدة.
يقول المحامي محمود داوود يعقوب في دراسة نشرت على الإنترنت (هناك بصيص نور جاء من محكمة التعقيب (المحكمة العليا) التي أقرت أخيراً في قرارها الجزائي عدد (87807 / 87808) بتأريخ 2/ نوفمبر/2011م مبدأ غير معمول به في القضاء الجزائي التونسي (وهو مبدأ المساواة أمام القضاء والقانون بالنسبة لكل المتداخلين في ارتكاب الجريمة (يقصد بالمتداخلين هنا– المتهم والمجني عليه أو من يمثلهم قانوناً وكذلك النيابة العامة).
والمساواة في المرحلة الانتقالية من أكثر الأمور تعرضاً للانتهاك نظراً لما يصاحبها عادة من انفلات أمني وتفشي الملاحقات الانتقامية ما يتوجب جهوداً خاصة لمحاولة ضمان توفير محاكمة عادلة ولذلك فإن الجهود الدولية مطلوبة لتعزيز قدرة الدولة على الحد من آثار تلك الملاحقات والانفلات الذي يطغى في البلاد التي تمر بحالة الانتقال، ويقول يعقوب: ( ويلاحظ العديد من المتابعين للشأن المحلي أن مبدأ المساواة هذا الذي يفترض أنه قاعدة دستورية عامة لم يقع دائماً تطبيقه على الوجه المرض من قبل القضاء ويشير هؤلاء إلى أن العديد من المسؤولين والمقربين من الرئيس السابق يقصد (زين العابدين بن علي) لم يقع توجيه اتهام لهم ومن باب أولى لم يقع ايقافهم رغم ثقل الجرائم المنسوبة إلى بعضهم ومظاهر الثراء الفاحش المنسوبة إلى البعض الآخر أما من تم إيقافهم فإنهم يؤكدون خلال المواقع الاجتماعية أنهم أوقفوا فقط بحكم أسمائهم ووظائفهم ولم يوقفوا بحكم ثقل جرائمهم أو حجم انتفاعهم بالمال العام).
ويؤكد (إن المساواة التي أقرتها محكمة التعقيب تقتضي معاملة الجميع على قدم المساواة وذلك بالعمل بالمبدأ (حتى وإن اشتمل على استثناءات مبررة قانوناً) وهو إيقاف جميع المتورطين أو إحالة جميعهم في حالة سراح حتى لا يترك المجال لتأويلات قد تمس بمصداقية مؤسسات الدولة).
ويعلق على ما ذهبت إليه المحكمة بقوله: ( يمكن القول أن هذا القرار يعيد الأمل في أن يعمل القضاء على تحقيق مبادئ الثورة التي جاءت لتهدم النظام الديكتاتوري القمعي ثم لتبني مكانه نظاماً ديمقراطياً حراً فالثورة لا يجب أن تهدم فقط مثلما يريد لها بعض من ركبوا عليها من فاقدي الشرعية خدمة لأجندات سياسية معروفة في مرجعياتهم الأيديولوجية لا خدمة للشعب وتحقيقاً لطموحاته حدث كل هذا في ظل حكومات انتقالية سابقة مفتقدة هي أيضاً للشرعية فحاولت من خلال تصفية بعض الحسابات والزج ببعض المسؤولين السابقين في السجن لتهدئة الشارع وخدمة لطموحات سياسية أُصيبت بخيبة أمل منذ بدء تركيز أجهزة الدولة الشرعية.
وتحدث الكاتب عن ضرورة سرعة الفصل في قضايا العدالة الانتقالية مع ضبط آليات تحقيقها عبر كشف الحقيقة في أسرع وقت مشيراً إلى أن لب الإجراءات الجزائية يقوم على فكرة ارتباطها بمصلحتين لا تقل كل منهما عن الأخرى أهمية (مصلحة المتهم ومصلحة المجتمع).
ويضيف: (طبيعة القوى التي حملت الثورة منذ البداية وأدواتها المستخدمة هذه القوى كانت ذات طابع نخبوي– لم تسمح بتشكل الثقافة السياسية للمجتمع بعيداً عن رقابتها وتدخلها بشروط غالباً ما حاصرت المسار الثوري بقوائم الممنوعات والمحرمات والخطوط الحمراء وهي القوائم التي كان هدفها في الأساس حماية نخب الحكم من الثورات المصادرة غير أنه وإن كانت هذه النخب قد حمت نفسها من احتمالات إعادة إنتاج الثورة وذلك بالتحكم في مسارات الحياة السياسية اللاحقة بصورة قمعية إلا أنها لم تستطع أن تحمي نفسها من نزعة إنتاج الزعيم بما رافقها من صراعات وتصفيات وهكذا فقد كان إنتاج الزعيم الأوحد على حساب الثورة سواءً من داخلها أو من خارجها هي السمه الغالبة التي آلت إليها هذه الثورة والثورة التي آلت إلى قبضة الزعيم لا بد من إعادة بنائها في الوعي على أنها لا تشبه الثورات الحقيقية وأن خللاً ما جعلها عرضة لمثل هذا الاغتصاب).
2- ضرورة التفاعل بين العدالة الانتقالية وهيئات صياغة الدستور: لأن الدستور هو محور بناء الدولة وهو أساس تحقيق الشرعية الدستورية وكل نشاط عام للأفراد والمجتمعات والسلطات كذلك، ولذلك: (حيثما تعمل هيئات صياغة الدستور ولجان تقصي الحقائق (أو هيئات العدالة الانتقالية المماثلة) بشكل متزامن، ينبغي أن تسعى بشكل استباقي إلى البحث عن فرص لمناقشة نتائجها ومساراتها مع بعضها البعض، وأن تتشارك الفرص لتقديم هذه المعلومات لعامة الشعب والسعي للحصول على مساهمات شعبية)[4].
أين هذا مما حصل في اليمن، لقد تم تهريب لجنة صياغة الدستور إلى ألمانيا ثم إلى الإمارات لعزلها عن أي تواصل مع أطراف شعبية أو منظمات مجتمع مدني بل حجب عنها التواصل مع أي شخص عدا عبد ربه منصور هادي وأحمد عوض بن مبارك من اليمنيين أما غيرهم فالله والراسخون في... من هم؟!!
وهذه واحدة من أهم عوامل وعلامات السعي لإعاقة عملية انتقال السلطة، الشرط الأساس أو الخطوة الأولى الممهدة لعدالة انتقالية حقيقية التي لا يمكن أن تتحقق بدون التسليم الفعلي بأهميتها والعمل الجاد على تحقيقها وعدم إجهاضها بالصفقات المشبوهة لتقاسم السلطة بين مراكز القوى النافذة أو القوى التي تسيئ استخدام القبيلة والدين لتحقيق مصالح ذاتية!
3- ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يتم بشكل إيجابي وبما يصون المصلحة العامة ويحقق السلام الاجتماعي إلا بنظرة واعية والوصول إلى يقين بأنه: (لا يمكن التقدم للأمام وتحقيق أي انتقال ديمقراطي ما لم تتم معالجة ملفات الماضي فيما يتعلق بتلك الانتهاكات؛ وهذا الأمر يجب أن لا يقوم على الثأر والانتقام ولا على الطي العشوائي لملفات الماضي ونسيانها، وإنما من خلال الوصول إلى حقوق عادلة ترتكز على مسلَّمة مفادها، أن السياسة القضائية المسؤولة عن تلك الملفات يجب أن تتوخى هدفاً مزدوجاً وهو: المحاسبة على جرائم الماضي ومنع الجرائم الجديدة من الوقوع وفق استراتيجية تعتمد إعادة بناء لمستقبل يسع الجميع قوامه احترام حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون) [5].
4- ومن الأمثلة التي تؤكد دور السياسة في خدمة العدالة الانتقالية ما جرى في تجربة إندونيسيا، ونيبال حيث: (تم استخدام المعايير والقواعد الدولية في القضايا المعروضة على المحاكم للبت في مشروعية تشريعات العدالة الانتقالية وفي كلتا الحالتين ألغى القضاة بعض التشريعات المتعلقة بالعفو مما أدى إلى توقف عمليات العدالة الانتقالية توقفاً تاماً).
كما رفض المجتمع الدولي على الأقل في حالة نيبال دعم عملية العدالة الانتقالية حتى يتم تعديل القانون ذي الصلة، مما أدى إلى حرمان لجنة الحقيقة والمصالحة واللجنة المعنية بالتحقيق بشأن الأشخاص المختفين قسرياً الضعيفة بطبعها من الناحية المؤسسية، من الدعم المالي أو التقني وكان الضحايا هم الأكثر تضرراً من هذا النقص في الدعم.
من الضروري تحقيق توازن بين النظرية والاعتبارات العملية عند دعم العمليات الانتقالية وعدم الإصرار على جانب "الكمال" على حساب جانب الجودة، بوضع هذا التقرير، دون اقتراح الخروج عن المعايير والالتزامات الأساسية المتعلقة بحقوق الإنسان، كيف يمكن للتفاعل بين العدالة الانتقالية وبناء الدستور أن يساعد في خلق توازن بعض المطالب المتضاربة الملقاة على عاتق العمليات الانتقالية، ويوضح كذلك مدى أهمية التسوية السياسية الأساسية[6].
5- كما أن الاعتقاد بأن المبالغة في العفو والمسارعة في منح الحصانات لمن ارتكبوا جرائم جسيمة خلال حكمهم أو ممارستهم لوظائفهم عقب أي محطة صراع، وأنا هنا لا أخصص أحداً بعينه ولكني أتحدث عن مبدأ مؤداه أن هذا الاعتقاد بسلامة المبالغة في العفو لأي سبب اعتقادٌ خاطئ لا يفيد المجتمع ولا الحاكم المغادر للسلطة أو القادم إليها، بل هو تفريطٌ يبلغ حد اعتباره جريمة غايتها وركنها المادي يؤدي إلى تحقق الركن المادي لجريمة إنكار العدالة ويبقي سبب المشكلة بالمحاولة الفاشلة والبائسة في إخفاء جرائم لا تنتهي بالتقادم، وأي تصرف من هذا القبيل لا يلغي صفة الجرائم المرتكبة ولا صفة من ارتكبها أو يخفف من آثارها وإنما على العكس يؤدي إلى تعليق تحقيق السلام الاجتماعي واتساع تداعيات وآثار روح الانتقام التي لم تعالج بالبحث الجاد عن لغة وآليات مقبولة للمحاسبة والمساءلة أو الوصول إلى قبول بالمسامحة من قبل الضحايا مع ضرورة جبر الضرر لبث روح التسامح بديلاً عن المحاكمة العادلة عدالة تامة!
ثانياً: الاستراتيجيات:
ومن خلال المواثيق الدولية والمعاهدات والاتفاقات واصول القانون والفقه القانوني الدولي والوطني يتبين أن برنامج العدالة الانتقالية وفقاً للمفهوم العام يرمي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف تشمل:
1- وقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان.
2- التحقيق في الجرائم الماضية.
3- تحديد المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان ومعاقبتهم.
4- تعويض الضحايا.
5- منع وقوع انتهاكات مستقبلية.
6- الحفاظ على السلام الدائم.
7- الترويج ودعم المصالحة الفردية والوطنية.
قراءة أولية في مشروع قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية:
قبل القراءة:
هذه القراءة كتبت ونشرت عقب تقديم مشروع القانون إلى مجلس النواب في 2013م أي قبل تحقق الشرط الأساس لقانون فاعل للعدالة الانتقالية وهو الانتقال الفعلي للسلطة من السلطة التي قامت الثورة من أجل تغييرها، وكانت القوى والعناصر المسؤولة عن الجرائم والتجاوزات وانتهاكات حقوق الإنسان ما تزال مسيطرة على مفاصل الدولة والقوات المسلحة والأمن وما تزال أيديها على الزناد أي أن الشرط الأساس لوجود عدالة انتقالية لم يتوفر، بل ولم يتحقق الشعار المثير للجدل الذي رددته ساحات ما عرف بثورات الربيع العربي في فبراير2011م (الشعب يريد إسقاط النظام) تقليداً لما رددته الثورة التونسية في ديسمبر 2010م ثم الثورة المصرية في 25 يناير2011م فاليمنية في 11 فبراير2011م لتأتي الثورة الليبية في 15 فبراير 2011م، وما جرى بعد ذلك من تحركات في كل من سوريا والجزائر والبحرين والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وهي التحركات التي أخمدت بسرعة وبقسوة ووحشية مسكوت عنها من دعاة رعاية وحماية حقوق الإنسان في العالم، وكلها أحداث وثورات بحاجة إلى دراسة معمقة للتعرف على العوامل الداخلية لتحريكها واندلاعها وأسبابها الحقيقية التي اختفت نتيجة التحريك الموجه باسم الثورة على حساب الثورة الحقيقية التي اجهضت، وعلاقة كل ذلك بما أطلقت عليه مستشارة الأمن القومي حينها كونداليزارايس: (الفوضى الخلاقة) وهل كانت عملية إجهاض لثورات حقيقية كانت عوامل انفجارها تعتمل وتتفاعل ربما لتكون ثورات ناجحة تؤدي إلى تغيير فعلي تستقر بعدها الأوضاع على حال تتحقق من خلاله أحلام من خرجوا طلبا للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والسلام بمفهومها العام والشامل.
هذه إشارة فقط إلى المشهد العام لساحة ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي، وهي الساحة التي كانت اليمن إحدى صفحاتها بكل تجلياتها وإخفاقاتها والتي ما تزال تداعياتها مستمرة، وكان كثير من المراقبين في الإقليم والعالم يأمل أن تكون تحركات الشعب اليمني تعبيراً فعلياً عن حقيقة (الحكمة اليمانية) وهي حقيقة تأريخية تحفظها تفاصيل التراث والآثار التي أشار إليها الأستاذ الدكتور المؤرخ العربي العراقي جواد علي رحمه الله في كتابه العظيم (المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام) والذي أشار فيه إلى أن تأريخ اليمن لو كشف عن أسراره لغير كثير مما علق بالتأريخ العربي من تزوير ولأعطي لليمن المكانة الرفيعة التي يستحقها.
لا نقول هذا من باب التعصب أو الاستمرار في ترديد المفاخر التي تلهي عن العمل والبقاء أسيري الماضي وإنما للبحث الجاد في كيفية النهوض والخروج من هذه الحالة الوجودية الغريبة والمخجلة فالتأريخ ملك الإنسان لا العكس وهكذا يجب أن تكون النظرة إليه.
نعم (الحكمة اليمانية) بحاجة لمن يبحث عن أسباب غيابها أو تغييبها وهذا حلم كل محبي اليمن من العرب والإنسانيين المخلصين وعشاق هذا البلد العريق.
لقد تبين من خلال الوقائع على الأرض منذ اندلاع ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي أن القاسم المشترك بين هذه الأحلام الثورية، هو افتقارها لقيادة مؤسسية موحدة وأهداف واضحة وخطط مدروسة تحققها تحقيقاً منجزاً وكاملاً يمنع الانزلاقات التي وقع فيها أغلبها.
طبعاً الأحكام العامة المطلقة خطأ مطلق، لأن التفاصيل والاختلافات النسبية بين هذه الثورات والأحداث والاضطرابات بحاجة إلى دراسات موضوعية مفصلة تتناول الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية والعوامل والأسباب الداخلية والخارجية لكل بلد والتي ساهمت في إفشالها وإعاقة تحقيق أهدافها.
وفيما يلي القراءة الأولية في المشروع المنشورة عام 2013:
جاء مشروع القانون استجابة سريعة للاتفاق السياسي المسمى بالمبادرة الخليجية ولهذا فقد اتسم في عمومه بمحاولة التجاوب مع رغبات التكتيك السياسي دون مراعاة أسس العدالة بمعناها المطلق بحيث طوع العدالة للسياسة ويتبين ذلك من خلال:
1- الإطار العام للمشروع:
نلاحظ أن المشروع قد قام على افتراض إمكانية الفصل من حيث المضمون بين العدالة بمعناها العام وبين المصالحة الوطنية والجمع بينهما من حيث الشكل الأمر الذي يمكن أن يؤدي كما سنرى إلى ضياع العدالة والمصالحة معاً فمن حيث تسمية المشروع حضرت العدالة الانتقالية في البداية مشروع (قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية)؛
وحين نتأمل مواد المشروع لا نجد أي مادة من المواد التي تحكم بوضوح كيف يتم تحقيق العدالة الانتقالية باعتبارها طريق تحقيق المصالحة الوطنية بل ونلاحظ أن المشروع يوحي بأنه قد تم الابتعاد كلياً عن مجرد الإشارة إلى أهمية المحاكمة العادلة كركن أساس من أركان العدالة الانتقالية ويرجع هذا كما يبدو إلى أن مفهوم الحصانة الذي صدر بشأنها قانون أثار ولا يزال يثير جدلاً واسعاً على المستوى الوطني والإقليمي والدولي باعتبار أن مثل هذ القانون لم يسبق له مثيل في التأريخ على مستوى العالم من حيث خروجه على النظام العام الدولي ومخالفته مبادئ المشروعية الدولية بل والقانون الطبيعي فبالعودة إلى أغلب المرجعيات المتعلقة بالعدالة الانتقالية مثل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة حول العدالة الانتقالية لعام 2006م ونظام محكمة روما للمحكمة الجنائية الدولية والعدالة الانتقالية 1998م ووثيقة مؤتمر الديمقراطيين العرب في مايو 2007م وبالرجوع إلى الأهداف الاستراتيجية السبعة المستخلصة من تلك المواثيق والاتفاقات التي أوردنا بعضها في المفهوم العام الدولي للعدالة الانتقالية نلاحظ أن مفهوم العدالة الانتقالية يقوم على تحقيق جملة الأهداف المذكورة.
أي أن المصالحة الوطنية التي اختصها المشروع لتكون معطوفة على العدالة الانتقالية ليست إلا الهدف الأخير لاستراتيجية العدالة الانتقالية وكأن موقعها هذا يبين لنا ضمناً أن المصالحة الفردية والاجتماعية والوطنية الشعبية والرسمية انما تأتي كمحصلة أو تتويج لتحقيق باقي أهداف تحقيق العدالة الانتقالية.
ومن المفترض ونحن نتحدث عن العدالة الانتقالية أن نكون فعلاً بصدد الانتقال السلمي والسلس من وضع ديكتاتوري تسلطي إلى وضع ديمقراطي دون أي مواربة أو تهديد أو التباس وأن الانتهاكات يجب أن تتوقف نهائياً وأن يتم القبول بتحقيق شفاف لمعرفة مرتكبيها وتقديمهم للعدالة، فقد ركز قانون روما وكل الاتفاقات وقرار الجمعية العمومية حول العدالة الانتقالية على ضرورة توفير المحاكمة العادلة في المراحل الانتقالية وتجنب المحاكمات غير العادلة وممارسات الانتقام وهنا يجب أن تتضافر الجهود الدولية والوطنية لتحقيق هذا الهدف منعاً لفوضى الانتقامات، وفي سبيل ذلك أنشئت محكمة الجنايات الدولية أي تلافياً لعدم الإفلات من العدالة.
حول العدالة والمصالحة الوطنية بين الوصل والفصل:
جاء في تعريف العدالة الانتقالية المصطلح الأخير من المادة (2) من المشروع أنها (العدالة التصالحية غير القضائية) للكشف عن الحقيقة وجبر ضرر الضحايا وحفظ الذاكرة الوطنية ومنع تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المستقبل).
وفي رأيي أن هذا التعريف رغم شموله لعناصر مهمة من شروط وعناصر العدالة الانتقالية إلا أنه فيما يتعلق بما أطلق عليه (العدالة التصالحية غير القضائية) غير موفق وغير دقيق من عدة وجوه.
فالعدالة أولاً هي العدالة، لا يوجد تعريف للعدالة غير التعريف العتيق الذي يعني أنها تعني: إحقاق الحق وإبطال الباطل وهي بالضرورة لا تتحقق إلا بالمحاكمة العادلة كما أوضحنا أما التصالح فهو مفهوم يعود إلى تحقيق عدة عوامل منها رضاء المجني عليهم أو من انتهكت حقوقهم أو نهبت ممتلكاتهم أو كانوا ضحايا للنزاعات بأي شكل وتحقيق العدل بمعنى عدم إفلات أحد من العقاب أو على الأقل الاعتراف بالخطأ أو بالفعل المجرم المرتكب بحق الضحايا ولهذا ارتبطت المصالحة في كل التجارب الفردية والوطنية في الدنيا كلها بالمصارحة أي بالكشف البين والواضح عن الحقيقة إما عن طريق القضاء أو من خلال اعتراف من أذنب بذنبه وطلب الصفح و من خلال جبر الضرر ولا بد كذلك أن يكون من ارتكب الجرائم أو الانتهاكات قد ترك السلطة والعمل الرسمي أو العام أو السياسي.
ولا أدري لماذا استخدمت عبارة العدالة غير القضائية في المادة (2) المذكورة؛ ومن الواضح من مجمل المشروع المكون من (18) مادة أن الهدف من المصالحة الوطنية أن معد المشروع قد رأى إمكانية الفصل بينها وبين العدالة ولهذا نرى أنه وقع في عدة أخطاء مع الأسف لا تؤدي إلى المصالحة الوطنية الحقيقية ولا إلى العدالة لأن محركه نحو تلك الغاية كان محركاً سياسياً بحتاً شأنه شأن المبادرة الخليجية، ولذلك لم يراع قواعد العدل والإنصاف والمساواة، لكنه حاول أن يتمثل إرادة معد المبادرة الخليجية بغض النظر عما وقعت فيه من أخطاء جوهرية إنسانياً وحقوقياً وأخلاقياً وهو الخروج على مكتسبات حقوق الإنسان وقواعد العدالة والقانون الطبيعي، لهذه العوامل وغيرها من شروط وقواعد العدالة الانتقالية المتعارف عليها والمتفق عليها وفقاً للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني واتفاقات حقوق الإنسان فإن أساس القانون ينتهك بشكل صارخ النظام العام الدولي.
ولما كانت العدالة بمفهومها العام غير قابلة للتسييس بمعنى إخضاعها للرغبات السياسية، لا بل إن كثيراً من العقائد تجعلها مقدسة لذاتها أي غير قابلة للتعصب الديني أو أي نوع من الانحياز باعتبارها استخلاصاً لكل القيم الدينية والأخلاقية وحقوق الإنسان، وعلى سبيل المثال فإن الآية القرآنية: (يا أيُها الذين آمنوا لا يجرمنكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) [المائدة:8]، الآية ربطت التقوى وفق أي دعوى بعدم جواز أن يخص بالعدل قوم لموالاتهم ويحرم منه آخرون لعدم موالاتهم أو لأن بينك وبينهم عداوة أو بغضاء أي التأكيد على حيادية العدالة مطلقاً.
وطبقاً لهذا المبدأ لا يمكن أن تقوم العدالة على أي نوع من المجاملة أو المناورة السياسية بغرض توظيفها في خدمة السياسة أو إغماط الحقوق بحجة دفن الماضي لأن التجارب الإنسانية في البلدان التي طبقت العدالة الانتقالية قامت على المكاشفة والوضوح وبناء المصالحة على المصارحة ومن ثم جبر الضرر وقد نُظر إلى أهداف العدالة الانتقالية السبعة التي أوردنا باعتبارها ساندة لبعضها، وتأكيداً لأهمية السير في طريق بناء وطن يخلو من الحقد والغل والبغضاء ويقوم عل الحب والتسامح.
وإذا كان الناس يختلفون في فهم قيمة التسامح فإن الواجب أن يكون هناك جهد واضح ليكون مبنياً على أسس متينة وقوية كي يبنى السلام الدائم ويتم المحافظة عليه من الجميع أما سياسة إغلاق الملفات أو إحراقها دون وضوح ودون مكاشفة فإن هذه السياسة لا تؤدي إلا إلى ترحيل الأزمات واستمرار دوامة العنف التي عانى منها اليمن، وواضح من مجمل المشروع أنه قد ركز على المصالحة وأهمل العدالة أو لم يعطها ما تستحق وكأنه أراد تأجيل المسألة لحساسية الأوضاع.
لذلك كان بإمكان واضع المشروع أن يتجنب تسميته بقانون العدالة الانتقالية وأن يكتفي بالشطر الأخير بحيث تكون التسمية (مشروع قانون المصالحة الوطنية) وأن يدع تحقيق العدالة لحين تتهيأ الظروف لأن العدالة غير قابلة للتحوير السياسي، ونرى أن المصالحة الوطنية أيضاً بحاجة إلى توفر روح العدالة وإلى وضوح في المفاهيم وأن يتوخى القانون أياً كان الاسم تحقيق أهداف العدالة الانتقالية أو بعضها على الأقل ولو بصورة مرحلية ولكن هذه المرحلية تحتاج كذلك إلى خطوات جادة وتتسم بقدر من السرعة والدقة والوضوح والحرص على ضبط المصطلح النظري بالواقع العملي وهذه المعادلة على درجة كبيرة من الصعوبة!
وحينما نقول بأن مشروع قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يغلب عليه الطابع السياسي على الطابع القانوني والحقوقي فإننا لا نقصد ضرورة الفصل الآلي والقطعي بين السياسة والقانون لأن هذا مستحيل بل يخالف معنى المصطلح الذي يجمع بين القانون والعدالة والسياسة ويتطلب جهازاً قضائياً وقضاة على مستوى من الكفاءة والقدرة والثقافة الواسعة، وما نرمي إليه هو أن السياسيين عليهم أن يفسحوا المجال ليكون القانون مبنياً أصلاً على أصول الفقه القانوني ومبدأ المشروعية، وأن يكون لديهم الاستعداد لأن يكونوا عوناً لبناء منظومة قانونية سليمة تصب في نهاية المطاف في مصب التأسيس لبيئة سياسية وقانونية وقضائية قائمة على أسس متينة غير قابلة للاهتزاز وتكرار الأزمات!
إن سلق القوانين والدساتير لتلبي رغبات وأمزجة من قفزوا في مراحل معينة إلى مواقع هامة في السلطة قد جعل من هذه القوانين والدساتير مجرد أدوات في يد الحاكم المستبد.
وبذلك فقدت القاعدة القانونية خصائصها المعروفة في الفقه القانوني كونها عامة ومجردة وتنظم علاقات وأنشطة اجتماعية وملزمة.
فهذه العناصر أو الخصائص هي المرتكز الذي يقوم عليه واجب احترامها.
وواضح أن سلق القوانين والتشريعات والدساتير وعدم احترام وجود بيئة قانونية تتسم بالاستقرار النسبي على الأقل ويتوفر فيها المناخ الملائم لتكون صادرة بناءً على دراسة علمية كل ذلك ناتج عن المناخ السياسي المضطرب الذي انعدمت فيه الرؤية الوطنية تغلبت فيها رغبات الحاكم الذي استباح كل مقدرات الوطن المادية والثقافية والمعنوية، بل والأخلاقية وصار بحكم الصلاحيات المطلقة التي سطا عليها هو الآمر الناهي القادر على كل شيء والعياذ بالله، وهو من يجب أن يعبر القانون عن ضميره ولهذا فإن وزارة الشئون القانونية وكل مهتم بالشرعية الدستورية والعدالة تقع عليهم مهام بالغة التعقيد.
إلا أنني أكثر تفاؤلاً وأملاً في أن يبذل المختصون في وزارة الشئون القانونية الجهود المطلوبة منهم وأن يجدوا الدعم اللازم لتذليل الصعاب كي يجدوا الطريق سالكاً للبدء بجعل أساس التشريع هو الالتزام بمقتضيات علم القانون وفي مقدمة كل ذلك أن تكون مشاريع القوانين التي تقدمها الوزارة أو تساهم في تقديمها مبنية على البعد الوطني العام وأن تكون كل قاعدة قانونية ملتزمة بخصائص القاعدة القانونية العامة والأمل والتفاؤل يرجع لسببين رئيسيين أولهما أن النظام في طريقه للتغيير بفضل تضحيات شهداء الثورة وثانيها وجود زملاء جاؤوا من بيئة وخلفية علمية ومجتمع مدني ولديهم مقدرة وروح مثابرة على الابداع واحترام مبدأ العدالة وفي ظل المناخ الجديد ربما يجدون من خلال هذا المناخ مجالاً لإطلاق قدراتهم وطاقتهم التي قيدتها بنية السلطة غير المؤسسية أي القائمة على الأمزجة والأهواء.
ولاشك بأن وزارة الشئون القانونية ستجد نفسها غير قادرة على تأكيد هذا المنطلق ما لم توجد سلطة تشريعية لديها علم بمبادئ التشريع على الأقل ولذلك فإن على الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة ومنظمات المجتمع المدني مسؤولية أيضاً في الدفع بالعناصر المؤهلة قانونياً ومن تتمتع بالحس الوطني المسؤول إلى قبة البرلمان في ظل انتخابات نزيهة طبعاً فَقد عانينا أكثر من جيل كان فيه التزييف والتزوير منهجاً ممولاً بالمال العام!
2- ملاحظات حول بعض مواد المشروع:
الملاحظات العامة السابقة إذاً قد ركزت أساساً على قضية جوهرية وهي محاولة واضع المشروع الفصل بين العدالة والمصالحة من خلال ابتكار ما أسماه بالعدالة غير القضائية اعتقاداً منه أن ذلك قد يلبي السياق العام والبعد السياسي الذي بدى أن واضع المشروع قد حرص من خلاله أن يبدو ملتزماً بالمبادرة.
وقد رأينا أن الفصل شكلاً وموضوعاً بين العدالة والمصالحة ربما كان فيه بعض الاحترام للعدالة وهو أمر أكثر قبولاً سياسياً وأخلاقياً وفيما يلي ملاحظات أولية على بعض مواد المشروع انطلاقاً من هذا الرأي وما بني عليه من أسباب:
1- المادة (2) أرى أن تحذف الفقرات الخاصة بالعدالة الانتقالية.
2- المادة (3) الفقرة (2) أرى أن تصاغ كما يلي:
(اتخاذ الإجراءات اللازمة نحو المكاشفة والوضوح في بيان تصرفات الأطراف السياسية خلال الفترة المشمولة بأحكام هذا القانون وضمان التعويض المادي والمعنوي لمن عانوا خلال تلك الفترة وجبر الضرر المعنوي من أجل إنصافهم والمصالحة معهم.
3- (المادة 6/أ) المتعلقة بتشكيل هيئة الإنصاف من (9) أفراد من الرجال والنساء) لم توضح الفقرة كم عدد النساء وعدد الرجال كما أن الفقرة (1) من الشروط التي ينبغي أن تتوفر في عضو الهيئة تقول: أن يكونوا من ذوي التخصص والتأهيل في مجال عمل الهيئة هذا الشرط غير دقيق إذ كان ينبغي تحديد التخصص.
4- في المادة (7) جاء في الفقرة (أ) من المهام واختصاصات هيئة الإنصاف والمصالحة التحقيق في كل الادعاءات ذات المصداقية بكل انتهاكات لحقوق الإنسان حدثت بسبب النزاع بين الحكومة والمعارضة أثناء الفترة من يناير 2011م إلى آخر الفقرة.
وعلى هذه الفقرة أسجل الملاحظات التالية:
1- حبذا لو يعاد صياغتها بحيث يراعى الاختصار واستيعاب الملاحظات التالية:
2- النزاع الذي حدث أقدر أن اطلاق كلمة نزاع ناتج عن تجنب كلمة الثورة وهذا محكوم بكون الحكومة المقدمة للمشروع هي حكومة وفاق طبق المبادرة إلا أن النزاع لم يكن بين الحكومة والمعارضة فقط بل بين السلطة بالأصح وليس الحكومة لأن السلطة أشمل من الحكومة وبين المعارضة والشباب والفئات الشعبية المشاركة في الثورة أو الانتفاضة أو الاحتجاجات.
3- حبذا لو أزيلت كلمة (الضعيفة) التي وردت في نهاية الفقرة (أ).
على النحو التالي: (اهتماماً خاصاً بالقضايا التي أثرت على الفئات الضعيفة في المجتمع من النساء والأطفال وغيرهم) ويمكن أن يعاد صياغة العبارة كما يلي:
(التي أثرت على النساء والأطفال وغيرهم من الفئات الأكثر تضرراً بحكم الواقع الاجتماعي) فالمرأة ليست عنصراً ضعيفاً كامرأة.
5- المادة (9) فقرة (ب) توضح الأغلبية بأنها الأغلبية المطلقة النصف + 1.
6- المادة (10) فقرة (ج) تقوم الحكومة بتسديد التعويضات المحددة بقرارات الهيئة خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من تأريخ صدور قرار الهيئة بمنحها.
7- (المادة (11) فقرة (2) حذف كلمة الضعيفة واستبدالها بعبارة الفئات الأكثر تعرضاً للانتهاكات).
8- (المادة (13) فقرة (د) دراسة وضع الفئات الأكثر تعرضاً للانتهاكات واقتراح الخطوات التي تضمن تمتعها بكافة الحقوق وتمكنها من أداء دورها في التنمية وبناء الدولة المدنية الحديثة).
يبقى أن أشير إلى أن القانون فيما خص المصالحة الوطنية طبقاً للظروف السياسية القائمة بذل فيه جهد يستحق التقدير والنقاش أما مدى قابليته للتطبيق فإنه رهن بما سيبذل من جهود في سبيل الوصول إلى وعي بأهمية المصالحة القائمة على المصارحة لدى الفرد والمجتمع والمؤسسات وفهم جوهر القانون وأهدافه والعمل من أجل إنجاحه من خلال التعاون مع هيئة الإنصاف والمصالحة وقبل ذلك في اختيارها من عناصر على مستوى المهمة الوطنية الكبيرة وبعيداً عن أي محاصصة من هنا يمكن أن يكون القانون منطلقاً نحو حوار جاد يحقق العدالة والتفاهم للوصول إلى مصالحة جادة تخرج اليمن من دوامة العنف مما يساعده على البدء الفاعل للسير في طريق البناء والتنمية الحقيقية الشاملة.
أخيراً: من خلال هذه القراءة الموجزة لمشروع قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية تبين لنا استحالة الفصل بين العدالة والمصالحة وأنه لا يستقيم الجمع بينهما من حيث التسمية والتفريق من خلال عدم وضع ضوابط وأحكام واضحة لكيفية تحقيق العدالة وقبل ذلك لا بد أن تؤخذ صرخة الشباب الذين وصلوا من ساحة التغيير إلى فندق سبأ حيث تعقد الندوة التي أقامتها وزارة الشئون القانونية للبدء في فتح حوار بشأن مشروع القانون والتي محتواها استنكارهم للبدء في مناقشة قانون العدالة الانتقالية قبل رحيل النظام هذه الصرخة الشبابية تُبين أن لديهم وعياً عميقاً بمفهوم العدالة الانتقالية إذ بالفعل كيف يمكن الحديث عن عدالة انتقالية في حين أن المسئولين عن الجرائم التي ارتكبت على مدى أكثر من ثلاثة عقود لا زالوا ممسكين بالمفاصل الأساسية في سلطات الدولة المدنية والعسكرية وليسوا على استعداد حتى اللحظة ليس فقط للإقرار بجرائمهم بل ومتمسكين بمواقعهم في السلطة تحت يافطة ضروريات التوافق الذي أسفرت عنه المبادرة الخليجية أو ما أسمي كذلك!
ثم أتساءل ما جدوى مناقشة مشروع القانون إذا كان سيُقدم إلى مجلس نواب أغلبه مشارك في أغلب الجرائم التي ارتكبها النظام الذي قامت الثورة الشعبية والشبابية تنادي برحيله من السلطة!
إن العدالة الانتقالية في بلادنا لا يمكن أن تكون مناقشتها مجدية إلا برحيل رموز وأدوات النظام السابق وبإعادة فورية لهيكلة القوات المسلحة والأمن وتخليصها من قبضة العائلة التي كانت ولا تزال حاكمة ومن كل العناصر المتورطة في قضايا الفساد والجرائم المرتكبة من قبل النظام!
صحيح أن الأطراف الموقعة على المبادرة الخليجية أو معظمها ربما كانت لها حسابات تتعلق بقراءتها للبدائل وأنها ذهبت لهذا الخيار اعتقاداً منها بأنه الطريق الوحيد الذي يجنب البلاد المزيد من الدماء والمعاناة، ولكن هناك آراء تخالف هذا الرأي خاصة وأنه كان بإمكان أنصار المبادرة كما أشرت سابقاً في أكثر من مقال أن يضعوا هذا الخيار للنقاش الجاد أمام الشركاء في ساحة التغيير أو على الأقل / أمام الشركاء الفاعلين ومنهم الحراك الجنوبي والحوثيون وشباب التغيير قبل الإقدام عليه، وهناك سبب جوهري يطرحونه على الضاغطين وهو أنهم بعد انضمامهم لثورة الشباب أو الثورة الشعبية تغيرت همومهم واهتماماتهم ولذلك لم يهتموا بذلك أو أنهم لم يدركوا أهميته.
وما من شك أن غالبية هذه الأطراف السياسية الموقعة على المبادرة الخليجية يتمتعون بقدر كبير من الإخلاص والوطنية وهذا ليس من باب توزيع الصكوك لأن ذلك ليس من حق أحد تجاه أحد من شركاء الوطن، إلا ما يؤكد هذه الفرضية هو ما ستؤول إليه الأمور!
كما أن حجم هذه الأطراف السياسية والحزبية في الساحات كبير ولكن منهج الاستقواء بالعدد أو بأي عنصر من عناصر القوة أيضاً يجب تجنبه والتركيز على تحقيق الهدف الجوهري من الثورة وهو بناء دولة مدنية ديمقراطية تنهي دوامة العنف والصراع الدموي على السلطة.
ومن يلجأ إلى القوة للوصول إلى السلطة في أي محطة سياسية عليه أن يعيد النظر في نظرته لمفهوم الثورة وأبعادها باعتبارها وسيلة وليست غاية، وسيلة لتحقيق أهداف التغيير للأفضل.
القضايا الوطنية تحتاج إلى حرص تام على تحصيل إجماع وطني وإلا فإننا نكون قد توجهنا للإضرار بأنفسنا وبالوطن من حيث قصدنا المصلحة ونحن هنا لا نستغبي أحداً ولا نخونه، وأملنا كبير في أن نرفض استخدام لغة التكفير أو التخوين وأية لغة اتهام مطلق في المستقبل المشرق بمشيئة الله لأن تلك اللغة في نظري كانت من أهم الأسلحة التي استخدمها النظام الذي لايزال الناس يطالبون برحيله رحيلاً محققاً وكاملاً وفق مبادئ العدالة الانتقالية وبعيداً عن الوسائل الحاقدة!!
إذاً فالمصالحة الوطنية الفردية أو الجماعية ترتبط بتحقيق العدالة الانتقالية ولن يتحققا بنظري إلا بمحاكمة عادلة أو بالصفح والصفح مشروط في كل التجارب الإنسانية إما بالاعتراف بالذنب من المجرمين بحق الضحايا أو من خلال كشف الحقيقة عن طريق تحقيق حكومي تقوم به سلطة قضائية مُستقلة استقلالاً حقيقياً تساعدها جميع الأجهزة التنفيذية التي لديها سجلات أو وثائق على كشف الحقائق، ولو أنني أعتقد أن الفترة الزمنية من بداية ثورة التغيير وإطلاق المبادرة الخليجية قد ساعدت النظام على تهريب وإتلاف أغلب الوثائق الهامة!!
بقي أن اُشير إلى أهمية الملاحظة التي وردت في مُداخلة الأستاذ جمال بن عمر في الورشة وهي أن قضية العدالة الانتقالية قضية حساسة وأن مشروع القانون بحاجة إلى إجماع وطني وأن هذا الإجماع صعب ولكنه ضروري، ومعنى ذلك أن مشروع العدالة الانتقالية مشروع استراتيجي طويل المدى هدفه النهائي إغلاق ملفات الماضي ليس بمعنى تجاهل المظالم ولكن بالحرص الكامل على تحقيق العدالة.
ولا بد من التأكيد في الختام على أن الحوار الجاد هو المدخل لهذه القضية الحساسة وأنه يحتاج إلى جهود متواصلة وحريصة على الوقت وعلى ما يحقق التوافق الصادق القائم على الصراحة والحزم واحترام إرادة الشعب وتضحيات الشهداء والإقرار بأهداف الثورة التي توصل إلى التحرر وبناء يمن جديد حر وديمقراطي وهو ما لا يتم إلا بإعادة بناء مؤسسات الدولة بناءً وطنياً خالصاً.
لقد كان أول تصريح للأستاذ محمد سالم باسندوة عقب تشكيل حكومة الوفاق ينبئ عن تفاؤل قوي حيث قال: (إن الحكومة سوف لن تعمل إلا كفريق واحد) وهذا هو المفهوم الحقيقي للوفاق والسؤال هو هل لدى كل الشركاء في الحكومة نفس المفهوم عن الوفاق أم أن مفهومهم له أنه التقاسم أو الشراكة بالمفهوم التجاري؟!
أنا لا أشكك ولكني أعبر عن مخاوف وأعتقد أن هذا من حقي كمواطن خاصة وأن التجارب الماضية مع كل الأحزاب التي ولدت من رحم السلطة والتي دمجت في إدارتها للدولة بين الحزب والدولة، أسوأ مما وجد المصريون من الحزب الوطني الذي حكم القضاء المصري بحله لإفساده الحياة السياسية في مصر وأعتقد أن الفساد في مصر على ضخامته لا يساوي ربع الفساد في أرض السعيدة طيلة ممارسة النظام على مدى العقود السابقة، وهو ما لا يعفي أحداً مارس السلطة على أي مستوى من المسؤولية، وهذا جزء من المصارحة الواجبة لإفساح الطريق أمام المصالحة وبديهي أن هناك عناصر في المؤتمر كأفراد لهم مواقفهم الوطنية التي لا تنسى!
وبهذا نجد أن العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية مصطلحان في مصطلح تتطلبان لتحقيقهما أولاً وجود إرادة سياسية وطنية موحدة تدرك حجم المخاطر والطموحات الواجب تحقيقها وتمتلك الصلاحيات والقدرة والفهم لأهمية مشاركة المجتمع في صنع القرار جدياً وإنهاء مرحلة التضليل الإعلامي الذي لعب دوراً خطيراً في تزييف وعي الناس وتجهيلهم ومن هنا يمكن لليمن الوصول إلى بوابة الحرية والعدالة والسلام والسعادة!.
العدالة الانتقالية في اليمن رهن الانقسام:
من خلال القراءة السابقة للمشروع، وما جرى من أحداث ووقائع وحروب منذ العام 2013م أي من تأريخ استصداره بصورة عاجلة والدفع ببعض أعضاء مجلس النواب لتكون مناقشته صورية وغير شفافة لتمرير التعديلات الجوهرية التي أدخلها عبد ربه منصور هادي على المشروع بدلاً عن المشروع الأصل، وأبرز التعديلات حسبما جاء في مقابلة وزير الشئون القانونية مع قناة الجزيرة حينها إزالة مادة الكشف عن الحقيقة وحفظ الذاكرة الوطنية وحصر تطبيق القانون زمنياً بعام واحد خلال الثورة التي أطلق عليها الثورة الشبابية السلمية وبالتحديد من 1/ يناير 2011م وحتى 21 فبراير2012م في حين أن المشروع الأصل الذي أعدته الوزارة تضمن إنصاف ضحايا الصراعات والحروب خلال الفترة الممتدة منذ قيام الجمهورية اليمنية 1990م وحتى يوم إعداد المشروع[7].
الأحداث المتلاحقة أكدت ما ذهبنا إليه من أن كلما يبدأ قبل الأوان ينتهي قبل الأوان، هذه القاعدة شغلتني ولا تزال تشغلني منذ طرح ما أسمي: (قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية) في اليمن والذي دفعت به الأحزاب والمكونات والقوى السياسية التي كانت حاكمة أو شريكة في الحكم أو منتظرة لجزء من كعكة يجود بها عليهم الحكام أو بالأصح من شغلوا مواقع السلطة العليا، ومازال هذا هو العقل المهيمن على السلطة في اليمن ومن يسعى للوصول إليها والتمسك بها، وهو عقل تقاسم المصالح وليس عقلاً تحمل المسؤولية، وعلاقة الحكام بالحكم تبعاً لذلك في هذا البلد ما تزال علاقة ملك أو بالأصح فيد ونهب وليست علاقة تحمل أمانة ومسؤولية.
وما زال هذا العقل المهيمن مشغولاً بكيفية تقاسم شركاء الحكم المصالح غير المشروعة أو الغنائم فالسلطة عندهم فعلاً غنيمة لمن يصل إليها، وإن رددوا خلاف ذلك في تصريحاتهم الإعلامية، إنه حال اليمن الجريح وهو حال يتم التمسك به وتكريسه كثقافة رغم كل محطات انتقال السلطة التي كان من المناسب اغتنامها كفرص للتغيير نحو الأفضل، وهذا هو الاتجاه الذي يعيق أي توجه جاد وصادق نحو العدالة الانتقالية بمفهومها الناجح الهادف إلى عدم تكرار الماضي المظلم والمؤلم وفتح صفحة جديدة مشرقة تطوى معها كل الممارسات التي أدت وتؤدي إلى الاضطرابات والعنف والثورات وتحقق العدل والسلام والتسليم بحق الشعب في السلطة والثروة باعتباره صاحبها.
إن ممارسات الأنظمة والقوى السياسية المتعاقبة ترفض القبول بذلك ولذلك لا يمكن أن تستقر الأوضاع وتهدأ.
لقد تركز النزاع أو الخلاف بين هذه القوى خلال مناقشة غير جادة للقانون المشار إليه حول نقطة بداية المحاسبة والعقاب أو العفو وهي نقطة يرتبط تحققها كما أسلفنا بحدوث انتقال حقيقي للسلطة من أدواتها القديمة التي قامت ضدها الثورة التي سميت بالسلمية إلى سلطة جديدة منتخبة انتخاباً حراً ونزيها بعيداً عن أي ضغوط أياً كان مصدرها داخلياً كان أو خارجياً.
ومن البديهي أن السلطة الجديدة المنتخبة هي من لها الحق في إصدار قانون العدالة الانتقالية مراعية خصوصيات المجتمع في صياغتها للقانون وضرورة أن تتضمن أحكامه الجمع بين متطلبات السياسة التي تحقق السلام وموجبات وشروط تحقيق العدالة هذه القواسم المشتركة بين العدالة والقانون والسياسة أهمها وأبرزها كما أشرنا مراراً أن يتحقق الانتقال من حالة الحرب والاضطراب إلى حالة الأمن والسلام والاستقرار، ومن حالة الشرعية الثورية الاستثنائية إلى حالة إعادة الشرعية الدستورية الطبيعية الأصلية أي المؤسسة على الدستور، هذا أولاً أما ثانياً فإن مجلس النواب المنتخب بموجب هذا المبدأ هو المعني بمناقشة وإقرار القانون.
والرئاسة والحكومة المنتخبتان هما المكلفتان بتنفيذه، ومن ثم يكون ما أطلق عليه قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية الصادر في اليمن عام 2013م قد صدر من سلطة تشريعية وتنفيذية غير معنيتين به ببساطة لأنهما غير منتخبتين، ولأنهما كذلك جزء من النظام الذي قامت الثورة ضده، وبالتالي فإن من بين عناصرهما من يجب أن تشمله المساءلة والمحاكمة أو العفو ويلزم بالتعويض أو تتحمل خزينة الدولة التعويض عمن ليس له مال يتم التعويض منه، والقبول بأن يتولى صياغة القانون سلطة بينها من ارتكب جرائم يجعلنا نتساءل: وفق أي شرع أو قانون يحق للإنسان أن يكون خصماً وحكماً في نفس الوقت؟!
(عندما تنتهي حربٌ أهلية، أو إبادة جماعية أو ديكتاتورية وحشية، يطرح السؤال المحتوم المتمثل في كيفية التعامل مع أولئك الذين ارتكبوا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، منذ نهاية الأربعينات وحتى أواسط الثمانينات، كان الجواب هو تحاشي مثل تلك التركات المؤلمة، اتخذت هذه السياسة أحياناً شكل الصمت المفروض ذاتياً، كما كان الحال في كمبوديا بعد الخمير الحمر. في مناطق أخرى، مثل أسبانيا بعد زوال نظام فرانكو، وتم التوصل إلى حالة النسيان نتيجة تسوية تفاوضية بين النخب التي خلفته، أوتم ترسيخ الإفلات من العقاب من خلال قوانين عفو رسمية)[8].
وقد تبلورت بعض الرؤى حول مفهوم العدالة الانتقالية بعد أن تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في 1994م ثم في 1998م وتم إقرار النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2006م حول العدالة الانتقالية.
هذه التطورات أثرت في الكثير من اتفاقات السلام التي عقدت والتي أشارت إلى المحاكمات الدولية باعتبارها جزءاً من عملية التسوية السلمية من ذلك اتفاقية أروث المتعلقة ببوروندي واتفاقية ليناس ماركو سيس الخاصة بساحل العاج وفي هذه المرحلة التي لا تزال مستمرة حتى الآن تتم الإحالة دائماً إلى القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان بالإضافة إلى العودة لاستلهام نموذج محاكمات (نورمبرج) لا سيما مع دخول ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ في 2004م وإقرار وجود المحكمة كآلية دائمة لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.
لاحظوا أن التسويات التي تمت أو تتم إنما يكون التفاوض بشأنها بين النخب التي (خلفت النظام) أي أن النظام الذي قامت الثورة ضده قد غادر السلطة، لأن من غير المنطقي أن يكون التفاوض بين شركاء الحكم الذي يدعي البعض أنه ثار عليه ويساوم في إعادة تقاسم السلطة والمصالح معه مع بقائه متمسكاً بها حتى آخر رمق!، بل وما زال فساده وسياساته تحكم وإن تغيرت الرموز، وهمُّ كل من يسعى لاستمرار الشراكة هو البقاء في السلطة بأي ثمن، وليس وضع أسس سليمة لمرحلة جديدة تمهيداً لعدالة انتقالية حقيقية بشروطها وقواعدها الدولية المعروفة التي يستفيد منها الجميع بكل تأكيد.
ومع كل محاولات الإفلات من العقاب فقد: (حدث تحول رئيسي، على أساس أخلاقي وسياسي معاً، من أواسط ثمانينات القرن العشرين وما بعد. ازدهر التنامي العالمي لثقافة حقوق الإنسان وتحول إلى معركة جديدة، باتت أوسع بكثير الآن، ضد الإفلات من العقاب) وأشار التقرير أن هذا التحول يتمثل في قوله: (تعاونت المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والمحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان، إضافة إلى منظمات حقوق إنسان غير حكومية كبيرة لوضع أعراف وممارسات واجب الملاحقة القضائية للجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجرائم الحرب، ونجم عن هذا بدوره تأسيس محاكم خاصة في لاهاي (ليوغسلافيا السابقة) وأروشا (لرواندا) والمحكمة الجنائية الدولية، وفي الانتشار التدريجي لمبدأ الولاية القضائية العالمية. علاوة على ذلك فإن اختيار العدالة الجزائية كاستراتيجية بات جزءاً من اتفاقيات السلام التي يتم التوصل إليها بوساطة دولية، كما في غواتيمالا وسيراليون وبوروندي)[9].
ومع أهمية هذا التحول من الناحية النظرية والأمثلة العملية المشار إليها إلا أن بعض ممارسات المعايير المزدوجة في السياسة الدولية التي تسيرها الضغوط والمصالح الدولية للدول المتحكمة بالقرار الدولي يعطي انطباعاً سلبياً عن مدى السير الإيجابي في الاتجاه الداعم دعماً دولياً محايداً لعدالة انتقالية حقيقية.
واليمن من أسوأ أمثلة المعايير المزدوجة إن لم تكن أسوأها في مسار الدعم الدولي لإنجاز عدالة انتقالية في البلدان التي عانت من الانتهاكات والعدوان والحروب ويتمثل ذلك فيما آلت إليه الثورة اليمنية في 2011م ضمن ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي ثورة الشباب السلمية كما كان يردد والتي سرعان ما أصبحت رهن اعتقال المبادرة الخليجية وبدعم دولي مناور ومخاتل منذ صيغتها الأولى التي لم تعترف بالثورة والمكونات الأوسع من مكونات دعاة التغيير الذين يرون أن هذه المبادرة إنما جاءت لإنقاذ النظام الذي كان سبباً في الثورة أو التي اعتبرت ثورة؛ لتبين الأحداث اللاحقة أنها لم تكن سوى ثورة مضادة لإعادة إنتاج النظام بما اعتقده رعاة المبادرة الاقليميون والدوليون ملبياً لمصالحهم.
ومن خلال ممارسات السعودية تبين للثوار الحقيقيين أنها استخدمت عنوان المبادرة التي أسمتها (الخليجية) شر استخدام في دعم وتغذية وتمويل انقسام اليمنيين لتبرير استمرار تدخلها في شئون اليمن وكان على شركاء العمل السياسي إدراك ذلك من الوهلة الأولى والاستفادة من تجارب التأريخ وبالذات تأريخ التدخل السعودي وأطماع السعودية المشهودة في اليمن، وهو ما لا يحتاج البحث عن حقيقته أي عناء، وفي السياسة بمفهومها السائد لا ينبغي أن نستمر في توجيه اللوم للسعودية، إنما علينا قراءة التأريخ والاستفادة من عبره وسنصل إلى النتيجة المنطقية الدامغة وهي أن اليمنيين هم من يجب أن يسعوا لحل قضاياهم، وأن لا يستمروا في محاولة تطمين السعودية بحسن نواياهم تجاهها فاليمن هي من تحتاج لأن تطمئن على مستقبل العلاقة مع هذا الجار الذي تمادى في جوره وسوء نواياه بتدخله المستمر في خلق المشاكل لليمن واليمنيين، وللتأكد من ذلك علينا فقط مراجعة من يعتدي على من منذ أن وجدت السعودية، وما هي الدول المجاورة التي سبق أن اعتدت عليها اليمن في مقابل سجل علاقات السعودية مع جيرانها واعتداءاتها المتكررة عليهم والاستيلاء على أراضيهم فهل نحن بعد كل هذا نحتاج لمعرفة من يعتدي على من؟ إن كل يمني يؤمن بالسلام وأهمية حسن الجوار سيظل يأمل أن يستوعب حكام السعودية أن ممارسات التكبر والاستعلاء لا تجدي ولا تغني عن الحق شيئاً؟!
ومن العبر والدروس التي يجب أن يستفيد منها اليمنيون كل اليمنيين ضرورة إعادة قراءة تأريخ علاقة اليمن مع السعودية لمعرفة من قتل الحجاج اليمنيين؟ وهم مرتدون لزي الإحرام أي شبه عراة في منطقة تنومة، ومن غذى حرب الملكيين ضد الجمهوريين؟ أي حرب اليمنيين ضد اليمنيين، والتي استمرت ثمان سنوات ولم تنته إلا بالمفاوضات المباشرة بين اليمنيين ما يعني أن لديهم من الحكمة الفعلية لو فعَّلوها ما يجعل وطنهم بالفعل وطن الحكمة والايمان والطريق إلى ذلك إن تمسكوا بحريتهم وإرادتهم!
اللوم كل اللوم على من يفرط في سيادة وطنه ويبحث عن الاستقواء على شركاء هذا الوطن دون رؤية ولا هدى ولا أدنى علامات الحرص على العدالة والشراكة الوطنية والسلام.
ومن البديهي أن البحث عن رعاة حقيقيين محايدين أمر مشروع، لكننا نعتقد أن تجاهل اليمنيين لمكمن مصلحتهم ناتج بالتأكيد عن حالة الاستلاب للخارج التي كانت البلاد قد وصلت إليها من خلال القبول بوجود نظام يفرط باستقلال الوطن اليمني ولا يدرك ضرورة المواءمة بين المصالح الداخلية والخارجية، ولا يرفض أي ضغوط تهدف لإبقاء اليمن في حالة تبعية مذلة ومبتذلة تؤدي إلى رهن العلاقات اليمنية الخارجية بالمحاور الإقليمية أو الدولية والخلط بين المصلحة العامة والمصالح الشخصية، ومن فعل أو يفعل ذلك بكل تأكيد لا شرعية له البتة سواء من سلم السلطة ظاهراً أو من استلمها شكلاً وسرعان ما ظهر فساده وتلاعبه بها من خلال الاستعداد لرهن السيادة الوطنية أو بتجاهل خطورة ذلك على كيان اليمن ووجوده بل وبصورة أوضح مما كان عليه الحال والارتماء العلني المطلق في أحضان الشقيقة!؛
وهذا التجاهل كما نعتقد لن يؤدي سوى إلى عدم الاستقرار ومن ثم تهديد جميع المصالح ولهذا فإن رعاة المبادرة كان عليهم أن يبذلوا جهداً صادقاً ومكثفاً لرعاية حوار وطني شامل ليس فقط خدمة لليمن بل لكل الجزيرة والخليج والمنطقة والعالم.
ولا يستبعد أي طرف سياسي أو ثوري يؤمن بإمكانية التحقيق المرحلي لأهداف الثورة ودون أي خطوط حمراء كما وعد بذلك الأستاذ جمال بن عمر ممثل الراعي الأممي إن لم يتم ذلك فإن كل المؤشرات تؤكد أن الوحدة الوطنية اليمنية ستكون في خطر مؤكد نظراً لتعقيدات المشهد السياسي في اليمن من قبل الثورة الشبابية ولما أحدثته المبادرة من انشقاقات إضافية بين شركاء الثورة!
أهم شروط البدء بتحقيق عدالة انتقالية ناجحة:
أولاً: إن الهدف من الإشارة السابقة إلى ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي وما تعرضت له التجربة الثورية اليمنية التي اختطفتها المبادرة التي أسميت المبادرة الخليجية، ومحاولة سلق قانون العدالة الانتقالية بالتحايل من خلال إصدار مشروع القانون موضوع القراءة السابق إيرادها تفصيلاً والذي سرعان ما انتهى بمجرد بروز الانقسام بين اليمنيين وتطوره إلى صراع دموي غذته السعودية التي أظهرت بأنها راعية للحوار وللسلام في اليمن ولا تزال تغذيه حتى كتابة هذه الدراسة.
هذه المعطيات بكل وقائعها والتي يطول شرحها أكدت أن المشروع قُدم في الظرف الخطأ والوقت غير المناسب ببساطة شديدة لأن الانتقال كما كررنا لم يتحقق بعد، وإذا كان الأمر كذلك حين تقديم المشروع لمجلس النواب، فإن ظروف المشهد اليمني اليوم باتت أشد تعقيداً حيث صارت تتحكم في اليمن حوالي خمس سلطات أمر واقع ذاق منها الوطن اليمني الذي يفترض أنه توحد عام 1990م الويلات وما زال!
وأبرز تداعيات استباحة السعودية لنفسها حق التدخل المباشر بالعدوان على اليمن وهو العدوان الذي شنته بحجة دعم الشرعية قد استخدمت فيه التدليس والتضليل الإعلامي بصورة مقززة، أبرز علاماتها استخدام مزعوم طلب هادي وفرقة التدليس السياسي من المملكة المباركة القيام بالعدوان على اليمن وإن لم تسمه عدواناً فهو عدوان بشع بكل المعايير القانونية والدينية والأخلاقية واليافطة التي رفعتها إعادة الحال على ما هو عليه لإبقاء شرعية التوافق البديع كأنها ولي أمر اليمن واليمنيين!!
والحقيقة الأكثر مرارة أن نتائج التدخل لم يتضرر منها أحد سوى الشعب اليمني لا غير أما أطراف الصراع فإنها تحولت إلى مستثمر بشع لدماء اليمنيين ومعاناتهم!
إن مسرحية الطلب المزعوم من الرئيس الشرعي جداً عبد ربه وما نتج عنه من تدخل سافر ما زالت كل العقول حيرى حول الادعاء وبكل صلافة أنه تدخل شرعي!!، ولا ندري متى كان من حق رئيس أي دولة في العالم أن يطلب من دولة أخرى العدوان على وطنه لكي تعيده رئيساً عليها أو بالأصح كي تنصبه، إن هذا التصرف لو افترضنا أن لعبد ربه أي شرعية كرئيس حينها أو قبلها فإن طلبه لو صح أقل ما يوصف به أنه خيانة عظمى تستوجب الحكم عليه مجدداً بالإعدام والمعروف أنه سبق الحكم عليه بالإعدام لدوره في ممارسة القتل في أحداث 13 يناير المشئومة في الجنوب، وإذا كان قد تم العفو عنه بعد الوحدة كما قيل فإن العفو يلغي العقوبة ولا ينفي الجريمة أي كونه قاتلاً، وبناءً على هذه الحقيقة فإن تعيينه كنائب للرئيس يصبح باطلاً ويبطل تبعاً لذلك القرارات المتعلقة بتعيينه نائباً ثم التوافق المسرحي بين القوى المسماة بالسياسية على اختياره رئيساً سمته الرئيس التوافقي وبنت عليه السعودية كل آمالها وركزت كل جهودها بأنها مستميتة من أجل إعادة شرعية فخامته!
ولعل هذه حالة استثنائية تنطبق بحالة علاقة اليمن مع السعودية، وعلى كون الدولة المتدخلة هي السعودية لما لها من تأريخ محترم ونزيه وحريص على حسن وليس حزن الجوار في تعاملها مع اليمن بدليل احتلالها لجيزان ونجران وعسير والربع المسمى بالخالي وهلم جراً.
في ظل هذا الانقسام المقيت بين اليمنيين يستحيل البدء بمشروع العدالة الانتقالية لعدم تحقق شروطها التي أكدناها سابقاً في أكثر من موضع لعدم تحقق شرطها الأساس وهو الانتقال من الوضع الاستثنائي إلى الوضع الطبيعي.
وإذا كانت الأطراف السياسية عند الدفع بمشروع القانون تتحدث وتنطلق من مزعوم الشرعية والحكومة الانتقالية التي أطلقت عليها الشرعية التوافقية وهي الشرعية التي دلست بعض قيادات الأحزاب والقوى السياسية على الشعب من خلال المسرحية السخيفة التي روجت لاختيار عبد ربه منصور هادي وحشد الناس عن طريق التدليس ليبدو اختيارهم لهذه الشخصية انتخاباً واستخدمت السلطة والمال العام في هذا التدليس والتزوير المعنوي والمادي لتصبح أغرب مسرحية انتخابية في التأريخ تنافس فيها عبد ربه مع عبد ربه ففاز أحدهما بأغلبية ساحقة ماحقة تقودها الحكمة اليمانية التي لا تجارى وليس لها نظير بين تجار الديمقراطية!!
ثانياً: إن حالة اللاسلم واللاحرب التي تعيشها اليمن الآن تشكل إحدى وسائل استمرار العدوان والحرب التي تجمع بين البرودة والسخونة إن جاز التعبير، فالشعب يبدو شبه معتقل إن لم يكن معتقلاً بالكامل من القوى المتصارعة والمنقسمة ومن يدعم صراعها وانقسامها، ويعاني من التجويع والأزمات الاقتصادية وغلاء المعيشة، وفي ظل هذا الوضع يعيش الوطن في حيرة واضحة تحت وطأة ممارسات لا تدرك الأطراف التي تمارسها بأن ما تفعله خطر على السفينة بأكملها ولعلهم من ركابها!
ثالثاً: قبل بدء العدوان على اليمن في 26 / 3 / 2015م والذي قام به ما أطلق عليه كذباً وزوراً: (التحالف العربي) بزعم إعادة الشرعية وأطلقت عليه السعودية قائدة العدوان الظاهر ومموله الرئيس (عاصفة الحزم) وكأنها تتعامل مع أطفالها أو عبيدها في إشارة واضحة إلى استمرار هذا الجار في التعامل مع جارته اليمن باستهتار بالحقوق التاريخية والقانونية والأخلاقية، قبل هذا التأريخ كان البعض قد تفاءل بإطلاق هذه المبادرة على أمل أن تكون بداية تعبير عن حسن نوايا لفتح صفحة جديدة من العلاقات الطبيعية التي يمليها الدين وحقوق الجوار والوعي بالمصالح المشتركة التي لا تحمى بالعنجهية والغرور والتهديدات واستمرار الاعتداءات ونهب الأراضي، ومن هذا المنطلق تعشم هذا البعض أن تكون المبادرة حينها طوق نجاة من إخوة يقدرون حقيقة أهمية أمن واستقرار اليمن لاستقرار وأمن منطقة الجزيرة والخليج بل والوطن العربي بأكمله.
وهي فرضية تقوم كما أشرنا إلى حسن الظن، إلا أن واقع الحال يبين أنه مستمر في انتهاج سياسة الخداع والغدر وفق مفهوم خاطئ لمقولة: (السياسة مصالح)، وأن من يتبع هذه السياسة لا يفرق بين المصالح المشروعة وغير المشروعة، وهذا المفهوم ينزلق بأصحابه من حيث يدرون أو لا يدرون إلى هاوية من يفترض أن الحياة كلها قائمة على الشر، وهؤلاء إما عميان أو متعامون عن رؤية الحقيقة الكبرى التي يدار بها الكون كله وهي: أن الخير والشر لا يفترقان أبداً ودائماً ما دامت الحياة وهو مطالب بأن ينتصر للخير ولهذا عرَّف السياسة بأنها فن الممكن.
والممكن في السياسة إنما يكون من خلال العمل على إنجاز أعمال الخير ومغالبة النزعات والنزوات الشريرة ومقاومتها، والعمل على تحويل مكارم الأخلاق المتفق عليها إلى فعل وإلى قانون واجب التطبيق ببذل أقصى جهد ممكن.
إن الجدل الذي دار حول المبادرة الخليجية وصياغتها الأولى ثم الثانية فالثالثة، والأحداث التي وقعت قبل التوقيع عليها وبعده والتفاوض بشأن ما أطلق عليه قانون الحصانة الذي لم يسبق له مثيل من حيث مخالفته لمبادئ الدستور وسيادة القانون والعدالة والمساواة على الجميع.
كل ذلك بين أن المبادرة إياها لم تكن في الحقيقة سوى وسيلة للحيلولة دون انتقال سلمي حقيقي للسلطة يعبر عن إرادة اليمنيين، فقد أدت الممارسات والأحداث والمؤامرات منذ قيام ثورة أو الحُكم بالثورة في 2011م وما قبلها إلى صراع دموي على السلطة وانقسامات متعددة تديرها السعودية بين الأطراف المتصارعة، وكلها سلطات أمر واقع لاشرعية لها بما فيها ما يطلق عليها البعض بالشرعية الأبعد عن الشرعية!
كان من بديهيات العمل السياسي ومقتضيات الوعي الوطني، أن تدرك معه الأحزاب والقوى السياسية وبه بأن فن الممكن لا يمكن أن تكون ممارسته على النحو الذي تم والذي ما زال مستمراً، من خلال كل هذا الاستلاب للسعودية وللعامل الخارجي عموماً، لأن أي دولة لا يمكن أن تقوم لها قائمة مادامت مرتهنة لدولة أخرى أو للعامل الخارجي، فهو عامل مساعد إذا كان الخارج محايداً أو داعماً حقيقياً حريصاً على حسن الجوار، أما من استقوينا بهم على بعضنا أو استعنا بهم للتآمر على بعضنا فقد حولوا اليمن مع الأسف والأسى إلى ساحة حرب لتصفية حساباتهم والتنازع على مصالحهم في ظل غياب تام للإرادة والقرار اليمني المستقل وهو أول شرط من شروط ممارسة حق السيادة لأي دولة وعنوان شخصيتها الدولية المعترف بها ولو قرأنا التأريخ بوعي لأدركنا حجم أخطائنا الحاضرة وخطورة تسليم قيادنا للغير بل للأعداء الذين نهبوا أراضي اليمن، ومن خلال التبعية لهم سيبقى نشاطهم يهدف لحراسة أتباعهم أو أحفاد أتباعهم كي لا نستيقظ ونحاول استعادة حقوقنا المشروعة وأراضينا المنهوبة!
إن الحقيقة التي يتعامى عن رؤيتها الجار الجائر هي أن استمرار معاناة الشعب اليمني ستؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تفجير الأوضاع بصورة دموية لن يسلم منها أحد إذا غابت الحكمة في التعامل مع قضايا الثورات والصراعات المسلحة على السلطة وعلى الحدود والنفوذ، وفي اعتقادي أن مشكلة الحدود بين اليمن والسعودية من أعقد المشاكل لأنها تجاوزت حد الاستيلاء على الأرض اليمنية إلى المحاولات المستمرة للاستيلاء على القرار اليمني منعاً في اعتقاد السعودية لأي تفكير في الاستقلال الحقيقي وهو ما سيظل يقاومه اليمنيون باستمرار ولذلك: (يعتبر مفهوم العدالة الانتقالية مفهوماً حديث العهد، ظهر مع بروز الصراعات في المجتمعات التي تعرف انتقالاً نحو الديمقراطية ليتم ربطه بالقضايا المتعلقة بالانتهاكات والاعتداءات الخطيرة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي ولحقوق الإنسان، حيث تسعى العدالة الانتقالية إلى كشف الحقيقة وتعويض ضحايا العنف والأعمال الوحشية المرتكبة في محاولة لترميم الجراح وضمان عدم العودة لمآسي الماضي والغرض من وراء ذلك يتمثل في استعادة الأمن والسلم المدني وإقامة دولة القانون والديمقراطية.
تشير فكرة العدالة الانتقالية إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي تسمح بمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مجتمعات خارجة من نزاعات مسلحة أو من نظم استبدادية إلى السلام والديمقراطية ودولة القانون. تهدف فكرة العدالة الانتقالية إلى تحقيق جملة من الأهداف أهمها: التحقيق في الجرائم التي ارتكبت في الماضي، وتحديد المسؤولين عن هذه الجرائم، وتقديم التعويضات للضحايا، وإصلاح المؤسسات واستعادة ثقة المواطنين بالدولة ومنع انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل، والحفاظ على السلام الاجتماعي، وتعزيز المصالحة وسيادة القانون في إطار مبادئ الديمقراطية[10]، وهذا النهج يخالف ما هدفت إليه المبادرة الخليجية لعدة أسباب منها ثلاثة أسباب:
الأول: لأن من وراء المبادرة وبالذات السعودية قد دعمت كثيراً من انتهاكات النظام لحقوق الإنسان وحروبه منها حرب 1994م وحروب صعدة الست وورطته في مزيد من الحروب والانتهاكات، وتورطت بشكل مباشر في جريمة اغتيال الرئيس الوطني الشهيد إبراهيم الحمدي وبصور غير مباشرة في تصفية واغتيال كثير من المعارضين الوطنيين، ولذلك فقد حاولت بكل ما تستطيع من خلال المبادرة إغلاق الملفات أو إحراقها دون تحقيق جاد ومحايد كي لا يكتشف دورها ودور أتباعها وعملائها في الداخل اليمني.
الثاني: الحيلولة دون التأسيس لديمقراطية حقيقية لأن رعاة المبادرة وبالذات السعودية ترى فيها خطراً يهدد نظامها الملكي الوراثي وأنظمة الخليج كاملة.
مع أن بعض دول الخليج مثل الكويت وعُمان ترى أن العلاقة السوية بين اليمن وجيرانها تكمن في ترك اليمنيين وشأنهم يقررون مصيرهم بأيديهم وبإرادتهم الحرة المستقلة بل ويرون ضرورة دعم هذا الاستقلال لأن من شأنه وحده بناء دولة يمنية محترمة ستكون داعماً مهماً لدول الخليج وضماناً لأمنه واستقراره.
الثالث: سعت السعودية من خلال ما أطلق عليه الآلية المزمنة لتنفيذ المبادرة لأن تكون بعض الإجراءات وما تم في مؤتمر الحوار وبالذات كيفية التعامل مع تشكيل لجنة صياغة الدستور ولجنة الأقاليم وسيلة لتفجير الخلافات واحتدامها بين الأطراف السياسية المتربصة كل وفق أجندته الخاصة، وكانت السعودية ومن يديرها على دراية تامة ربما أكثر ممن أطلق عليها القيادة والحكومة الانتقالية.
كانت ترعى وتغذي الخلافات بنشاط واضح ما أدى إلى تفجير الأوضاع، والتدخل السريع للسعودية عقب الاشتباك المسلح وهروب عبد ربه هادي بشن العدوان الذي أطلقت عليه عاصفة الحزم بدعوى دعم شرعيته، هذا التدخل وما أعقبه من تحركات على الأراضي اليمنية وبالأخص الجنوبية والشرقية دليل واضح على ضلوعها في كل ما جرى ويجري من اعتداءات وتدخل سافر في شئون اليمن يفوق كل تصور مع إظهار مخاوفها على أمنه واستقراره في حين أنها هي من يهدد أمن اليمن واستقراره تساعدها في ذلك حالة الارتهان والارتزاق من بعض المحسوبين على اليمن.
خاتمة
لكي تتحقق عدالة انتقالية ناجزة كاملة الأركان والشروط في اليمن إذاً لابد أولاً: من تكثيف جهود اليمنيين المخلصين للعمل الجاد من أجل إنهاء حالة الانقسام بين القوى المتصارعة (سلطات الأمر الواقع ) ولا يمكن إنهاء هذه الحالة دون استشعار هذه القوى لمسؤولياتها ولأن من غير المتوقع حدوث ذلك، فإنه لابد من إرجاع الشرعية لمالكها وهو الشعب طبقاً لما تمليه الشرعية الدولية ولأن هذه الشرعية إنما هي داعم للشرعية الوطنية التي يحدد تفاصيل كينونتها الشعب فإن وعي هذا الشعب ليس فقط بخطورة ما وصلت إليه الأوضاع في الوطن اليمني وإنما أيضاً بأهمية التمسك بحقه في السلطة والمشاركة الفاعلة في إيجاد سلطة تعبر عن مصالحه يترسخ فيها مبدأ سيادة القانون.
لقد كان حلم اليمنيين بالثورة في 11 فبراير 2011م ضمن ما أسمي ثورات الربيع العربي محطة مفصلية في تأريخ اليمن الحديث لو لم يتم إعاقتها بالعوامل التي تناولناها في هذا البحث أبرزها التدخل السعودي الخليجي الذي اختطف الثورة بثورة مضادة وثيقتها الأولى ما أسمي بـ(المبادرة الخليجية) حيث جرى الترتيب لتهريب كثير من ثروات اليمن التي نهبها رموز النظام الذي قامت الثورة من أجل تغييره في ظل المماحكات وتمطيط المرحلة الانتقالية وعدم إتمام عملية الانتقال السلمي للسلطة كما نصت عليها المبادرة رغم ما عليها وفيها من ملاحظات، وبعد تهريب تلك الثروات وبعض الرموز المشاركة في الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان تم إصدار ما أسمي قانون الحصانة الذي مرره مجلس النواب في يناير2012م، والذي (نص رأس النظام الحصانة التامة من الملاحقة القانونية والقضائية وتنطبق الحصانة من الملاحقة على المسؤولين الذين عملوا مع الرئيس في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية فيما يتصل بأعمال ذات دوافع سياسية قاموا بها أثناء أدائهم لمهامهم الرسمية ولا ينطبق ذلك على أعمال الإرهاب المرتكبة أثناء أداء الخدمة على مدار حكمه لمدة 33 عاماً)[11].
وقد نجحت المبادرة إياها في تحويل الثورة إلى أزمة بالفعل ثم إلى صراع دموي ما زال مستمراً، السعودية هي المستفيد الأول منه وبعدها الإمارات وترتب على ذلك إهدار مادي ومعنوي لخيرات اليمن وطاقاته ومقدراته، وإعاقة التحول المفترض نحو دولة مدنية ديمقراطية لجميع اليمنيين تكون علاقتها بالجوار والإقليم والعالم علاقة الاحترام والمصالح المشتركة، والبداية الحقيقية إما الاستعداد الذاتي لاعتراف جميع الأطراف بما ارتكبته من جرائم وأخطاء، ولأن هذا مستحيل فإن التحقيق الجاد والحرص على العدالة الكاملة هو الطريق نحو استقرار اليمن وبناء دولته المدنية الديمقراطية كضمان للسلام والاستقرار والتنمية الشاملة.
[1] تقرير الأمين العام للأمم المتحدة "نهج الأمم المتحدة في شأن العدالة الانتقالية": مذكرة توجيهية، مارس 2010م رقم الوثيقة (38576-12-ص04) نقلاً عن: العدالة الانتقالية كمصدر لتعزيز الحماية الدولية المعيارية لحقوق الانسان أطروحة قدمت لنيل شهادة الدكتوراه في الحقوق مقدمة من الطالبة سامية يتوجي جامعة محمد خيضر – بسكرة – الجزائر ص37).
[2] المستشار عادل ماجد نائب رئيس محكمة النقض المصرية في كتابه– الإصدار الأول من سلسلة إصدارات العدالة الانتقالية في العالم العربي- معايير تطبيق العدالة الانتقالية في العالم العربي- ص (23-24).
[3] عبد القادر الهواري فقه العدالة الانتقالية ص9، 10.
[4] المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات– تخطي عمليات الانتقال نحو التحول التفاعل بين العدالة الانتقالية وبناء الدستور– ورقة السياسات الرقم 22 الصادرة عن المؤسسة– ص8- التوصيات.
[5] عبد القادر الهواري- فقه العدالة الانتقالية- ص (10).
[6] المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات– تخطي عمليات الانتقال نحو التحول– التفاعل بين العدالة الانتقالية وبناء الدستور– ورقة السياسات الرقم: 22 الصادرة عن المؤسسة– ص9- التوصيات.
[7] مقابلة د. محمد المخلافي مع قناة الجزيرة عام 2013م على موقع قوقل ويوتيوب.
[8] التقرير الصادر عن المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات– 2017م- العدالة والمصالحة التقليديتان بعد الصراعات العنيفة- التعلم من التجارب الإفريقية- ص2.
[9] (نفس المرجع السابق ونفس الصفحة).
[10] مجلة المعيار– تجارب العدالة الانتقالية في دول ما بعد الصراع- ص-420.
[11] المرجع على صفحة الويكيبيديا- الحصانة التي نصت عليها المبادرة الخليجية – المبادرة الخليجية- اتفاقية سياسية خليجية لحل الأزمة اليمنية.