نظام تعدد القضاة
بين الكيف والكم
(دراسة تقييمية)
القاضي. الدكتور
عبدالملك عبدالله الجنداري
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين نحمده، ونشكره، ونستعينه، ونستهديه، ونثني عليه الثناء كلّه، ونصلي ونسلم على خير خلقه؛ سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أمّا بعد... فإن الدافع لدراسة هذا الموضوع، هو ظهور أكثر من مشكلة – متداخلة مع بعضها – لنظام تعدد القضاة القائم حالياً؛ وهي تزايد الطلب على أعداد أكبر من القضاة، نتيجة التوسع في إنشاء المحاكم والشُّعَب الخاصة، وفي تعدد درجات التقاضي، بل وزيادة هيئات الحكم في المحاكم العامة بطبقاتها؛ ومعلوم إن الإفراط في أعداد القضاة يقتضي ولا شك التفريط في الشروط القانونية لـ»التعيين ابتداء في الوظائف القضائية» (شروط القبول)، ثم عن الشروط المعتبرة شرعاً لتولي منصب القضاء (شروط الكفاءة)، ناهيك عما يلزم لذلك من «خصال» خاصة يلزم توافرها فيمن يُختار للحكم بين الناس، والنتيجة لكل ذلك هو التدني المستمر للأداء القضائي.
وقد اتبعنا في هذه الدراسة المنهج التاريخي/التحليلي؛ باستعراض موجز لمراحل تاريخ القضاء في الدولة الإسلامية التي كان اليمن جزءاً أساسياً منها، ثم باستعراض نصوص القانون المتعلقة بالقضاء وبالتقاضي، التي تبين ترتيب المحاكم وتحديد اختصاصاتها، وتحليل النصوص ذات العلاقة، منذ بدء مرحلة التقنين إلى اليوم.
ومن خلال كل ذلك يمكننا القول: إن الاختلال التدريجي للمفاهيم القويمة المتعلقة بـ«طبيعة الولاية القضائية»، كان السبب الرئيس لوصول الأداء القضائي في اليمن إلى ما وصل إليه؛ فالقضاء – شرعاً وعقلاً – رسالة إنسانية هدفها «الحكم بين النَّاس بالحق»؛ لإقامة سُنَّة من أهم السنن الإلهية وهي «النهي عن المنكر»؛ لذلك كانت مسألة «اختيار القضاة» تستولي على اهتمام أولي الأمر، لإدراكهم ما يلزم لأداء هذه الرسالة من خصال وشروط خاصة تختلف عن غيرها، وهذا ظاهر من عهد الإمام عليٍّ عليه السلام لواليه على مصر[1].
ثم أخذ اهتمام القائمين على الأمر بمسألة اختيار القضاة يتناقص جيلا فجيل إلى أن وصل التعامل مع ولاية القضاء باعتبارها مجرد وظيفة كغيرها من الوظائف الإدارية، أي أنه يمكن للكثيرين أن يتولوا مهمة «الحكم بين الناس بالحق»، بمجرد أن تتوفر فيهم الشروط المحددة في الفقرات (أ، ج، د، هـ) من المادة (57) من قانون السلطة القضائية النافذ[2]، وقد كان لهذا المفهوم الخاطئ مظاهر عدة [3]، بيد أن الذي يهمنا منها هنا هو «التوجه الكَمِّي» المتَّبع وبشكل متزايد منذ ثلاثة عقود تقريباً، كسياسة عامة للإصلاح القضائي!!!
ويظهر هذا التوجه الكَمِّي بجلاء من خلال الحرص على عدة أمور[4]، ما يهمنا منها هنا «تزايد الطلب على أعداد أكبر من القضاة»، الذي يقوم حالياً على دواعٍ خمسة: أولها: استمرار إنشاء محاكم استئنافية وابتدائية جديدة، بداعي متابعة التقسيم الإداري. والثاني: زيادة عدد المحاكم الابتدائية العامة في عواصم المحافظات؛ لمواجهة تزايد عدد السكان. والثالث: الإبقاء على محاكم المديريات الصغيرة التي أنشئت منذ عقود طويلة؛ بحجة تقريب العدالة. والرابع: زيادة القضاة في المحكمة الواحدة في نطاق كل طبقة من طبقات المحاكم؛ لمواجهة تراكم القضايا. والخامس: التوسع والتعدد في إنشاء «المحاكم الابتدائية الخاصة» بذريعة التخصص.
وبالرجوع إلى الأصل الشرعي لفكرة تعدد القضاة، يظهر للمتأمل أن جميع تلك الدواعي محل نظر كبير؛ لما سنبينه لاحقا بشأن كل منها، خاصة أن الاستناد إلى هذه المبررات طوال العقود الثلاثة الماضية، قد جاء بنتائج عكسية تماماً؛ وهذا نتيجة طبيعية لاختلال المفاهيم التي قامت عليها تلك المبررات؛ فالطلب المتزايد على أعداد أكبر من القضاة، بعيدا عن الضوابط الشرعية يكون ولا شك على حساب «الكيف»؛ والنتيجة مزيد من التدني في أداء المحاكم، فتتفاقم مشكلة تراكم القضايا أمامها مما أخرج فكرة «تعدد القضاة» من النظام إلى اللانظام؛ وبدلاً من أن يكون «تعدد القضاة»، علاجاً لمشكلة قائمة تواجه مهمة «الحكم بين الناس»، أصبح هو المشكلة الأساس لتدني أداء المحاكم، وهذا هو السبب الدافع لهذه الدراسة.
وعليه ولتشخيص سبب هذه المشكلة، ومتى وجدت، وكيف تفاقمت، لابد من استعراض موجز لتاريخ القضاء في الإسلام؛ لاستخلاص ضوابط «تعدد القضاة»، ثم بيان أصناف ذلك التعدد ومبررات العمل بكل صنف، لنخلص من كل ذلك إلى المعالجات المقترحة للتخفيف من حدة المشكلة القائمة.
وعليه سنقسم هذه الدراسة على النحو الآتي:
المبحث الأول: نشأة نظام تعدد القضاة وضوابطه.
المبحث الثاني: أساس نظام تعدد القضاة القائم حالياً.
المبحث الثالث: مشكلة تزايد الطلب على أعداد أكبر من القضاة، والمعالجات المقترحة لها.
المبحث الأول
نشأة نظام تعدد القضاة وضوابطه
من المعلوم أن الأصل والقاعدة في «الحكم بين الناس»، هو نظام «القاضي الفـرد»، فهو السائد منذ عرفت البشرية نظام التقاضي، وهو الذي اعتمدته جميع الشرائع السماوية، وعلى ذلك سار أمر الأمة الإسـلامية زمنا طويلاً، فقد كان النبي صلى الله عليه و آله وسلم هو من يتولى الحكم بين الناس إعمالاً لقوله تعالى: {إنّا أنزَلنا إليكَ الكِتابَ بالحَقِّ لِتحكمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ اللهُ ولا تَكُنْ لِلخائنِينّ خَصِيماً} [النساء:105]، وقوله تعالى: {وأنِ احكُمْ بينَهُمْ بما أنزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِع أهواءَهُم واحذَرْهُم أن يَفْتِنوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنزَلَ اللهُ إلَيْكَ} [المائدة:49]؛ فمراده تعالى بـالحكم بين النَّاس، ليس مطلق الحكم، بل مراده جلَّ وعلا الحكم بينهم {بِالْحَقِّ}، مع تحذيره الشديد من «اتباع الهوى» عند الحكم بين الناس؛ لأنه يضل عن سبيل الله، و{الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26] .
وقد تولى صلى الله عليه و آله وسلم هذه الرسالة الإنسانية، باعتباره نبياً لا باعتباره رسولاً[5]؛ لهذا ولأنه {خَاتَمَ النَّبِيِّينَ} انتقل واجب أداء هذه الرسالة لمن جاء بعده من الخلفاء، ونظراً لانتشار الإسلام وتوسع رقعة الدولة الإسلامية، فقد اقتضت الضرورة تعيين ولاةٍ على المناطق التي دخل أهلها في الإسلام، كممثلين لولي الأمر العام، ونحن في غنى عن تقييم كيفية أداء مهمة «الحكم بين الناس» في عهد النبي صلى الله عليه و آله وسلم ؛ فهي أزهى عهود البشرية كافة؛ لذا سنبدأ دراستنا بعهد الخلافة الراشدة فما بعده.
وعليه سنقسم هذا المبحث إلى مطالب ثلاثة، نستعرض فيها نشأة نظام تعدد القضاة، وأصناف «تعدد القضاة» كنظام، وأهم الضوابط التي يجب أن يقوم عليها نظام التعدد.
المطلب الأول
نشأة نظام تعدد القضاة
سلف القول إن مهمة «الحكم بين الناس بالحق»، كرسالة إنسانية، قد مَرَّتْ بمراحل عدة في العالم الإسلامي، الذي كان اليمن أحد مكوناته الأساسية، وقد تفاوت حال القضاء في تلك المراحل بتفاوت القائمين على الأمر؛ قوة وضعفاً، صلاحاً وفساداً، وقد بدأت تلك الفترة بمرحلة الخلافة الراشدة، وانتهت بمرحلة تفتت الدولة الإسلامية، مروراً بمرحلة الملوك والسلاطين، على نحو ما سيأتي في البنود التالية:
أولاً: مرحلة الخلافة الراشدة:
تتميز هذه المرحلة – كما هو ظاهر من وصفها – بالرًّشد في إدارة أمر الأمة، بما في ذلك الحكم بين الناس؛ فنظراً لصلاح وعِلم معظم من كانوا يولون على الأمصار، فقد أنيطت هذه المهمة بهم إلى جانب أعمالهم الأخرى، كممثلين للخليفة، كل في نطاق ولايته.
ثم ومع كثرة مهام ولاة الأمصار وأهميتها في تلك الفترة؛ كالجهاد وحماية الثغور، تُرك لبعض الولاة مهمة اختيار القضاة في نطاق ولايته، بحسب ما تقتضيه الحاجة.
ثم ونظراً لتغليب الجانب الجهادي والسياسي، تم تعيين ولاة ممن لم يكونوا مؤهلين علمياً لأداء رسالة القضاء، مما اضطر بعض الخلفاء إلى تعيين قاضٍ إلى جانب الوالي في بعض الولايات؛ ليتولى الحكم بين الناس، مما يشير إلى عدم التفريط آنذاك برسالة القضاء.
ثانياً: مرحلة الملوك والسلاطين:
من أهم سمات هذه المرحلة أنها بدأت بالمُلْكِ العَضوضِ، الذي طال أمده – وإن اختلفت مسمياته – حتى نهايات الدولة العثمانية، ولا ريب أن ثمة عدداً غير قليل من حالات العدل والصلاح المتفرقة زمنياً قد تخلل هذه المرحلة، فإذا استثنيناها – لارتباطها بأشخاص القائمين على أمر الأمة – فإن السِمَة العامة لهذه المرحلة هي انشغال أو تشاغل الملوك والسلاطين عن رسالة القضاء؛ فتم استحداث منصب «قاضي القضاة»؛ ليحمل عن ولي الأمر العام عدد من مهامه التي تفتقر إلى العلم بأحكام وقواعد الشريعة، والذي يهمنا منها هنا المهام ذات الطبيعة القضائية، والمتمثلة في الآتي:
1. «تَصَلُّحُ أحوال الحُكّام»[6]؛ أي السعي الحثيث لما يُصلحُ أحوالهم، وهي من المهام المنوطة حاليا بمجلس القضاء الأعلى.
2. «استشراف ما يجري عليه أمر الأحكام من سائر النواحي والأمصار»[7]. وهذه المهمة هي ما جعلته رقيباً على أحكام القضاة، وظاهرٌ أنها لمعرفة مدى موافقة أحكامهم للقواعد الشرعية، وليست رقابة موضوعية، وهو الدور الذي تقوم به حالياً المحكمة العليا باعتبارها محكمة قانون، أي أن قاضي القضاة لم يمثل خروجاً على الأصل وهو «التقاضي على درجة واحدة».
3. محاكمة الوزراء والأشخاص الذين يهددون الخلافة والدين[8]؛ أي ما يُعرف حالياً: بـ«محاكمة شاغلي الوظائف العليا».
4. النظر في المظالم التي تقع من الولاة والأمراء على الرعيّة[9]؛ وهذا أصل فكرة «القضاء الإداري» حالياً.
ونظراً للتوسع الكبير لإقليم الدولة الإسلامية، وُجد قاض للقضاة في عدد من ولايات الدولة بما فيها اليمن، بيد أن المهام المنوطة به كانت تتفاوت تبعاً لقدرات الشخص المعيَّن في هذا المنصب، أو تبعاً لمدى صلاح القائم على الأمر.
ثالثاً: مرحلة تفتت الدولة الإسلامية:
بدأت هذه المرحلة مع ضعف الدولة العثمانية وانشغالها بمشاكلها الداخلية والخارجية الكثيرة؛ فتسلط كثير من أمرائها على أهالي الولايات المعينين فيها، وصحبه فساد أخلاقي من بعضهم، فانطلقت أول مواجهة للوجود العثماني من اليمن، وبعد صراع عسكري طويل انتهى بالاتفاق بين طرفيه، بما عُرف بـ«صُلح دَعّان» المبرم سنة 1329هـ = 1911م[10]، والذي يهمنا هنا من هذا الاتفاق أنه تم بموجبه إنشاء «محكمة الاستئناف العليا» ومقرها صنعاء، والتي شكلت حينها من ثلاثة قضاة يؤلفون هيئة حكم واحدة؛ تتولى الرقابة على الأحكام الصادرة من القضاة الأفراد في المناطق التابعة للإمام[11]، ثم وفي سنة 1914م أنشأ العثمانيون في مصر أيضاً، محكمة مماثلة سُمِّيت بـ«المحكمة الشرعية العليا»[12]؛ لتعميم النظام القضائي العثماني على الأقاليم العربية، فمذ ذاك عَرَف العرب نظام «المحاكم»، الذي نجم عنه لاحقاً تعدد قضاة المحكمة الواحدة.
المطلب الثاني
أصناف نظام تعدد القضاة ومبررات كل صنف
المقصود بـ«تعدد القضاة» كنظام، هو: «تجزئة الولاية العامة للقضاء بين أكثر من قاض أو محكمة في إطار الدولة الواحدة»؛ ومن ثم فإن هذا النظام ينقسم إلى صنفين؛ أولهما: تعدد القضاة رأسياً. والآخر: تعدد القضاة أفـقـياً، ولكل منهما مبرراته، بيد أن تلك المبررات تختلف باختلاف في مدى موافقتها للضوابط الشرعية وقربها منه؟ ولا شك أنه كلما ابتعدت تلك المبررات عن الضوابط الشرعية التي قام عليها نظام تعدد القضاة، كلما زاد الطلب لعدد أكبر من القضاة إلى أن أصبح التعدد هو المشكلة، ما يقتضي البحث عن معالجة لها.
وعليه سنقسم هذا المبحث إلى ثلاثة فروع نخصص الأول للحديث عن التعدد الرأسي للقضاة ومبرراته. والثاني للحديث عن التعدد الأفقي ومبرراته، والثالث لضوابط نظام تعدد القضاة.
الفرع الأول
التعدد الرأسي للقضاة ومبرراته
يقوم التعدد الرأسي للقضاة باعتبار الخصومة الواحدة؛ أي أن الخصومة ذاتها تُعرض على أكثر من هيئة حكم بالتعاقب؛ ليتحقق الأعلى من صواب قضاء الأدنى.
وأولى صور هذا الصنف من التعدد ظهرت مع استحداث منصب «قاضي القضاة»؛ لذا روعي أن يتوافر من «الشروط» في القاضي الأعلى درجة، أكثر مما يجب أن يتوافر في الأدنى درجة، كزيادة الخبرة العلمية والعملية، أما «الخصال» اللازمة لتولي القضاء فكان يتم تحريها في الاثنين معاً، ويظهر هذا من صياغة الإمام علي عليه السلام لتلك الخصال في عهده العظيم؛ إذ أناط بواليه مسألة اختيار القضاة في نطاق ولايته، مبيناً له الخصال اللازمة فيمن يختار للحكم بين الناس، وهي أن يكون: «مِمَّنْ لا تَضيقُ به الأمورُ، ولا تُمَحِّكُهُ الخصومُ، ولا يتمادَى في الزَّلَّةِ، ولا يَحْصَرُ من الْفَيْءِ إِلى الحقِّ إذا عَرَفَهُ، ولا تُشْرِفُ نَفسُهُ على طمعٍ، ولا يَكتَفِي بِأدنَى فَهْمٍ دون أقصاهُ، وأوقَفَهُمْ في الشُّبُهَاتِ، وآخَذَهُمْ بِالحُجَجِ، وأقَلَّهُمْ تبرُّماً بمراجعةِ الخصمِ، وأصبرَهُمْ على تَكَشُّفِ الأمورِ، وأصرَمَهُمْ عند اتِّضاحِ الحُكْمِ، ممَّنْ لا يَزْدَهيهِ إِطْرَاءٌ، ولا يَسْتَمِيلُهُ إغْراءٌ».
فهذه ثلاث عشرة خصلة، بيد أن كلاً من الخصال السِّت الأولى بدأت بـ(لا النافية)، بينما بدأت الخصال الخمس التالية لها بصيغة (أَفْعَل التفضيل)، ثم اختتم كل ذلك بخصلتين أخريين بدأت أيضاً بـ(لا النافية)، ولهذه الصياغة دلالتها ولا شك؛ فهي تتضمن طائفتين من الخصال:
أولاهما: الخصال المبدؤة بـ(«لا» النافية): وهي الخصال الأساس التي يلزم توافرها فيمن يُختار للحكم بين الناس بصرف النظر عن المكان الذي سيتولى فيه القضاء.
والأخرى: الخصال المبدوءة بصيغة («أفعل» التفضيل)؛ وهي الخصال التي يتميز بها الأصلح للقضاء، فهي إذاً لازمة في القاضي الأعلى، بالإضافة إلى الخصال الأساسية. وعلى هذا الأساس كان يتم التعيين في منصب «قاضي القضاة»[13].
أما مبررات العمل بنظام التعـدد الرأسي حينها؛ فتختلف باختلاف شكل ذلك التعدد؛ أي وفقاً لنظام القاضي الفرد، كمنصب قاضي القضاة، أو وفقاً لنظام تعدد القضاة كما في محكمة الاستئناف العليا، وبيان ذلك في ما يأتي:
أولاً: مبرر استحداث منصب قاضي القضاة:
كان المبرر الأساس لاستحداث هذا المنصب، هو انشغال القائم على الأمر عن أداء واجبه القضائي أو لعدم قدرته على ذلك؛ إما لاتساع الدولة أو لعدم صلاحيته لأداء واجب كهذا؛ لذا ولإبراء ذمته أمام الله والناس – أو لمجرد رفع الحرج عن نفسه – كان ينيط هذا الواجب بشخص جدير بأدائه، تحت مسمَّى «قاضي القضاة»، وثمة سبب آخر – وجد في بعض المراحل – وهو الاضطرار لتولية القضاء للمفضول مع وجود الأفضل، نتيجة «امتناع كثير من الصالحين علمياً ومسلكياً عن تولي القضاء», فمنهم من كان يمتنع عن تولي القضاء لأسباب تتعلق بشخصه؛ كالخشية من تحمل تبعات ولايةٍ كهذه أمام الله. ومنهم من كان امتناعه عن القضاء لأسباب راجعة لشخص القائم على الأمر؛ كأن لا يُؤمن تسلطه أو تدخله في بعض الأقضية، أو لعدم التسليم بصحة ولايته أو ولاية من ولاه.
ورغم وجود ضرورة لاستحداث منصب قاضي القضاة كأول أساس لفكرة تعدد القضاة، إلا أن تلك الضرورة قدرت بقدرها آنذاك، فبدأ نظام التعدد الرأسي وفقاً للأصل وهو نظام القاضي الفرد.
ثانياً: مبرر إنشاء محكمة استئناف عليا:
بإنشاء «محكمة الاستئناف العليا» تم الخروج عن الأصل في التقاضي – أي نظام القاضي الفرد – وذلك بتعدد قضاتها، بيد أن هذا الخروج كان آنذاك لضرورة؛ لأن إنشاءها كان نتيجة من نتائج «صلح دعان»، ومن ثم فتلك الضرورة تتمثل في قطع دابر الصراع العسكري الطويل بين اليمن والدولة العثمانية، ومع ذلك فقد قُدرت تلك الضرورة بقدرها؛ إذ شكلت تلك المحكمة حينها من رئيس وعضوين فقط، تم اختيارهم من بين أفضل علماء وقضاة تلك المرحلة[14].
الفرع الثاني
التعدد الأفقي للقضاة ومبرراته
يقوم التعدد الأفقي للقضاة على معيارين؛ أولهما: معيار الدولة الواحدة، وهو الأصل. والآخر: معيار المحكمة الواحدة، وهو الاستثناء؛ ففي العصور السابقة كان يقوم تعدد القضاة على المعيار الأول فقط؛ إذ لم يكن ثمة «محاكم» حينها، أما بعد تفتت الدولة الإسلامية فلم يعد التعدد الأفقي مرتبطاً بإقليم الدولة الواحدة فحسب، بل وبالمحكمة الواحدة أيضاً، بحيث تشكل من عـدة قضاة!!!
وكان مبرر تعدد القضاة في شتى ولايات الدولة الإسلامية، هو الضرورة المتمثلة في توسع جغرافيتها المترامية الأطراف، ومن ثم صعوبة الانتقال عبرها؛ فقد كان ذلك يستغرق أسابيع وأشهر من السفر المضني، أما العامل الجغرافي فلا يمثل في أيامنا أي ضرورة تبرر التوسع الكبير في عدد المحاكم الاستئنافية والابتدائية، ومن ثم تعدد قضاتها، خاصة في ظل التطور الكبير في شبكة الطرقات وفي وسائل المواصلات والاتصالات.
المطلب الثالث
ضوابط نظام تعدد القضاة
سلف القول إن الأصل في التقاضي هو نظام القاضي الفرد، الذي استمر منذ عُرف نظام التقاضي قبل آلاف السنين إلى أن استبدلت فكرة «الحاكم» بفكرة «المحكمة»، التي عرفها العرب في أواخر القرن الميلادي الماضي، فمع وجودها عُرف أيضاً تعدد قضاة المحكمة الواحدة، ومع ذلك تم الخروج عن الأصل العام وفقاً لضوابط شرعية عقلية، نستخلصها مما سلف في المطلبين السابقين، وهي ضوابط مكملة لبعضها ومرتبطة ببعضها؛ لقيامها على اعتبار «الحكم بين الناس بالحق» رسالة إنسانية، وتتمثل أبرز وأهم تلك الضوابط في ما يلي:
الضابط الأول: أن الأصل في ولاية القضاء هو القاضي الفرد، وفي التقاضي أن يكون على درجة واحدة:
لعدم جواز التفريط في شروط تولي القضاء؛ فالخلل القائم في الأداء القضائي لا يرجع لقلة عدد القضاة، بل للتقصير في التحري عنهم، أو في تعاهد قضائهم، أو بالتهاون في توفير ما يلزم لهم من إمكانات مادية وبشرية، أو بالتفريط في مكانهم ومكانتهم؛ لذا فقول الإمام عليٍّ في عهده العظيم – بعد ذكر الخصال اللازمة فيهم –:»وأولئكَ قليلٌ»؛ أي أن «الحكم بين الناس بالحق»، مهمة سامية وعسيرة في الوقت نفسه، وليس لأي كان أن يتولاها؛ فبها تقام سُنَّة إلهية، هي «النهي عن المنكر»، وهو من أهم السُّنن التي لا بد منها كأساس لاستخلاف الإنسان على الأرض؛ لذا لا ولن يخلو أي زمان أو مكان ممن يصلحون لأداء هذه الرسالة وإن كانوا قلة، وما على القائمين على الأمر سوى التحري في البحث عنهم؛ لهذا عندما اقتضت الضرورة مراقبة أداء القضاة الأفراد، قُدرت الضرورة بقدرها؛ فجُعل القاضي الأعلى فرداً أيضاً، كما كان الحال بالنسبة لقاضي القضاة.
الضابط الثاني: أن الخروج على الأصل يقتضي وجود ضرورة:
لما كانت مهمة «الحكم بين الناس بالحق» منوطة أصلاً بالأنبياء، فمن الطبيعي قِلَّة الصالحين لأداء هذه المهمة من بعدهم، ومن ثم فإن تجزئة هذه الولاية بين أكثر من قاضٍ، مسألة مرتبطة بالضرورة، وتقدير وجود ضرورة من عدمه أمر منوط بتقدير ولي الأمر العام، أو من في حكمه كالمقنن في عصرنا، وفي حدود المبادئ والقواعد الدستورية، وليس له أن يفوض غيره بذلك مطلقاً ما لم يُعطَ حق التفويض.
الضابط الثالث: أن تقدر الضرورة بقدرها:
عملاً بالقاعدة الشرعية المعروفة، المستفادة من قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173]، أما من تجاوز القدر الذي تقتضيه الضرورة، فهو باَغٍ، ويقع عليه إثم بغيه.
وبالتالي إذا اقتضت الضرورة أي زيادة عدد القضاة – وهذا وارد – لَزِم أن تكون تلك الزيادة رَهْناً بصلاحيتهم لأداء رسالة القضاء (الحكم بين الناس بالحق)؛ لذا لا يجوز التوسع في تجزئة الولاية العامة للقضاء إلا بقدر ما تقضي به الضرورة دون تزيُّد، أياً كانت المبررات والذرائع؛ لأن التوسع الزائد عن الضرورة يستدعي زيادة الطلب على أعداد أكبر من القضاة، وهذا يكون – ولا ريب – على حساب الشروط المعتبرة لتولي القضاء؛ فتكون العواقب وخيمة على الناس، فعلى القائمين على أمرهم، في الأولَى والآخرة.
المبحث الثاني
أساس نظام تعدد القضاة القائم حالياً
ظهر أساس نظام التعدد القائم مع ظهور القوانين الوضعية؛ لذا يرى البعض أن تردي حال الدولة الإسلامية، ومن ثم تردي القضاء، يرجع إلى التقنين الوضعي[15]، بيد أن الخلل – في رأينا – لا يرجع إلى فكرة التقنين في ذاتها، بل إلى الأسس التي يقوم التقنين عليها، بدليل أنه لا غبار على القوانين الوضعية الموضوعية اليمنية التي قامت على فكرة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية؛ كالقانون المدني وقانون الأحوال الشخصية وقانون الإثبات ونحوها من القوانين المتعلقة بعمل القاضي، بخلاف القوانين التنظيمية وبعض القوانين الإجرائية، فقد تم نقلها عن القوانين المصرية، المنقولة غالباً عن القانون الفرنسي، وهي لا تتصادم في الغالب مع المبادئ الشرعية العامة.
وعندما حاول المقنن اليمني الخروج من جلباب المقنن المصري، لم يختط لنفسه منهجاً خاصاً محدداً، بل أبقى على كثير من النصوص المنقولة مع تعديلها بما ينسجم مع الواقع اليمني القائم حينها، لا مع المبادئ والقواعد العامة للقضاء والتقاضي، ومع استمرار تردي الواقع اليمني، كان يتم التعديل، تبعاً لما هو كائن لا باعتبار ما يجب أن يكون، وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل تم استصدار قوانين خاصة متعلقة بالقضاء والتقاضي، ومع الأيام وُجد نظام قضائي هجين، ثم يأتي تطبيق النصوص على الواقع؛ فيزداد الطين بلَّة.
وعليه ولارتباط إنشاء المحاكم – ومن ثم تعدد القضاة – بتنظيمات القضاء والتقاضي التي صدرت وتصدر وتعدل منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين الميلادي وإلى أيامنا هذه، سيتم تقسيم هذه الفترة إلى مراحل ثلاث أساسية:
المرحلة الأولى
بدأت هذه المرحلة بصدور أول التنظيمات المتعلقة بالقضاء وبالتقاضي، بيد أن ذلك لم يتم دفعة واحدة، بل على خطوات، وهذا ظاهر مما سيأتي بيانه:
الخطوة الأولى: كانت بصدور قرار مجلس القيادة رقم (23) لسنة 1976م بشأن تنظيم السلطة القضائية، الذي نص في أولى مواده على أن: «المحاكم هي الجهات القضائية الشرعية التي ترفع إليها القضايا لتحقيقها والفصل فيها طبقًا للقواعد المنصوص عليها في هذا القانون. وتتكون هذه المحاكم من: (أ) المحاكم الجزئية ومحاكم القضوات والنواحي. (ب) محاكم الألوية. (جـ) محكمة الاستئناف العليا»[16].
كما نص في المادة (2) على أن: «يكون في عاصمة كل لواء محكمة تسمى (محكمة اللواء) تؤلف من رئيس وأربعة أعضاء ويتبعها عدد من المحاكم الجزئية يحدد عددها بالنسبة لكل عاصمة لواء بحسب حاجة العمل وذلك بقرار من وزير العدل يبين فيه الاختصاص المكاني لكل محكمة جزئية[17] ومقر انعقادها، ويشمل اختصاص محكمة اللواء جميع التقسيمات الإدارية التابعة للواء. ويكون مقر محكمة القضاء بمركزه ومقر محكمة الناحية بها أو في المكان الذي يعينه وزير العدل بقرار منه. كما تؤلف محاكم القضوات والنواحي والمحاكم الجزئية من قاض واحد».
ونص في المادة (3) على أن: «يكون مقر محكمة الاستئناف العليا مدينة صنعاء وتؤلف من رئيس تشكل منهم عدة دوائر (شعب) تشكل كل منها من خمسة قضاة ويصدر وزير العدل بالتشاور مع رئيس المحكمة قراراً بتأليف هذه الدوائر وتحديد عدد الجلسات وأيام وساعات انعقادها. وله إجراء تعديل في تشكيلها وأعمالها كلما اقتضت المصلحة[18] بالتشاور مع رئيس المحكمة».
ووفقاً لهذا النظام القضائي الجديد تعددت درجات التقاضي، وصارت الحاجة ماسَّة لعدد أكبر من القضاة إلى جانب الموجودين منهم في المحكمة الاستئنافية العليا، ومحاكم القضوات، والنواحي؛ وذلك لاحتياج المحكمة الاستئنافية العليا إلى دوائر جديدة كل منها مكون من خمسة قضاة، بل ولتغطية حاجة المحاكم الابتدائية «الجزئية» المستحدثة، التي يحتاج كل منها لقاض، وكذا «محاكم الألوية» التي يحتاج كل منها إلى خمسة قضاة.
ثم ما مبرر تشكيل محاكم الألوية – كدرجة ثانية – من رئيس وأربعة أعضاء، مع أنها تنظر طعوناً في أحكام صادرة عن قضاة أفراد؟!! وكيف يستقيم أن يطعن في أحكام محاكم الألوية أمام دوائر المحكمة العليا المشكلة أيضاً من خمسة قضاة؟!!
الخطوة الثانية: وتمت هذه الخطوة بإنشاء محاكم المرور بالقرار بالقانون رقم (34) لسنة 1976م، وإنشاء المحاكم التجارية بالقرار بالقانون رقم (40) لسنة 1976م، اللذان جعلا تشكيل كل من هذين الصنفين من درجتين؛ محاكم ابتدائية واستئنافية، تشكلان كالآتي:
• محاكم ابتدائية في عواصم الألوية (المحافظات) الرئيسية آنذاك (صنعاء، تعز، الحديدة)، تُشـكل هـيئة الحـكم في كل منها من رئيس وعضوين.
• محكمة استئناف تجارية ومثلها لقضايا المرور، مقرهما العاصمة صنعاء، يتم تشكيل كل منها بقرار جمهوري من رئيس وأربعة أعضاء؛ لنظر الطعون المقدمة ضد الأحكام الصادرة من المحاكم الابتدائية في كل من صنعاء وتعز والحديدة.
وكما هو ظاهر من طبيعة هاتين المحكمة ومن تكوينهما، أن قانوني إنشائهما مخالفان للنظام القضائي العام المقرر في قانون السلطة القضائية النافذ آنذاك، والصادر قبلهما بأقل من ثلاثة أشهر، واستمرت مخالفته حتى بعد تعديله الذي تم بعد صدورهما بحوالي ثلاثة أشهر أيضاً.
الخطوة الثالثة: كانت بصدور أول تنظيم للمرافعات بتاريخ 9/8/1976م، بقرار مجلس القيادة بالقانون رقم (121) لسنة 1976م، أي بعد تعديل قانون السلطة القضائية بشهرين، والذي يهمنا منه هنا، ما تضمنه في الفصل المسمّى: «الاختصاص بحسب نوع الدعوى وقيمتها[19]» (المواد 47 – 58)، فقد حدد اختصاص كل من المحاكم المنصوص عليها في قانون السلطة النافذ آنذاك (الجزئية، النواحي، الألوية، الاستئنافية العليا)، لكنه ضرب به عُرض الحائط في المادتين (51، 52) من الفصل ذاته؛ بنصه في الأولى على أن: «تختص المحاكم التجارية دون غيرها في عواصم الألوية وما يتبعها بالفصل ابتداء في الدعاوى التجارية مهما تكن قيمة المدعى به...». وبنصه في الأخرى على أن: «تختص محاكم الألوية في عواصم الألوية وما يتبعها بالفصل ابتداء في الدعاوى غير التجارية التي لا تدخل في اختصاص المحاكم الجزئية...».
ولأن هذا الفصل متعلق بتنظيم أحكام الاختصاص النوعي، فقد اختُتِم الفصل بالمادة (58) التي تنص على أن: «تقرر المحكمة عدم اختصاصها بنظر الدعوى إذا تبيّنت ولو من تلقاء نفسها عدم اختصاصها بنظرها قيمياً أو نوعياً»؛ لذا فإن مبرر إدراج المحاكم التجارية ضمن أحكام هذا الفصل، هو جعل اختصاصها من النظام العام، دون غيرها من المحاكم الخاصة[20]!!!
ورغم أن إلغاء محاكم القضوات في تعديل قانون السلطة القضائية، الذي تلا إنشاء المحاكم الخاصة بأشهر[21]، سيوفر عدداً من القضاة، إلا أن ذلك لم يجد؛ لأن تشكيل المحاكم الخاصة كان يتطلب أكثر من ذلك بكثير؛ فعدد القضوات كان محدوداً جداً، وكان القاضي في كل منها فرداً، أما المحاكم الخاصة بدرجتيها فمُشكَّلة ابتداء من ثلاثة قضاة، واستئنافاً من خمسة قضاة.
المرحلة الثانية
صدرت التنظيمات القضائية خلال هذه المرحلة على خطوات كسابقتها، بيد أن الذي يميز هذه المرحلة أن صدور تلك التنظيمات كان بقوانين صادرة عن البرلمان (مجلس الشورى)[22]، وليس على شكل قرارات بقوانين، ونبين في ما يلي الخطوات المتبعة في ذلك:
الخطوة الأولى: كانت بصدور قانون السلطة القضائية رقم (28) لسنة 1979م، متضمناً إعادة تنظيم المحاكم وترتيب درجاتها، في الفصل الأول المسمّى «ولاية المحاكم»، الذي نص في المادة (1) منه على أن: «المحاكم هي الجهات القضائية التي تختص بالفصل في كافة المنازعات والجرائم إلا ما استثني بقانون خاص، ويبين اختصاص المحاكم قانون المرافعات المدنية والتجارية، وقانون الإجراءات الجزائية».
ونص في المادة (2) على أن: تتكون المحاكم من: أ ) المحكمة العليا للنقض والإقرار. ب) محاكم استئناف الألوية. جـ) المحاكم الابتدائية. وتختص كل منها بنظر المسائل التي ترفع إليها طبقاً للقانون».
ونص في المادة (3) على أن: «يكون مقر المحكمة العليا للنقض والإقرار العاصمة (صنعاء) وتشكل من رئيس ونائبين له وعدد كاف من القضاة يصدر بتحديد عددهم عند التشكيل وعند اللزوم قرار من وزير العدل بالتشاور مع رئيس المحكمة العليا[23] بعد الموافقة من مجلس القضاء الأعلى، وتؤلف من الشعب الآتية: الشعبة المدنية. الشعبة التجارية. شعبة الأحوال الشخصية. الشعبة الجزائية. شعبة فحص الطعون...».
وإذا كان هذا التنظيم قد كَرَّس – في المادة (2) – التعدد الرأسي للقضاة؛ بطبقات المحاكم الثلاث، إلا أنه بنص المادة (1) قد أعمل مبدأ «عموم ولاية المحاكم»، بطبقاتها؛ لذا فقوله في هذه المادة: «إلا ما استثني بقانون خاص» محل تساؤل: هل المقصود به قانونا إنشاء المحاكم التجارية والمرورية؟ إذا كان كذلك؛ فلمَ قال عقب الاستثناء: «... ويبين اختصاص المحاكم قانون المرافعات المدنية والتجارية...»؟، إذ يفهم منه أن المنازعات التجارية داخلة ضمن اختصاصات المحاكم المذكورة في المادة (2) بطبقاتها الثلاث، ولو أراد إخراج المنازعات التجارية من عموم الولاية العامة لمحكمتي الموضوع؛ لقال: إلا ما استثني «بنص» خاص وليس بـ«قانون» خاص؛ لهذا نرى أنه أراد بالاستثناء جعل الباب مفتوحاً لتقييد ولاية القضاء العادي لاحقاً باختصاصات القضاء الدستوري والقضاء الإداري المنصوص عليها في الدستور الدائم النافذ آنذاك (مادتان 154، 155).
الخطوة الثانية: كانت بصدور قانون المرافعات رقم (42) لسنة 1981م؛ الذي كان ينص – في الفصل المسمى: «الاختصاص بحسب نوع الدعوى» – على أنّه: «تختص محاكم استئناف الألوية بالحكم في القضايا الاستئنافية التي تُرفع إليها عن الأحكام والقرارات الصادرة من المحاكم الابتدائية بما في ذلك أحكام المحاكم التجارية الابتدائية الواقعة في دائرة اختصاصها...» (مادة 48)، والظاهر من هذا النص أن «محاكم استئناف الألوية» تمثل محكمة ثاني درجة بالنسبة لجميع المحاكم الابتدائية الواقعة في نطاق اختصاصها المكاني بما فيها المحاكم التجارية، وإنّ ورود هذا النص في الفصل المنظم لأحكام الاختصاص النوعي، يعني أن اختصاص محاكم الألوية بنظر الطعون الصادرة عن جميع محاكم أول درجة من النظام العام[24].
كما تضمن الفصل المذكور قوله: «تختص المحاكم الابتدائية دون غيرها بالحكم ابتدائياً في جميع الدعاوى غير التجارية التي ترفع إليها أياً كانت قيمتها ونوعها...» (مادة 49). فإيراد جملة: «دون غيرها» في أول النص، ثم قوله بعدها: «غير التجارية» محل تساؤل؛ فإذا كان النص قد قيد صراحة عموم ولاية المحاكم الابتدائية العامة عن نظر الدعاوى التجارية؛ فما مقصوده بجملة: «دون غيرها»؟!! إذا كان المقصود «دون غيرها من طبقات المحاكم»؛ فما مقصوده بالاختصاص النوعي إذاً ؟!! أم إن الاختصاص النوعي للمحاكم و«ولاية المحاكم» عنده بمعنى واحد؟ على اعتبار أن جزاء المخالفة في الحالتين هو «البطلان»؟ وإذا كان البطلان هو الجزاء المترتب على قيام محكمة الاستئناف أو المحكمة العليا بنظر دعاوى مبتدأة لا تدخل في اختصاصها النوعي؟ فما هو الجزاء المترتب على قيام المحكمة الابتدائية بنظر طعن صادر عن محكمة ابتدائية أخرى؟!!
وأعقب ذلك بنصه على أن: «تختص المحاكم التجارية الابتدائية في عواصم الألوية وما يتبعها بالفصل ابتداء في الدعاوى التجارية مهما كانت قيمتها...» (مادة 50)، وإيراد هذه النص ضمن هذا الفصل يعني الإبقاء على اختصاص المحاكم التجارية كاختصاص نوعي كما كان عليه في القانون السابق؛ لذا فحذفه جملة «دون غيرها» من هذا النص غير ذي جدوى، بعد أن قيد في المادة السابقة عموم ولاية المحاكم الابتدائية في عواصم الألوية عن نظر المنازعات التجارية، ثم ما قصده بمد اختصاص المحاكم التجارية الابتدائية على «عواصم الألوية وما يتبعها» مهما كانت قيمة الدعوى التجارية؟!!
وأيا كان المقصود بهذه النصوص فقد بَقيَتْ إشكالية «تزايد الطلب لعدد أكبر من القضاة» قائمة، واستمر مروق القضاء التجاري عن قانون السلطة القضائية، المعْنِيُ ببيان «النظام القضائي» الواجب اتباعه.
الخطوة الثالثة: كانت بصدور قانون المرافعات رقم (28) لسنة 1992م، الذي حذف المادة (50) من قانون سنة 1981م[25] بكاملها، وبهذه الخطوة اقتصر الاختصاص النوعي على توزيع القضايا رأسياً بين طبقات المحاكم، ليس ذلك فحسب بل نص – في المادة (65) – على أن « تختص المحاكم الابتدائية دون غيرها بالحكم ابتدائياً في جميع الدعاوى التي تُرفع إليها أيّاً كانت قيمتها أو نوعها». وبهذا النص قرر المقنن قاعدة «عموم ولاية المحاكم الابتدائية»، ووفقاً لهذه القاعدة لا محل البتة للقول بوجود اختصاص نوعي بين المحاكم الابتدائية.
المرحلة الثالثة
بدأت هذه المرحلة مع توحيد شطري اليمن وصدور دستور سنة 1991م، الذي نص في المادة (148) منه على أن: «القضاء وحدة متكاملة ويرتب القانون الجهات القضائية ودرجاتها ويحدد اختصاصاتها كما يحدد الشروط الـواجب توفرها في من يتولى القضاء وشروط وإجراءات تعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم والضمانات الأخرى الخاصة بهم ولا يجوز إنشاء محاكم استثنائية بأي حال من الأحوال»، فهذا النص قد تضمن عدداً من المبادئ والقواعد العامة المتعلقة بالنظام القضائي اليمني، أبرزها مبدأ «وحدة القضاء»، ومبدأ «حظر إنشاء المحاكم الاستثنائية بأي حال من الأحوال»؛ أي بأي صورة وتحت أي مسمَّى، وقاعدة «ترتيب طبقات المحاكم ودرجاتها وتحديد اختصاص كل منها منوط بالمقنن»، وهذه المبادئ والقواعد ما زالت مقررة في الدستور اليمني النافذ حتى اليوم، رغم تعديله أكثر من مرة منذ سنة 1994م، غير أن هذه المبادئ أهدرت لاحقاً، ليس عن طريق التشريعات القضائية الصادرة عن «السلطة التشريعية» فحسب، بل وعن طريق «السلطة القضائية» أيضاً.
والذي تتسم به هذه المرحلة هو انسجام قانون المرافعات مع الدستور، خلافاً لقانون السلطة القضائية، أي على عكس ما كان عليه الحال في المرحلتين السابقتين، ويظهر ذلك بجلاء من خلال الخطوات المتبعة بشأن كلا القانونين:
الخطوات المتبعة بالنسبة لقانون السلطة القضائية:
أولاً: صدر القانون رقم (1) لسنة 1991م، متضمناً المادة (8) منه التي نصت في الفقرة (أ) على أنه: «لا يجوز إنشاء محاكم استثنائية»، نقلاً عن النص الدستوري، غير أنها حذفتْ منه جملة: «بأي حال من الأحوال»!!! تمهيداً لانتهاك هذا المبدأ في الفقرة (ب) التي تنص على أنه: «يجوز لمجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح وزير العدل إنشاء محاكم قضائية[26] ابتدائية متخصصة في المحافظات متى دعت الحاجة لذلك وفقاً للقوانين النافذة». كما تضمن القانون أيضاً نص المادة (45) على أن: «يحدد بقرار من مجلس القضاء الأعلى بناءً على اقتراح من وزير العدل ورئيس المحكمة العليا عدد المحاكم الابتدائية ومراكزها ونطاق اختصاصها». كما نص في المادة (45) على أن: «يحدد بقرار من مجلس القضاء الأعلى بناءً على اقتراح من وزير العدل ورئيس المحكمة العليا عدد المحاكم الابتدائية ومراكزها ونطاق اختصاصها».
تضمن هذان النصان «تفويضاً تشريعياً» لمجلس القضاء الأعلى بإنشاء محاكم ابتدائية وبتحديد اختصاصها، مخالفاً بذلك أحكام الدستور الذي أناط هذه المهمة بالمقنن فحسب، بقوله: «... ويرتب القانون الجهات القضائية ودرجاتها، ويحدد اختصاصاتها». فقوله: «اختصاصاتها»، مُطْلَقٌ، ومن ثم يشمل جميع أصناف الاختصاص، سواء كان بحسب نوع الدعوى أو مكانها أو قيمتها، بيد أن التفويض التشريعي الوارد في المادة (8/ب) أخطر أثراً؛ فآثاره لا تقتصر فقط على التوسع في إنشاء المحاكم دون ضرورة، وما يترتب على ذلك من تزايد الطلب على أعدد أكبر من القضاة، بل فتحت الباب للإطاحة بمبدأ «حظر إنشاء محاكم استثنائية»، تحت مسمّى «محاكم متخصصة»، وكذا بمبدأ «وحدة القضاء اليمني».
هذا وقد جاء التفويض هذه المرة مقيداً بقيدين؛ الأول: بقوله: «متى دعت الحاجة لذلك»، والثاني بقوله: «وفقاً للقوانين النافذة»؛ وهنا يمكن للمتأمل أن يتساءل: كيف يُتصور أن تدعو الحاجة لإنشاء محاكم ابتدائية خاصة، في ظل مبدأ «عموم ولاية المحاكم الابتدائية» المقرر في القانون نفسه؛ بقوله: « تكون للمحاكم الابتدائية الولاية العامة للنظر في جميع القضايا» (مادة 47)؟!! وإذا كان هذا المبدأ – والدستور من قبله – لم يمنع المقنن من تجويز إنشاء محاكم ابتدائية خاصة؛ فما جدوى قوله: « وفقاً للقوانين النافذة»؟!! يفهم من كل ذلك أن المقصود آنذاك بنص المادة (8/ب) ليس إنشاء محاكم متخصصة عند الحاجة، بل لإضفاء المشروعية على المحاكم التجارية الموجود حينها في الواقع!!! وكان الأولى بالمقنن أن ينص عليها بالاسم في القانون ذاته، كما فعل بالنسبة لمحاكم الأحداث (مادة 49)، لا أن يفتح الباب على مصراعيه على هذا النحو.
ثانياً: لما كان نص المادة (8/ب) قد خالف الدستور بما تضمنه من تفويض تشريعي؛ فلم يقتصر الأمر على الأصناف الثلاثة آنفة الذكر، ولا على «محاكم الأحداث» المنشأة بعد ذلك وفقاً للدستور، بل أنشئ أيضاً بالإضافة إلى هذه الأصناف الأربعة – وبالتعاقب – سبعة أصناف أخرى من المحاكم الابتدائية الخاصة[27]، استناداً إلى هذا التفويض الغريب[28]؛ ليصل مجمل تلك المحاكم إلى أحد عشر صنفاً، بالإضافة إلى المحاكم الابتدائية العامة المنتشرة في كل أصقاع اليمن.
ثالثاً: لم تقتصر ممارسة ذلك «التفويض التشريعي» على طبقة المحاكم الابتدائية، بل تجاوز مجلس القضاء الأعلى ذلك التفويض إلى طبقة المحاكم الاستئنافية؛ بإنشاء شُعَب استئنافية خاصة؛ كالشعبة التجارية، وشعبة الأموال العامة، والشعبة الجزائية المتخصصة، والشعبة الإدارية؛ لنظر الطعون الصادرة عن المحاكم الابتدائية الخاصة التي تنظر هذه الأصناف من الخصومات!!! هذا ولما كان ثمة دوائر بالمحكمة العليا لنظر الطعون في المسائل التجارية والإدارية، فقد أصبح لدينا قضاء تجاري وآخر إداري – إلى جانب القضاء العسكري – مختص بالمنازعات التجارية والإدارية ابتداء واستئنافاً ونقضاً؛ لهذا لم يبق لنظام «القضاء الموحد» – المقرر دستورياً – أي وجود حقيقي؟!!!
رابعاً: كما تضمن قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 1991م المادة (59) منه، الخاصة بتعيين القضاة والمشتمل على ثلاث فقرات (غير مرقمة)، جاء في الفقرة الثانية منها قوله: «ويتم تشكيل المحكمة العليا لأول مرة بعد نفاذ هذا القانون عن طريق اختيار مجلس الرئاسة لمن يتم تعيينهم من بين: قضاة المحكمة العليا والمحاكم الاستئنافية أو ممن عمل سابقاً في المحكمة العليا أو محاكم الاستئناف...»، إلى هنا ولا إشكال في النص وفقاً للتنظيم القضائي القائم، بيد أن النص لم يتوقف عند هذا بل أضاف قائلاً: «... أو من العاملين في النيابة العامة أو التدريس الجامعي أو المحاماة». ورغم أن هذا النص انتقالي كما هو ظاهر من قوله: «لأول مرة بعد نفاذ هذا القانون»، إلا أن العمل به استمر لعدة سنوات وفي تشكيلات كثيرة لاحقة، وحتى بعد حذف هذه الفقرة بالكامل – ضمن تعديلات 2013م – ما زال العمل بحكمها مستمراً!!!
خامساً: تضمن قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 1991م المادة (44) التي تنص على أن « تتألف هيئة الحكم في المحكمة الابتدائية من قاض فرد...»، وهذه هي القاعدة العامة المنبثقة من الأصل في نظام التقاضي، ثم أضافت المادة قائلةً: «... ويجوز في حالة توفر عدد كاف من القضاة أن تؤلف من ثلاثة قضاة»، ولما كان النص حول تأليف «هيئة الحكم في المحكمة الابتدائية»، فلا شك أن مراد المقنن بالتعدد هنا هو نظام «هيئة الحكم الثلاثية»، ولا يخفى على المتأمل أن إضافة الحكم الأخير إلى المادة، قد جعلت النص محل نظر كبير؛ لأن الخروج عن الأصل ومخالفة القاعدة لا يكون إلا لمبرر موجب – من ضرورة أو حاجة ماسة تتحقق بها مصلحة عامة – ولا مبرر ظاهر لهيئة حكم ثلاثية في محكمة أول درجة، ناهيك عن أن نظاماً كهذا سبب رئيس لبطء الفصل في الخصومات، وقبل هذا وذاك فإنه من دواعي زيادة الطلب للقضاة. مما يوحي أن الخروج عن الأصل لم يكن لغاية موضوعية أو حكمة حقيقية؛ إذ لو كان لذلك التشكيل ضرورة أو تتحقق به مصلحة عامة؛ لجعله «وجـوبياً» عند توفر العدد الكافي، أو «جوازياً» عند الحاجة؛ كأن يقول: « تتألف هيئة الحكم في المحكمة الابتدائية من قاض فرد، ويجوز أن تؤلف من ثلاثة قضاة إن اقتضت الضرورة ذلك»، أمّا ربط «جواز التعدد» بـ« توفر العدد»، فأمر غريب؛ إذ صار تأليف هيئة الحكم الثلاثية هنا وكأنّه أمر ترفي، وهذا غير جائز، ليس في المحاكم فحسب، بل وفي غيرها؛ فالشذوذ عن القواعد العامة لا يستساغ إلا لضرورة أو لحاجة تقتضيها دواعي المصلحة العامة، وليس للترف أو لمجرد الشكل أو لإيجاد وظائف شاغرة؛ مما يوحي بأن الهدف من هذه الزيادة في النص إنما كان لإضفاء المشروعية على تشكيل المحاكم الخاصة القائمة آنذاك (التجارية، والمرورية)؛ لهذا تم تجاوز النص عملياً منذ قرابة عقدين من الزمن؛ ليس بمساواة المحاكم الخاصة بالمحاكم العامة – التي كانت جميعها آنذاك مشكلة من قاضٍ فرد – بل بجعل كل من قضاتها الثلاثة يمثل هيئة حكم مستقلة عن الآخرين، ومع ذلك بقي النص كما هو عليه إلى اليوم، رغم تعديل القانون أكثر من مرَّة!!![29].
سادساً: تم تعديل قانون السلطة القضائية النافذ بالقانون رقم (27) لسنة 2013م؛ ليصبح نص المادة (8/ب): «يجوز بقرار من مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح رئيس هيئة التفتيش القضائي إنشاء محاكم قضائية ابتدائية أو شعب استئنافية متخصصة نوعية في المحافظات متى دعت الحاجة إلى ذلك وفقاً للقوانين النافذة»!!![30]. وظاهر من أن تعديل هذا النص بالذات، لم يكن لتجسيد مبدأ «استقلال القضاء»، باستبدال «رئيس هيئة التفتيش القضائي» بـ«وزير العدل»، وإنما كان الهدف منه إضفاء المشروعية على الوضع القائم؛ ليعود مفهوم «الاختصاص النوعي» الذي نشأ عن قانون المرافعات رقم (42) لسنة 1981م، ذلك المفهوم الذي تم تجاوزه بقانون المرافعات رقم (27) لسنة 1992م، ثم بالقانون رقم (40) لسنة 2002م!!!
كما شمل التعديل المادة (45) التي صار نصها: «يحدد بقرار من رئيس مجلس القضاء الأعلى بعد موافقة المجلس عدد المحاكم الابتدائية ومراكزها ونطاق اختصاصها»، فقد كان في النص السابق من الضمانات أكثر مما في النص الحالي؛ فبهذا التعديل اقتصر التفويض التشريعي على رئيس المجلس، ودون حاجة لعرض من أحد، لا رئيس المحكمة العليا ولا وزير العدل، أما المجلس فقد اقتصر دوره على الموافقة فقط!!!
الخطوات المتبعة بالنسبة لقانون المرافعات:
أولاً: في العام التالي لصدور قانون السلطة القضائية آنف الذكر، صدر قانون المرافعات رقم (28) لسنة 1992م، وأبرز سماته إزالة المفهوم الخاطئ لـ»الاختصاص النوعي»[31]، وذلك:
• بنصه في صدر المادة (65) منه على أن: « تختص المحاكم الابتدائية دون غيرها[32] بالحكم ابتدائياً في جميع الدعاوى التي ترفع إليها أياً كانت قيمتها ونوعها...»، وقد جاءت هذه المادة بدلاً عن المادة (49) من القانون السابق التي أعقبت قوله: «جميع الدعاوى»، بجملة: «غير التجارية»، وبحذف هذه الجملة يكون قانون المرافعات قد أعمل نص المادة (149) من الدستور بشأن قاعدة «عموم ولاية المحاكم» لتشمل طبقة المحاكم الابتدائية أيضاً.
• كما حُذِف حكم المادة التي تليها من الفصل المنظم لأحكام الاختصاص النوعي، التي كانت برقم (51) ونصها: «تختص المحاكم التجارية الابتدائية في عواصم الألوية وما يتبعها بالفصل ابتدائياً في الدعوى التجارية مهما كانت قيمتها...». وبحذف هذه المادة صوَّب المقنن مفهوم الاختصاص النوعي؛ ليقتصر فقط على توزيع الخصومات المبتدأة بين طبقات المحاكم « بحسب نوع الدعوى»؛ فثمة دعاوى خرجت من عموم ولاية المحاكم الابتدائية بنصوص قانونية؛ كالدعاوى الدستورية المنوطة بالمحكمة العليا، ودعاوى بطلان أحكام المحكمين المنوطة بمحاكم الاستئناف؛ فاختصاص المحكمة العليا ومحاكم الاستئناف بهذه الدعاوى ونحوها، اختصاص نوعي، أما نظرهما للطعون على الأحكام فمتعلق – على التحقيق – بولاية كل منها لا باختصاصهما؛ وجزاء مخالفة أحكام الولاية هو الانعدام، لا البطلان كما في مخالفة قواعد الاختصاص النوعي لكل من هاتين الطبقتين، أما ورود المادتين (87، 88) بشأن الفصل في الطعون المنوطة بهاتين الطبقتين؛ فباق على المفهوم القانوني القديم لتنظيم المرافعات، الذي لم يكن يفرق بين «اختصاص المحاكم نوعياً» وبين «ولاية المحاكم»؛ لاتحاد الجزاء في الحالتين وهو البطلان؛ لذا نرى لزوم إعادة النظر بهذا الشأن، بحيث تأتي أحكام الولاية في قانون القضاء (السلطة القضائية) وأحكام الاختصاص في قانون التقاضي (المرافعات).
ثانياً: قرر المقنن هذا المفهوم الصحيح للاختصاص النوعي في قانون المرافعات رقم (40) لسنة 2020م، بنصه في المادة (89) على أنه:
1. تختص المحاكم الابتدائية بالحكم ابتدائياً في جميع الدعاوى التي ترفع إليها أيـاً كانت قيمتها أو نوعها.
2. إنشاء محكمة ابتدائية متخصصة لنظر نوع معين من الدعاوى يجعل ولايتها قاصرة على ذلك النوع فلا يجوز لها النظر في غيره من الدعاوى ما لم تكن مرتبطة بدعوى أصلية مرفوعة أمامها ارتباطاً لا يقبل التجزئة.
فقد أعمل بالفقرة (1) قاعدة عموم المحاكم الابتدائية المقررة في (47) من قانون السلطة القضائية، كما أعمل أيضاً الفقرة (ب) من المادة (8) من القانون ذاته التي أجازت لمجلس القضاء الأعلى إنشاء محاكم ابتدائية خاصة.
ثم أضاف مادة جديدة برقم (91) بقصد إزالة أي لبس بشأن الاختصاص النوعي، تنص على أنه: «مع مراعاة ما ورد في قانون السلطة القضائية لا يعد توزيع الاختصاص بنظر القضايا بين هيئات الحكم داخل المحكمة الواحدة أو بين المحاكم التي من ذات الدرجة من قبيل الاختصاص النوعي المنصوص عليه في مواد هذا الفصل». ورغم ذلك بقي العمل في الواقع على نحو ما كان عليه الحال!!! للإبقاء على أوضاع المحاكم الخاصة كما كان عليه إبان إنشاء القضاء التجاري قبل حوالي قرابة أربعة عقود من الزمن، ثم – ورفعاً للحرج ليس إلا – تم تعديل هذا النص بالقانون رقم (2) لسنة 2010م؛ بحذف جملة: « أو بين المحاكم التي من ذات الدرجة»!!! وبتعديل كهذا فقد نصت المادة (91) الهدف من وجوده؛ إذ لا يخفى على من لديه أبجديات القانون أن توزيع العمل بين هيئات الحكم داخل المحكمة الواحدة لا يعد من قبيل الاختصاص النوعي، باستثناء توزيع العمل بين دوائر المحكمة العليا؛ لأن قانون السلطة القضائية قد حدد اختصاص كل منها على سبيل الحصر (المواد 19 – 26)؛ وهذا ما قصده المقنن بقوله في أول المادة (91): «مع مراعاة ما ورد في قانون السلطة القضائية...».
وأخيراً – وسعياً لتصحيح الوضع الناجم عن هذا التعديل – تم تعديل هذه المادة مجدداً بالقانون رقم (1) لسنة 2021م؛ ليصبح نصها: «مع مراعاة ما ورد في قانون السلطة القضائية لا يعد الاختصاص النوعي أمام المحاكم الابتدائية ذات الولاية العامة فيما يرفع أمامها من الدعاوى من النظام العام»!!![33].
الخطوة الثالثة: تمت هذه الخطوة بصدور أول حركة تنقلات قضائية بعد توحيد شطري اليمن؛ لكل من محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية في عموم محافظات الجمهورية، ولا إشكال كبير بشأن تشكيل محاكم الاستئناف؛ فقد روعيت الحاجة في تشكيلها قدر الإمكان وفقاً للنظام القضائي القائم حينها، بيد أن الإشكال كان في تشكيل المحاكم الابتدائية؛ فقد تجاوزت فكرة «تعدد القضاة» في تشكيلها كل ما سبق من ضوابط لـ «نظام تعدد القضاة»؛ إذ كان «تعدد قضاة المحكمة الواحدة» قبل ذلك قاصراً على المحكمة العليا طوال أربعة وثمانين عاماً (1911 – 1994م)، ثم امتد التعدد إلى محاكم الاستئناف منذ (1976 – 1994م) باستثناء الشذوذ الذي كان عليه تشكيل المحاكم الابتدائية الخاصة (التجارية، المرورية)، أما في تلك الحركة فقد شمل التعدد محاكم أول درجة أيضاً؛ فقد شُكِّل حوالي (41%) من المحاكم الابتدائية في الجمهورية من عدد من القضاة يتراوح ما بين (2 – 5) قضاة، يمثل كل منهم هيئة حكم مستقلة[34].
وأيّا كان الحال فقد وصل عدد القضاة المشمولين بحركة 1995م إلى (571) قاضياً، موزعين على (269) محكمة ابتدائية واستئنافية[35]، على النحو المبين في الجدولين الآتيين[36]:
أولاً: في محاكم الاستئناف: شملت تلك الحركة (127) قاضياً، موزعين على (42) شعبة، وذلك على النحو الآتي:
م | المحافظة | عدد الشُّعَب | النسبة | عدد القضاة | النسبة |
---|---|---|---|---|---|
1 | عدن | 4 | 9،5% | 13 | 10،2% |
2 | أمانة العاصمة | 4 | 9،5% | 12 | 9،4% |
3 | تعـز | 3 | 7 % | 9 | 7 % |
4 | الحديدة | 3 | 7 % | 9 | 7 % |
5 | إب | 3 | 7 % | 9 | 7 % |
6 | ذمار | 3 | 7 % | 9 | 7 % |
7 | صنعاء والجوف | 3 | 7 % | 9 | 7 % |
8 | حضرموت | 3 | 7 % | 9 | 7 % |
9 | حجة | 3 | 7 % | 9 | 7 % |
10 | لحج | 2 | 4،7 % | 6 | 4،7 % |
11 | أبين | 2 | 4،7 % | 6 | 4،7 % |
12 | صعدة | 2 | 4،7 % | 6 | 4،7 % |
13 | شبوة ومأرب | 2 | 4،7 % | 6 | 4،7 % |
14 | البيضاء | 2 | 4،7 % | 6 | 4،7 % |
15 | المحويت | 2 | 4،7 % | 6 | 4،7 % |
16 | المهرة | 1 | 2،3 % | 3 | 2،3 % |
ثانياً: في المحاكم الابتدائية: بلغ عدد القضاة الابتدائيين المشمولين بهذه الحركة (444) قاضياً موزعين على (227) محكمة ابتدائية، فإذا استبعدنا المحاكم الابتدائية العامة المشكَّلة من قاض فرد وعددها (110) محاكم[37]، يكون الباقي من إجمالي القضاة الابتدائيين (334) قاضياً موزعين على (117) محكمة ابتدائية عامة وخاصة، على النحو المبين في الجدول الآتي[38]:
م | المحافظة | المحاكم | القضــاة | ||
---|---|---|---|---|---|
العدد | النسبة | العدد | النسبة | ||
1 | لحج | 16 | 7 % | 47 | 14 % |
2 | عدن | 7 | 5،9 % | 39 | 11،6 % |
3 | تعـز | 15 | 12،8% | 41 | 12،2 % |
4 | أمانة العاصمة | 7 | 5،9 % | 28 | 8،3 % |
5 | إب | 12 | 10،2% | 28 | 8،3 % |
6 | أبَين | 10 | 8،5 % | 24 | 7،1 % |
7 | حضرموت | 10 | 8،5 % | 23 | 6،8 % |
8 | ذمار | 7 | 5،9 % | 15 | 4،4 % |
9 | الحديدة | 6 | 5،9 % | 14 | 4،1 % |
10 | صنعاء | 6 | 5،9 % | 14 | 4،1 % |
11 | المهرة | 4 | 3،4 % | 13 | 3،8 % |
12 | حجة | 4 | 3،4 % | 10 | 2،9 % |
13 | شبوة | 6 | 5،9 % | 9 | 2،6 % |
14 | البيضاء | 3 | 2،5 % | 8 | 2،3 % |
15 | صعدة | 1 | 0،85% | 4 | 1،1 % |
16 | مأرب | 1 | 0،85% | 2 | 0،59 % |
17 | المحويت | 1 | 0،85% | 2 | 0،59 % |
هذه إحصائية عامة بعدد الشُعب الاستئنافية والمحاكم الابتدائية، أما كيفية تعامل تلك الحركة مع «القضاء الخاص»:
• ففي ما يتعلق بالمحاكم الابتدائية؛ تم تشكيل المحاكم التجارية في المحافظات الخمس الرئيسية (الأمانة، عدن، تعز، الحديدة، المكلا)، من (5) قضاة عدا محكمتي المكلا والحديدة فقد شكلتا من (4) قضاة، كما أضافت الحركة صنفاً جديداً من المحاكم الخاصة هي «محكمة الضرائب والجمارك»، في كل من أمانة العاصمة ومحافظة عدن، شُكِّل كل منهما من (4) قضاة، كما تضمنت تشكيلاً لمحكمة واحدة للأحداث بمحافظة عدن من (6) قضاة!!! وبالمقابل سكتت عن تشكيل محاكم المرور.
• أما ما يتعلق بالشُّعَب الاستئنافية الخاصة، فقد اقتصرت تلك الحركة على تشكيل شعبتين تجاريتين فقط؛ إحداهما في أمانة العاصمة والأخرى في عدن.
هذا وبالتأمل في كل ما سلف من بيانات هذه الحركة يتبين أن الهدف من تطبيق فكرة «تعدد القضاة» في المحكمة الابتدائية الواحدة على ذلك النحو، لم يكن فقط مواجهة التدفق الشديد للخصومات التي تنصب عليها، بل إن ظروفاً عدّة – فرضتها طبيعة تلك المرحلة – قد دفعت بمجلس القضاء آنذاك لتشكيل المحاكم الابتدائية على ذلك النحو.
المبحث الثالث
دواعي الطلب المتزايد لأعداد أكبر من القضاة
والمعالجات المقترحة لمواجهتها
سلف القول إن الأصل في نظام التقاضي هو القاضي الفرد، وأنه إذا لزم تعدد القضاة رأسياً أو أفقياً؛ فينبغي أن يتم ذلك وفق الضوابط الشرعية العقلية، وهذا ما سار عليه الحال في العصور السابقة، أما في عصرنا الحالي فقد تم إغفال العمل بهذه الضوابط تباعاً، وعليه ونتيجةً لسياسة «التوجه الكَمِّي»، صار التعدد الكبير للقضاة هو المشكلة لا الحل؛ لما يترتب على سياسة كهذه من تدن مستمر في الأداء القضائي؛ فمنطق الأشياء يقضي بأن الزيادة في «الكم» دون مراعاة «الكيف» تأتي بنتائج عكسية[39]. وعليه سنقسم دراستنا لهذا المبحث إلى مطلبين؛ نناقش في الأول: دواعي الطلب المتزايد على القضاة ومدى توافق تلك الدواعي مع الضوابط الشرعية لنظام تعدد القضاة، ونستعرض في الآخر: المعالجات المقترحة للتخفيف من حدة هذا الطلب المتزايد.
المطلب الأول
دواعي الطلب المتزايد لعدد أكبر من القضاة
باستقراء الوضع القائم لتعدد القضاة رأسياً وأفقياً، يمكن القول إن تزايد الطلب على أعداد أكبر من القضاة يرجع غالباً إلى دواعٍ خمسة، نستعرضها ونناقشها في البنود الآتية:
أولاً: استمرار إنشاء محاكم استئنافية وابتدائية جديدة، بحجة الالتزام بالتقسيم الإداري:
بادئ ذي بدء ننوه إلى أن تقسيم الدولة الواحدة إلى محافظات ومديريات، ونحو ذلك من التقسيمات التي تتغير تبعاً لعدد من المعطيات، هي في الأصل معطيات اجتماعية إدارية متعلقة بنشاط الدولة لخدمة مواطنيها؛ لذا كان يوصف هذا التقسيم بكونه «تقسيماً إدارياً»، أما في عصرنا – وفي ظل المفاهيم السلطوية لمصطلح «السياسة» – فلم يعد إطلاق هذا الوصف إلا على سبيل المجاز؛ وبالتالي ومع التغير المستمر للتقسيم الإداري تتعدد التقسيمات وتتفاوت بتفاوت الزمان والمكان، وحال السلطان[40].
لهذا ينبغي أن يتم التقسيم القضائي وفقاً للمعطيات الاجتماعية فحسب، مع لزوم أن يرتبط ذلك بمدى صلاحية من يتولون مهمة الحكم بين الناس «بالحق»، فوفقاً لذلك يجب أن يتم إنشاء المحاكم في التجمعات السكانية الكبيرة والمتوسطة، لا أن ينتقل القضاة إلى كل التجمعات السكانية أينما كانت، وأياً كانت طبيعة المنطقة وظروفها؛ لذا وجدت قاعدة أن: «القاضي يُؤْتَى ولا يأتِي»، والعمل بخلاف ذلك من أبرز مسببات خروج الأحكام القضائية عن الحق، وهذا نتيجة طبيعية لمخالفة المبادئ الدستورية المقررة في المادتين (149، 150)؛ فمتابعة «التقسيم الإداري» يتنافى مع مبدأ استقلال القضاء «إدارياً»، ومع قاعدة «حظر التفويض الشريعي»؛ لأن إنشاء المحاكم وتحديد اختصاصاتها منوط بالمقنن دون غيره ؛ مما يقتضي إعادة النظر في نص قانون السلطة القضائية على أن: «تنشأ في كل محافظة محكمة استئناف» (مادة 37)، وفي تفويضه لمجلس القضاء الأعلى بتحديد «عدد المحاكم الابتدائية ومراكزها ونطاق اختصاصها» (مادة 45)؛ فبناءً على النص الأول تعددت محاكم الاستئناف بتعدد المحافظات؛ فازداد الطلب على عدد أكبر من القضاة؛ لتغطية محاكم الاستئناف الجديدة؛ ومن ذلك على سبيل المثال:
• «محكمة استئناف صنعاء والجوف»؛ فقد كانت مُؤلفة في منتصف الثمانينات من (4) شُعب، عدد قضاتها (12) قاضياً، ثم تم تقسيم هذه المحكمة تباعاً إلى أربع محاكم استئناف؛ هي: محكمة استئناف أمانة العاصمة، ومحكمة استئناف محافظة صنعاء، ومحكمة استئناف محافظة الجوف، ومحكمة استئناف محافظة عمران، التي كانت مديرية من مديريات محافظة صنعاء.
• «محكمة استئناف الحديدة» التي كانت مُؤلفة أيضاً من (4) شُعب، عدد قضاتها (12) قاضياً، قُسمت إلى محكمتين، بعد تحويل مديرية ريمة إلى محافظة وتخصيصها بمحكمة استئناف، وعليه فقد قُسمت محكمتا الاستئناف في كل من صنعاء والحديدة إلى ست محاكم استئناف، مؤلفة حالياً من (41) شُعبةً، مشكَّلة من (123) قاضياً.
أما مجمل الشُعب الاستئنافية في جميع محاكم استئناف الجهورية اليمنية فقد بلغ (75) شعبة مشكلة من (225) قاضياً، منها (12) شعبة خاصة. أما المحاكم الابتدائية – وفي ظل التفويض التشريعي المذكور– فقد وصل عددها إلى (269) محكمة، منها (40) محكمة خاصة[41]، وسيتبين المدى الذي وصل إليه نظام تعدد القضاة من خلال الإحصائيات التي سنوردها في آخر المطلب الآتي[42].
هذا ورغم أن التقنين المصري هو الأصل التاريخي للتنظيم القضائي في اليمن منذ سنة 1976م، ورغم أن الدستور اليمني قد جعل «ترتيب الجهات القضائية ودرجاتها وتحديد اختصاصاتها» منوطاً بالمقنن دون غيره (مادة 150)، إلا أن المقنن اليمني لم يحذ حذو نظيره المصري؛ بل تغافل عن الدستور مفوضاً غيره بذلك!!! أما في مصر ورغم أن الدستور النافذ لا يتضمن نصاً كهذا، إلا أن حكمه ورد في قانون السلطة القضائية[43] الذي ينص على أن: «يكون إنشاء محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية وتعيين دائرة اختصاصها بقانون» (مادة 10)؛ لذا لم يفوض المقنن المصري غيره بهذا الشأن، لا مجلس القضاء الأعلى ولا غيره، بل نص في القانون ذاته على أن: «يكون مقر محكمة الاستئناف في القاهرة والاسكندرية وطنطا والمنصورة والإسماعيلية وبني سويف وأسيوط وقنا...» (مادة 6)، ووفقاً لهذا النص اقتصر عدد محاكم الاستئناف هناك على المحافظات الثمان الكبيرة المحددة في النص بالاسم، رغم أن مجموع عدد المحافظات المصرية يبلغ (28) محافظة؛ أي أن اختصاص كل من محاكم الاستئناف الثمان، يشمل عدداً من المحافظات القريبة منها.
أما ما يتعلق بالمحاكم الابتدائية في مصر فقد نص المقنن على أن: «يكون مقر المحكمة الابتدائية في كل عاصمة من عواصم محافظات الجمهورية» (مادة 9)، وبالتالي فعدد المحاكم الابتدائية فيها بعدد المحافظات، عدا العاصمة المصرية القاهرة؛ ففيها محكمتان ابتدائيتان فقط؛ لأنها تضم أكثر من محافظة، وعدد سكان القاهرة الكبرى يساوي تقريباً عدد سكان اليمن بكافة محافظاته!!!
أي أن عدد المحاكم الابتدائية والاستئنافية في مصر لا يتجاوز (38) محكمة، وقد يقول قائل: إن عدد القضاة في هذه المحاكم بالآلاف. فنقول: هذا صحيح، لكنهم لا يحتاجون إلا إلى حوالي (38) رئيس محكمة، ومن ثم يسهل اختيارهم بشروط خاصة، بحيث يعطى كل منهم من الصلاحيات ما يجعل منه «قاضيا للقضاة» في إطار محكمته والمحاكم التابعة لها، وهذا أمر عسير في اليمن؛ لأننا نحتاج إلى المئات من رؤساء المحاكم الاستئنافية والابتدائية.
هذا وثمة طبقة أدنى من المحاكم المصرية تسمّى «المحاكم الجزئية»[44]، تختص بالنظر والفصل في المنازعات الصغيرة المحددة بالنص عليها في قانون المرافعات المصري، ومن ذلك: «الحكم ابتدائياً في الدعاوى المدنية والتجارية التي لا تتجاوز قيمتها أربعين ألف جنيه، ويكون حكمها انتهائياً إذا كانت قيمة الدعوى لا تتجاوز خمسة آلاف جنيه» (مادة 42)، بيد أنه لم يحدد دائرة اختصاصها، بل فوض وزير العدل بذلك؛ بالنص على أن: «تنشأ بدائرة اختصاص كل محكمة ابتدائية محاكم جزئية يكون إنشاؤها وتعيين مقارها وتحديد دوائر اختصاصها بقرار من وزير العدل» (مادة 11)؛ وعلّة التفويض هنا هو سبق تحديد دائرة اختصاص كل محكمة ابتدائية وهي عواصم كل محافظة؛ لهذا ونظراً للتوسع العمراني المستمر لعواصم المحافظات، وتفاوت ذلك التوسع بينها؛ فإن من الصعب التحديد المسبق لعدد المحاكم الجزئية التي تنشأ بدائرة اختصاص كل محكمة ابتدائية، ورغم هذا التفويض فإن عدد المحاكم الجزئية يكاد يكون ذاته منذ عدة عقود.
ثانياً: الإبقاء على محاكم المديريات الصغيرة؛ بحجة تقريب العدالة:
بدايةً نقول: إن المقصود بقاعدة «تقريب العدالة»، ليس معناه المادي؛ ففض الخصومات وقطع المنازعات بين الناس، – وفقاً للمنهج الإلهي – يجب أن يقوم بـ«الحق»، وبالتالي فالمقصود بـ«تقريب» العدالة ليس المعنى المادي، بل المعنى الدستوري الظاهر من المادة (51)؛ وذلك بتيسير السبل أمام المواطنين لممارسة حقهم في «اللجوء إلى القضاء»، وهذا يقتضي إلغاء القيود القانونية التي كَبلت المواطنين عن ممارسة هذا الحق بإلغاء الرسوم القضائية[45]، وكذا تمهيد العقبات بتيسير أحكام التوكيل في الخصومة.
وحتى لو سلمنا بالمفهوم المادي لـ»تقريب العدالة»؛ فإن نظام تعدد درجات التقاضي، يضطر الخصوم إلى الانتقال من مديرياتهم إلى عواصم المحافظات، للتداعي مجدداً أمام محاكم الاستئناف؛ فما الذي سيختلف – والحال هذا – لو كانت المحاكم الابتدائية أيضاً في عاصمة المحافظة أيضاً؟!! أو لنَقُلْ بعيدة عن مراكز المديريات؟!! ومن جهة أخرى فإن المفهوم المادي لقاعدة «تقريب العدالة» يلزمنا بإعادة النظر في إنشاء محاكم المديريات، بمراعاة التوسع الكبير لشبكة الطرق، والتطور المتسارع لوسائل المواصلات والاتصالات، وإلا فإن تقريب العدالة بهذا المفهوم على إطلاقه يأتي – في كثير من الأحيان – بنتائج عكسية؛ إذ يكون قرب مَقار المحاكم مدعاة للجوء إليها لأتفه الأسباب، مما يسهم في تفاقم مشكلة «تراكم القضايا» أمامها[46].
ثالثاً: التوسع والتعدد في إنشاء المحاكم والشُعَب الخاصة بذريعة «التخصص»:
وذريعة كهذه محل نظر كبير؛ فإنشاء المحاكم الابتدائية الخاصة – كما يقول د. فتحي والي – يقضي أولاً على فكرة المساواة بين المواطنين؛ تلك الفكرة التي تدعو إلى قضاء واحد بالنسبة للجميع (القضاء الطبيعي)، أمّا ما يُقال عن مزايا المحاكم الخاصة فيمكن تحقيقها بإنشاء هيئة حكم متخصصة داخل المحاكم العادية[47]. هذا ما يتعلق بإنشائها أصلاً، أما المبالغة في ذلك فأمر غير مسبوق ولا معهود.
ويصدق ما سلف على إنشاء الشُعب الاستئنافية الخاصة، بالإضافة إلى أن إنشاءها يتنافى أيضاً مع مبدأ «وحدة القضاء اليمني» المقرر دستورياً (مادة 150)؛ فوجود دوائر خاصة بالمحكمة العليا لنظر الطعون في الخصومات التجارية والإدارية والعسكرية، يعني أن هذه الأصناف الثلاثة من الخصومات تنظر ابتداء واستئنافاً ونقضاً بمعرفة قضاء خاص، مواز للقضاء العادي ذي الولاية العامة ابتداء واستئنافاً ونقضاً!!! ولا ينفي استقلاليتها عن القضاء الطبيعي وجود دوائرها في مبنى المحكمة العليا، وأيا كان الحال فللمتأمل أن يتساءل: ما هو القاسم المشترك بين هذه الخصومات الثلاث؛ لتمييزها بقضاء خاص دون غيرها؟!! وهل مبرر تمييزها عن غيرها هو «التخصص» فعلاً؟!! وهل مبرر كهذا يستحق أن نضرب بمبادئ الدستور عُرْض الحائط لأجله؟!!
رابعاً: زيادة عدد المحاكم الابتدائية العامة في عواصم المحافظات؛ لمواجهة تزايد عدد السكان:
لا شك أن لزيادة عدد السكان تأثيراً على زيادة عدد القضايا الواردة إلى المحاكم الابتدائية، خاصة في عواصم المحافظات، بيد أن ذلك التأثير لا يكاد يذكر مقارنة بالأسباب الأخرى لمشكلة «تدفق القضايا»، ناهيك عن أن نسبة كبيرة من السكان تحت سن الخامسة عشرة، أما النسبة الباقية فأغلبهم لا يلجأ للقضاء، ولو تم الرجوع إلى إحصائيات القضايا الواردة إلى المحاكم الابتدائية، لتبين للمتأمل أن عدد المتقاضين لا يكاد يشكل نسبة تذكر من إجمالي عدد السكان.
ويمكن للمتخصصين في مجال الإحصاء إعداد دراسات قيمة بهذا الشأن، إن توفرت لهم البيانات اللازمة، المتعلقة بعدد السكان وعدد القضايا خلال الفترة المعاصرة، بمراحلها الثلاث، السالف التعرض لها في المبحث الثاني من هذه الدراسة.
خامساً: زيادة هيئات الحكم في كل طبقات المحاكم؛ لمواجهة مشكلة تراكم القضايا:
إن «تراكم القضايا» أمام المحاكم بطبقاتها الثلاث، يمثل ولا شك مشكلة كبيرة؛ لذا ينبغي لمعالجتها تشخيصها أولاً؛ لمعرفة أسبابها ومن ثم معالجتها. وفي هذا الصدد نرى أنه قبل السعي لمعالجة مشكلة «تراكم القضايا»، ينبغي مراعاة أمور ثلاثة:
الأمر الأول: معرفة الحجم الحقيقي لهذه المشكلة، وذلك بالرجوع إلى إحصائيات خاصة بالقضايا فقط، بحيث تكون دقيقة ومعبرة عن الواقع، أما الاعتماد على إجمالي عدد القضايا الواردة في الإحصاءات العامة للمحاكم فغير صحيح؛ لسببين:
أولهما: يتعلق بعدد القضايا الواردة؛ ففي ظل إهمال نظام «الأوامر على العرائض»[48]، يضطر كثير من المتنازعين لتقديم دعاوى، مما يؤثر بشكل كبير على الإجمالي العام لعدد «القضايا الواردة».
والآخر: يتعلق بعدد القضايا المنتهية؛ فالإحصاءات التي تعدها المحاكم – وفقاً للنموذج الرسمي المعتمد – تشمل بيانات عديدة تفيد في أمور أخرى ولا شك، لكنها تؤثر سلباً وبشكل كبير على معرفة العدد الحقيقي لـ»القضايا المنتهية»؛ من ذلك مثلاً:
• القرارات الإجرائية الصادرة بشطب القضية أو بسقوطها، التي تمثل نسبة لا يستهان بها من إجمالي عدد القضايا المعروضة؛ ففي ظل سياسة «التوجه الكمي» يَعْمِد القضاة إلى إعداد مسوَّدات بهذه القرارات وإثباتها في «سجل مسوَّدات الأحكام»!!! وبناءً على هذا السجل يحدد عدد «القضايا المنتهية»، مع إن احتساب «سقوط الخصومة» بحكم إنما يكون في مرحلة الاستئناف؛ إذ بموجب هذا الحكم يصبح الحكم الابتدائي سنداً تنفيذياً، أما في المحاكم الابتدائية فحكم «السقوط» هو ذاته حكم «الشطب»؛ أي اعتبار الدعوى «كأن لم تكن»، وفي الحالتين يمكن للمدعي أن يرفع دعواه مجدداً بإجراءات جديدة (مادتان 115، 216 مرافعات)؛ أي أن انتهاء القضية في الحالتين إنما هو إحصائي لا واقعي، وبالتالي يمكن الاكتفاء في المحاكم الابتدائية بـ«الشطب» فقط، وفي الاستئناف يُكتفى بـ«الاستبعاد» حتى يحل أجل السقوط.
• وما تصدره المحكمة من «محررات بشأن إثبات الحالة»، وهي بالآلاف؛ فوفقاً لنماذجها الرسمية، تُسمّى أحكاماً.
مع أن الأحكام التي يمكن اعتمادها في إحصاء «القضايا المنجزة» ينحصر – وفقاً للقوانين الحالية – في صنفين لا ثالث لهما؛ الأول: الأحكام المنهية للخصومة الأصلية أو لشق منها مما يقبل الطعن استقلالاً[49]. والآخر: الأحكام الصادرة بإقرار تصالح الخصوم.
والأمر الثاني: أن «تراكم القضايا» ليس «المرض» الذي يجب أن ينصب عليه العلاج، بل هو مجرد «عرض» لعدد من الأمراض؛ أي أنه ينبغي عند المعالجة مراعاة أن هذا «التراكم» مشكلة مُرَكَّبَة من مشاكل فرعية عِدَّة، أبرزها:
1. «تدفق القضايا» الشديد على المحاكم[50].
2. «تعثر القضايا» أمامها[51].
3. «إطالة آماد التقاضي» ابتداء واستئنافاً ونقضاً والتماساً، وكذلك في مرحلة التنفيذ[52].
4. «إهدار حجية الأحكام القضائية»[53].
مما يقتضي معالجة كل من هذه المشاكل على حدة، ومن خلال مسارات عدة، تشريعية وإدارية؛ فبذلك فقط يمكن معالجة مشكلة «تراكم القضايا»؛ لتخف حدة الطلب لمزيد من القضاة، فيتوقف التدني المستمر للأداء القضائي، بمعنى آخر: أن هذه المشاكل جميعها – كما هو ظاهر – ليست ناجمة عن قلة عدد القضاة مطلقاً؛ لذا فإن تطبيق فكرة «التعدد» على النحو الذي وصل إليه الحال، يسهم إلى حد كبير في تفاقم هذه المشاكل.
ختاماً وبعد أن استعرضنا دواعي الطلب المتزايد لأعداد أكبر من القضاة، يتبين أن الداعيين الأخيرين (الرابع والخامس) وإن كانا يمثلان ظاهرياً دواعي فعلية، لكنهما لا يقتضيان التنازل عن الضوابط الشرعية لنظام تعدد القضاة، ناهيك عن أنهما لا يقومان على دراسة حقيقية وتشخيص دقيق، أما الدواعي الثلاثة الأولى فهي – في اعتقادنا – محل نظر كبير، أي أنها ليست دواعي فعلية أصلاً؛ لقيامها على مفاهيم مغلوطة، بل وبالمخالفة للقواعد القانونية العامة المتعلقة بالقضاء، وبالتالي لا يجوز أن تؤخذ بعين الاعتبار.
هذا ولبيان مدى تزايد الطلب على أعداد من القضاة أكثر، والمدى الذي وصل إليه نظام «تعدد القضاة» حالياً، سنورد الجداول الإحصائية التالية، وفقاً لما بين أيدينا من إحصاءات.
لتأكيد الطلب المتزايد لأعداد أكبر من القضاة، نورد الإحصائية الآتية لعدد المتخرجين من المعهد العالي للقضاء منذ الدفعة الأولى المتخرجة حتى الدفعة الثانية والعشرين[54]، مع التنويه بأن الفرق بين تاريخ تخرج الدفعة (9) عن التي قبلها كان راجعاً إلى زيادة مدة الدراسة بالمعهد من سنتين إلى ثلاث سنوات، وأن تأخر تاريخ تخرج الدفعة (12) عن التي قبلها، كان بسبب إقفال باب القبول في المعهد ، أما تأخر تخرج الدفعة (21) عن التي قبلها فبسبب العدوان الظالم على بلادنا:
إحصائية بمخرجات المعهد العالي للقضاء
الدفعة | سنة تخرجها | عدد أفرادها | النسبة |
الأولى | 1983م | 22 | 1،7 % |
الثانية | 1984م | 14 | 1 % |
الثالثة | 1985م | 18 | 1،4 % |
الرابعة | 1987م | 15 | 1،1 % |
الخامسة | 1988م | 20 | 1،5 % |
الإجمالي | 89 | 6،9% | |
السادسة | 1989م | 88 | 6،8 % |
السابعة | 1990م | 50 | 3،8 % |
الثامنة | 1992م | 51 | 3،9 % |
التاسعة | 1995م | 55 | 4،2 % |
العاشرة | 1996م | 48 | 3،7 % |
الإجمالي | 292 | 22،7% | |
الحادية عشرة | 1998م | 54 | 4،1 % |
الثانية عشرة | 2006م | 46 | 3،5 % |
الثالثة عشرة | 2007م | 23 | 2،5 % |
الرابعة عشرة | 2008م | 21 | 1،6 % |
الخامسة عشرة | 2009م | 82 | 6،3 % |
الإجمالي | 226 | 17،5% | |
السادسة عشرة | 2010م | 77 | 6 % |
السابعة عشرة | 2012م | 76 | 5،9 % |
الثامنة عشرة | 2013م | 94 | 7،3 % |
التاسعة عشرة | 2014م | 86 | 6،5 % |
العشـــرون | 2016م | 102 | 7،9 % |
الإجمالي | 435 | 33% | |
الحادية والعشرون | 2017م | 109 | 8،4 % |
الثانية والعشرون | 2020م | 135 | 10،4 % |
الإجمالي | 244 | 18،9% | |
الإجمالي العــــام | 1286 | 100% |
إن ما تضمنته بيانات هذه الإحصائية يغني عن التعليق، ناهيك عن أن هذا سيخرجنا عن موضوعنا، بيد أن الذي يلفت النظر، أنه رغم إغلاق باب القبول عقب تخرج الدفعة (11) لثماني سنوات تقريباً، مما يعني توقف المعهد عن رفد المحاكم بقضاة طوال تلك السنوات، رغم ذلك فقد تراجعت أعداد المقبولين في الدفع (12 – 14)، عما كانت عليه قبل إقفال باب القبول.
إحصائية بعدد المحاكم والشُعب والقضاة والقضايا في أمانة العاصمة بالمقارنة ما بين عامي 1417هـ و 1443هـ[55]
1417هـ = 1997م | 1443هـ = 2023م | |||||||||||
المحاكم والشعب | القضــــاة | القضايا المنجزة | المحاكم والشعب | القضـــاة | القضايا المنجزة | |||||||
العامة | الخاصة | عـام | خاص | العامة | الخاصة | العامة | الخاصة | عام | خاص | في العامة | في الخاصة | |
ثاني درجة | 3 | 1 | 9 | 3 | 1440 | 31 | 6 | 4 | 33 | 15 | 2074 | 1212 |
أول درجـة | 5 | 4 | 21 | 9 | 4522 | 2056 | 6 | 10 | 136 | 41 | 16731 | 2915 |
إجمالي | 13 | 42 | 8049 | 26 | 325 | 22932 |
لقد قصرنا المقارنة هنا على محاكم أمانة العاصمة – ابتداء واستئنافاً – كنموذج للمحافظات؛ كونها تستقبل النسبة الأكبر من القضايا كماً وكيفاً، وعليه ومن خلال هذه المقارنة يتبين:
• أن عدد قضاة محكمة الاستئناف والمحاكم الابتدائية في أمانة العاصمة – بصنفيها العام والخاص – كان (42) قاضياً في سنة 1417هـ، وقد أصدروا حينها (8049) حكماً، أي بواقع (191) حكماً تقريباً للقاضي الواحد، بينما بلغ عددهم سنة 1443هـ (325) قاضياً، وقد أصدروا (22،932) حكماً، أي بواقع (71) حكماً تقريباً للقاضي.
• أن عدد المحاكم الابتدائية العامة في أمانة العاصمة قد زاد واحداً بعد استحداث محكمة بني الحارث التي لم تكن قد أنشئت سنة 1417هـ، أما المحاكم الخمس الأخرى[56] فباقية كما هي، غير أن عدد قضاتها كان (21) قاضياً، وكان مجمل إنجازها آنذاك (4522) حكماً، أي بواقع (377) حكماً تقريباً للقاضي الواحد، بينما صار عدد قضاة المحاكم الخمس سنة 1443هـ (115) قاضياً، وبلغ إنجازها (14،512) حكماً[57]، أي بواقع (126) حكماً تقريباً للقاضي الواحد، وحتى لو أضفنا إلى إنجازها إنجاز محكمة بني الحارث، وهو (2219) حكماً، وعدد قضاتها (21) قاضياً، يصبح معدل إنجاز القاضي في المحاكم الست (131) حكماً؛ أي حوالي ثلث ما أنجزته المحاكم الخمس قبل حوالي ربع قرن من الزمان.
• أن عدد المحاكم الابتدائية الخاصة قد زاد بأكثر من الضعف عما كان عليه سنة 1417هـ، أما عدد قضاتها فقد بلغ (41) قاضياً؛ أي تضاعف عشرة أضعاف!!! وقد أصدرت هذه المحاكم العام الماضي (1443هـ) من الأحكام ما مجموعه (2915) حكماً، أي بواقع (71) حكماً للقاضي الواحد[58].
هذا وإن ما تم استخلاصه من الإحصائية السابقة لا يقلل هذا من قدر القضاة الحاليين، سواء كانوا في المحاكم العامة أم الخاصة؛ فمنهم من لا يقل كفاءة عن القضاة السابقين، كما أن من بين القضاة السابقين من هو أقل كفاءة من بعض القضاة الحاليين، كل ما هنالك أن الأرقام – وهي لا تكذب – تدل على أن الزيادة في أعداد القضاة لم تؤتي أكلها، حتى من حيث الكَمٍّ، وأن إنشاء المحاكم الابتدائية الخاصة محل نظر كبير، وأن مشكلة «تراكم القضايا» لا تُعالج البتة بزيادة عدد القضاة، وأن «التخصص» لا يحتاج لإنشاء شعب أو محاكم، خاصةً في ظل مبدأ «عموم ولاية المحاكم اليمنية»، المقرر دستورياً وفي قانون السلطة القضائية.
المطلب الثاني
المعالجات المقترحة لمواجهة الطلب المتزايد لأعداد أكبر من القضاة
يجب الإقرار بأن معالجة الوضع القائم أمر ليس باليسير؛ فنحن بصدد معادلة صعبة؛ لذا ينبغي أن تبدأ المعالجة بهذا الخصوص بأن نتساءل: كيف نقلل الطلب المتزايد لعدد القضاة، ونواجه في الوقت ذاته الكم الهائل من القضايا المتدفق على المحاكم؟ بمعنى آخر: كيف نجمع في أدائنا القضائي بين الكيف والكَمِّ في آن واحد؟
وفقاً لما سلف من أصول وقواعد عامة نرى أن أي معالجات لابد أن تتم بمراعاة ما يلي:
أولاً: لزوم العمل بالقانون بعيداً عن الاجتهادات، فلا اجتهاد مع النص.
ثانياً: واقع قِلَّة الكفاءات الصالحة لتولي القضاء شرعاً وقانوناً.
ثالثاً: المعطيات الاجتماعية أو الجغرافية أو الاقتصادية التي يفرضها الواقع، والتي تمثل – شئنا أم أبينا – معوقات في طريق السعي للارتقاء بالأداء القضائي، إلا أنه بالإمكان تجاوزها إذا آمنا بأن «النهي عن المنكر» سُنَّة إلهية لا يمكن إقامتها وفق مراد الله إلا بـ«الحكم بين الناس بالحق».
وعليه نرى بأن على مجلس القضاء الأعلى الحرص على ممارسة أول وأهم اختصاصاته وهو «وضع السياسة العامة لتطوير شئون القضاء» (مادة 109/أ سلطة قضائية)، وذلك وفق أسس عامة قائمة على مفاهيم صحيحة، بشأن طبيعة القضاء ودوره، وأن تنعكس تلك الأسس على النصوص التشريعية في كل من قانون القضاء (السلطة القضائية) وقانون التقاضي والتنفيذ (مرافعات، إثبات، تنفيذ)؛ لئلا تبقى الأمور رهناً بتغير الظروف والأشخاص.
وفي ما يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدده، نرى لزوم المسارعة باتخاذ عدد من الإجراءات والمعالجات الآنية والدائمة أيضاً، ونقترح بهذا الخصوص عدداً من المعالجات القانونية والإدارية؛ على نحو ما سنفصله في الفرعين التاليين.
الفرع الأول
المعالجات القانونية
نوجز المعالجات القانونية المقترحة باتخاذ عدد من الإجراءات التي يجب القيام بها تباعاً، وتتمثل في ما يلي:
أولاً: إعادة النظر في قانون السلطة القضائية الحالي:
بالعمل على إعداد مشروع قانون بديل له قائم على أسس واضحة يتم مناقشتها وإقرار ما يتم الاتفاق عليه منها[59]؛ فالقانون الحالي – رغم تعديله – قائم أساساً على تبعية القضاء للسلطة التنفيذية ممثلة بوزير العدل، صحيح أنه لم يكن ثمة إشكال كبير بهذا الشأن سابقاً، أما مع تحول وزارة العدل – طوال العقود الثلاثة الماضية – إلى حقيبة سياسية يتم تناقلها بين الأحزاب والتنظيمات السياسية باختلاف مشاربها، فقد تجسد مفهوم كون «القضاء مجرد وظيفة»؛ فأضحى القضاة مجرد موظفين؛ لذا لم تجدِ أي تعديلات بهذا الشأن؛ فالخُرْقُ قد اتسع على الراقع، وعليه ولأن الحكم بين الناس بالحق واجب شرعي وعقلي، فقد أضحى وجود قانون بديل واجب أيضاً؛ فما لا يتم الواجب إلا به فيجب كوجوبه.
هذا بصورة عامة، أما ما يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدده، فنرى لزوم إعادة النظر في النصوص المتعلقة بما يلي:
أ ) إنشاء المحاكم وترتيب درجاتها وتحديد اختصاصاتها، بحيث يكون إنشاؤها وترتيب درجاتها وتحديد ولاية كل منها، مقرراً بالنص في قانون القضاء (السلطة القضائية)، بما في ذلك المحاكم الابتدائية، أما تحديد اختصاصاتها فيكون في قانون التقاضي (المرافعات)، وأن يُراعَى في كل ذلك وجود ضرورة، وأن تقدر تلك الضرورة بقدرها.
ب) شروط تولي القضاء؛ بدءاً بإعادة النظر في شروط تولي القضاء، وذلك بمراعاة:
- التفرقة بين «شروط القبول» و«شروط الكفاءة».
- والتفرقة بين الشروط العامة للالتحاق بسلك القضاء، وبين شروط تولي القضاء في كل طبقة من طبقات المحاكم.
- والتفرقة بين «التعيين» في المنصب و«الترقية» في الدرجة.
- والتفرقة بين «المناصب القضائية» وبين «الوظائف القضائية المساعدة».
جـ) أحكام تقاعد القضاة؛ فربط التقاعد بسن خمس وستين سنة، مسألة محل نظر؛ من أوجه عِدّة؛ أولها: أن أحكام التقاعد الحالية نابعة من اعتبار القضاء مجرد وظيفة، وهذا يتنافى مع طبيعته كرسالة إنسانية. والثاني: أن فض الخصومات عمل ذهني لا يتأثر بالسن، بل إن تلك الموهبة تتطور أكثر مع سنين الخبرة، أما إذا تأثر ذهن القاضي، فيمكن إحالته للتقاعد ولو لم يبلغ السن المحددة، وكذا من كانت صلاحيته محل نظر، فلا مبرر لانتظار بلوغه سن التقاعد، بل ولا يجوز ذلك، ويجب الاستغناء عنه في حينه وفقاً للإجراءات المقررة قانوناً[60]. والثالث: أن إحالة كبار القضاة للتقاعد، والاستغناء عن كفاءتهم وحكمتهم وخبرتهم الطويلة؛ لمجرد بلوغهم الخامسة والستين، مدعاة للاستعانة المستمرة بغيرهم، من حديثي العهد بالعمل القضائي.
د ) دمج أحكام قانون المعهد العالي للقضاء ضمن القانون العام للقضاء، بعد إعادة النظر فيها، سواء ما يتعلق منها: بسياسة القبول فيه، من حيث الكم والكيف[61]، أو ما يتعلق منها بمناهج المعهد النظرية والعملية[62].
ثانياً: إعادة النظر في النظام الإجرائي للتقاضي:
بدءاً بجمع شتات أحكامه في قانون واحد يمكن تسميته بـ«قانون التقاضي والتنفيذ»، بحيث يضم أحكام التقاضي أمام المحاكم، سواء ما يتعلق منها بالترافع أو بالإثبات، أو بالتنفيذ، دون تمييز في تلك الإجراءات بحسب طبيعة الخصومة أو طبيعة المتخاصمين، وأن يقوم النظام الإجرائي على المبادئ والقواعد الإجرائية العامة، التي تجد أساسها في مبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية، أما ما يتعلق بموضوعنا، فنرى لزوم إعادة النظر في الأحكام القانونية المسببة لإطالة إجراءات التقاضي، ومن ثم تراكم القضايا، وأبرز تلك الأحكام:
1. المادة (22) مرافعات، بحيث تقضي بأن «الأصل في التقاضي أن يكون على درجة واحدة إلا ما استثني بنص في هذا القانون»، وليس العكس، كما عليه نصها الحالي، والأغرب اعتبار هذا العكس من «المبادئ الحاكمة في القضاء والتقاضي»!!!
2. القيود الكثيرة الواقعة على السلطة التقديرية للقضاة، فمعالجة استغلال البعض لهذه السلطة لا يكون بتقييد الكل، بل بتعاهد الأقضية أثناء التفتيش الدوري، ومؤاخذة ومساءلة من يتجاوز حدود تلك السلطة.
3. ضبط قواعد «الاختصاص النوعي»، بالتفرقة بين ولاية المحاكم وبين توزيع الاختصاص بنظر الدعاوى المبتدأة بين طبقاتها.
4. إعادة النظر في أحكام «الانعدام» كجزاء قانوني؛ بحيث يقتصر على الحكم الذي فقد أحد أركانه المنصوص عليها في القانون، وأن تتم مواجهة حكم كهذا عن طريق الدفع بالانعدام فقط، أما مواجهته بدعوى مبتدأة فيتنافى تماماً مع فكرة الانعدام[63]. أما مخالفة ما عدا ذلك من القواعد القانونية الأخرى فيكفي لمخالفتها الحكم بـ«البطلان»، وهو الذي كان عليه القانون اليمني إلى سنة 2002م، وهو السائد إلى الآن في جُل تشريعات الدول العربية وغيرها.
5. إناطة بعض الإجراءات التحفظية بجهات الضبط القضائي (النيابة العامة، مديري المديريات، مأموري أقسام الشرطة)، كل بحسبه، وتحت رقابة المحكمة الابتدائية المختصة مكانياً.
6. التفرقة بين «إجراءات» تنفيذ الأحكام القضائية، وبين «المنازعات» التي تنجم عنه؛ فالتنفيذ الجبري يسفر عن أمور ثلاثة؛ أولها: «إجراءات التنفيذ غير المباشرة» كالأمر بالحبس وفرض الغرامة التهديدية ونحو ذلك، وهذه ذات طبيعة مختلطة (تنفيذية/قضائية) بيد أن الجانب التنفيذي هو الغالب؛ لذا فالأولى إناطتها بالنيابة العامة. والثاني: إجراءات التنفيذ المباشر، من حجز وإخلاء وبيع ومزاد ونحو ذلك؛ وهذه ذات طبيعة تنفيذية صرفة؛ لذا يمكن إناطتها بوزارة العدل، فهي بطبيعتها جهة تنفيذية. والثالث: منازعات التنفيذ بشقيها الوقتي والموضوعي، وهي ذات طبيعة قضائية صرفة، ومن الطبيعي أن تبقى منوطة بالمحاكم؛ فهي ضمن ولايتها الدستورية، وهي «الفصل في جميع المنازعات والجرائم» (مادة 149)، أما تحميل المحاكم جميع أعباء التنفيذ الجبري؛ ففيه تحميل لها بما هو خارج عن حدود ولايتها المحددة دستورياً (مادة 149)، ليس ذلك فحسب بل فيه تخفيف عن الجهات التنفيذية، رغم ما تملكه قانوناً من إمكانات وسلطات!!!
7. احترام قاعدة «حجية الأحكام القضائية»، بدءاً بسرعة إعادة النظر في النصوص التي أهدرت تلك القاعدة، ثم بفرض هيبة الدولة وتطبيق مبدأ «سيادة القانون» على الجميع؛ فالله جلَّ وعلا أنزل كتابه العزيز على نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لـ»الحكم بين الناس» مُطْلَقاً، دون تمييز بين عامة وخاصة، وقوي وضعيف، وغني وفقير، وشريف ووضيع.
الفرع الثاني
المعالجات الإدارية
ثمة معالجات إدارية عديدة لتخفيف حدة الطلب المتزايد للقضاة، وما ينجم عن ذلك من تفريط في شروط الكفاءة، ونوجز أبرز المعالجات المقترحة لذلك في ما يلي:
أولاً: الحرص على تطبيق الشروط القانونية الحالية إلى أن يتم إعادة النظر فيها:
وذلك باتخاذ عدد من التدابير، أهمها: الحرص على تطبيق شرط التدريب والتأهيل، بحيث يحقق الهدف منه؛ فالقانون جعل مدة التدريب «سنتين على الأقل» (مادة 57/ب)، وبالتالي لا تصح تولية المتدرب إلا بعد ثبوت صلاحيته، عن طريق هيئة التفتيش القضائي، وكان ثمة حاجة له، وإلا بقي في ممارسة «الوظائف القضائية المساعدة» مع استمرار ترقية من يستحق.
كما أنه لا جدوى من شرط التدريب إذا لم يوجد قضاة متميزون في الميدان للقيام بهذه المهمة، وهذا يقتضي الحرص الشديد على كفاءة المعينين في المحاكم الكبيرة خاصة في عواصم المحافظات؛ فأمثال هؤلاء من يصنعون الكفاءات القضائية المتميزة؛ لذا لا مانع من بقاء من لديه مَلكة التدريب والتأهيل للعمل في المحاكم الابتدائية، على ألا يؤثر ذلك على استمرار ترقيته، بل وعلى امتيازات المنصب الأعلى الذي يمكن أن يشغله فيما لو ترك المحكمة الابتدائية.
ثانياً: محاربة سياسة التوجه الكمّي في الأداء القضائي:
بالحرص على الكيف قبل الكم، سواء بالنسبة للقضاة أو للقضايا، وذلك باتخاذ عدد من التدابير الإدارية، أهمها:
1. التوقف عن استحداث أيّة محاكم ابتدائية عامة في عواصم المحافظات، وإعادة النظر في القائم منها، خاصة في أمانة العاصمة؛ فنرى الاكتفاء بخمس محاكم فقط؛ محكمة لوسط العاصمة، وتكون أوسعها نطاقاً؛ لأن نطاقها غير قابل للتوسع مستقبلاً، ثم محكمة لشرق العاصمة، وثالثة لجنوبها، ورابعة لغربها، وخامسة لشمالها.
2. إلغاء المحاكم الابتدائية الخاصة، والاستعاضة عن كل منها بقاض متخصص – أو أكثر إن اقتضى الأمر – في إطار المحاكم الابتدائية العامة، شأنه شأن القاضي المدني والجزائي والشخصي، أم أن عمل هؤلاء ليس تخصصاً؟!!
3. اعتماد دليل قضائي؛ لضبط إدارة المحاكم وتوحيد إجراءات إدارتها، وقطع باب الاجتهادات بهذا الشأن، ثم مراقبة مدى إعمال المحاكم لهذا الدليل، أثناء التفتيش الدوري، فبذلك نضمن عدم تعثر القضايا أمامها، مما يسهم في تخفيف حدة التراكم، كما يساعد كثيراً في التخفيف من التزيد في النصوص القانونية الإجرائية.
ثالثاً: استحداث أنظمة قضائية للتخفيف على المحاكم:
نظراً لما يترتب على إنشاء المحاكم من حاجة متزايدة للقضاة، ومن حاجة لأعداد كبيرة من الكتبة والموظفين والأمنيين، وما يترتب على ذلك من أعباء مالية تستهلك جزءاً كبيراً من مخصصات القضاء، وإعمالاً لقاعدة «الضرورة تقدر بقدرها»؛ فإن من الأنظمة القضائية في عدد من الدول – التي ما زالت تدرك طبيعة القضاء ودوره – عمدت إلى استحداث أنظمة قضائية بديلة أو مساعدة للمحاكم الابتدائية، ومن ذلك:
1. نظام «القاضي المتنقل»، وكان هذا النظام معروفاً في اليمن، باسم «قاضي المحطة»[64]؛ وسمِّي بذلك؛ لعدم وجود مقر ثابت، بل يتنقل لِيَحُطّ في المناطق التي توجد بها منازعات تستوجب تدخله؛ كالمنازعات الناشبة بين القبائل على الحدود والمراعي والمحتطبات، أو على الأراضي المملوكة للقبيلة ملكية عامة، والقضايا ذات الحساسية الخاصة؛ كقضايا الثأر المتجذرة بين بعض القبائل، ونحو ذلك من القضايا العامة التي توليها الدولة أهمية خاصة.
وثمة صورة أخرى لنظام القاضي المتنقل، وهي بأن يُجمع لقاضٍ بين رئاسة محكمتين أو أكثر من محاكم المديريات الصغيرة المتقاربة جغرافياً، على أن تصرف له وسيلة المواصلات المناسبة، والبدلات الكافية، التي تعينه على التنقل بينها وتوزيع أيام الأسبوع أو الشهر لنظر القضايا في كل منها[65].
2. نظام «القاضي المؤقت»؛ وذلك بتكليف قاض أو عضو تفتيش – إلى جانب عمله – بالنظر والفصل في القضايا التي تجتمع من حين إلى آخر في هذه المديرية أو تلك من مديريات الأطراف التي تندر بها القضايا.
3. نظام «قاضي الجماعات»، كما في دولة المغرب، أو «القاضي الشعبي» المعمول به في السودان، ونحو ذلك من الأنظمة المشابهة المعمول بها في دول أخرى، والتي يتم بموجبها قيام أفراد العشيرة أو القبيلة باختيار قاض من بينهم يتولى فض الخصومات وحسم المنازعات بينهم، بموجب الأعراف والتقاليد السائدة لديهم، وبما لا يخالف مبادئ الشريعة الإسلامية، وفي حالة عدم قبول أي منهم بحكمه، يكون له حق الطعن أمام أقرب محكمة رسمية، والتي يقتصر دورها على التأكد من عدم مخالفته لمبادئ الشريعة وللنظام العام والآداب العامة للدولة.
4. ضم بعض المحاكم إلى بعضها الآخر؛ كمحاكم المديريات المتاخمة لعواصم المحافظات أو المدن التي يمتد عمرانها لتلك المديريات؛ بحيث تضم المحكمة الواحدة أكثر من مديرية؛ فالانتقال بين معظم تلك المديريات صار أيسر من انتقال القضاة والمتقاضين في عواصم المحافظات ما بين محال إقامتهم وبين مقرات المحاكم.
5. إنشاء المقرات الجديدة للمحاكم في مناطق تتوسط عدّة مديريات صغيرة، ويعين لها قاض واحد، خاصة أن من محاكم تلك المديريات ما تزال في مبان مستأجرة، وبهذا نكون قد جمعنا بين الحسنيين.
6. مراعاة الحاجة الفعلية لكل محكمة عند تعيين ونقل القضاة، وذلك بالرجوع للإحصائيات القضائية التي تُعدها هيئة التفتيش القضائي من الواقع أثناء التفتيش الدوري؛ فالاعتماد على الإحصائيات التي تعدها المحاكم، يسفر أحياناً عن تعيين عدّة قضاة في محاكم لا تحتاج إلا لقاض واحد[66].
رابعاً: تشجيع القضاء البديل:
المتمثل في قضاء التحكيم والتوفيق، بما في ذلك نظام «قاضي التراضي»، الذي كان معمولاً به في اليمن؛ فالهدف العام لرسالة القضاء، هو «الحكم بين الناس بالحق»، سواء كان ذلك قضائياً أو رضائياً؛ فكما قال تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105]، قال له أيضاً: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
خامساً: تخفيف ثقل الأعباء الملقاة على عاتق رؤساء المحاكم الابتدائية والاستئنافية الكبيرة:
فبالإضافة إلى ما سبق ذكره بهذا الشأن من معالجات قانونية، ثمة معالجات إدارية بهذا الشأن لا تحتاج إلى نصوص قانونية، من ذلك مثلاً:
1. تعيين نواب لرؤساء محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية الكبيرة؛ فبذلك تتحقق عدة أهداف؛ أولها: تخفيف بعض أعباء الرؤساء. والثاني: تأهيل النواب على إدارة المحاكم الكبيرة. والثالث: تقييم من يصلح منهم لرئاسة المحاكم مستقبلاً.
2. تعيين مدراء المحاكم الكبيرة من بين المتخصصين في علم الإدارة؛ إذ يكفي أن يكون رئيس المحكمة من خريجي الشريعة والقانون، أما أن يكون الاثنان كذلك؛ فمسألة محل نظر.
سادساً: السعي الدؤوب لمعالجة الأسباب المباشرة لتدفق القضايا الكبير على المحاكم:
سواء كانت أسباباً إيمانية أو أخلاقية أو اجتماعية أو اقتصادية أو إدارية، وذلك بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة، سواء منها ما هو ضمن المنظومة العدلية (وزارة العدل، النيابة العامة، وزارة الداخلية) أو ذو طبيعة توعوية (الإرشاد، الثقافة، الإعلام) أو ذو طبيعة فنية (الشئون الاجتماعية، الإحصاء).
الخاتمة:
في ختام دراستنا المتواضعة هذه نذكر القارئ الكريم بما سلف من تفاوت غريب بين الأحكام القانونية من جهة، وبينها وبين الواقع من جهة أخرى، وبين الواقع بمراحله من جهة ثالثة. ومَرَدُّ ذلك التفاوت – في اعتقادنا – هو اختلال واختلاف الرؤى والمفاهيم المتعلقة بطبيعة العمل القضائي، الناجم عن غياب العمل المؤسسي، وبالتالي هيمنة الرؤى الشخصية على التقنين، بل وعلى تطبيقه.
ونرى أن اختلاف الرؤى الشخصية لا يرجع – غالباً – إلى سوء الأشخاص أنفسهم، بل إلى اختلاف مشاربهم الثقافية والفكرية؛ لهذا وليتسنى لنا بناء نظام مؤسسي – لا يتأثر بتغير الأشخاص – لابد من الاتفاق على أسس عامة يقوم عليها هذا النظام، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بالعودة إلى الأصول العامة والعمل بالضوابط الشرعية له؛ فمهما كانت مبررات ودواعي تزايد الطلب على أعداد أكبر من القضاة، فإن استمرار استصناع قضاة بعيداً عن المفاهيم الصحيحة، إنما يزيد الواقع اختلالاً والجسم اعتلالاً؛ فليس ثمة ما يبرر البتة ما وصل إليه نظام التقاضي اليوم؛ الذي يتيح مرور القضية الواحدة على حوالي (30) قاضياً بالتتابع؛ ابتداءً، واستئنافاً، وفحصاً للطعن، ونقضاً، والتماساً، وتنفيذاً، ثم استئنافاً لقرار التنفيذ، وطعناً بالنقض فيه، أما إذا كان ثمة التماس لمصلحة العدالة، فإن عدد القضاة الذين ينظرونها سيتجاوز الـ(47) قاضياً.
هذا فقط في ظل ما هو مألوف من طرق الطعن المحددة قانوناً (مادة 272 مرافعات)، بيد أن ثمة طرقاً جديدة للطعن في الأحكام ابتدعها المماطلون والعابثون مستغلين الخلل في تنظيم بعض الأحكام المستحدثة في قانون المرافعات النافذ وتعديلاته؛ ليفتح الباب للطعن في الأحكام الباتة عن طريق ما سمِّي بـ«دعاوى الانعدام» و«دعاوى المخاصمة». أما إذا صحب الخصومة «طلبات رد» للقاضي أو القضاة – وما أكثرها – فالقائمة تطول أكثر، ولمن يريد التحقق من ذلك أن يلتقط هاتفه المحمول ويفتح آلة الحساب فيه؛ ليحسب المدى الذي قد يصل إليه عدد القضاة الذي ينظرون الخصومة الواحدة عبر مراحلها المعروفة والمبتدعة.
ولا نرى سبباً للوصول إلى وضع مُزْرٍ كهذا، غير الإصرار المستمر على معالجة الاختلالات في ظل اختلال المفاهيم الصحيحة حول طبيعة القضاء وأهمية دوره، وما يلزم لأداء هذا الدور من شروط وخصال، ناهيك عما يترتب على ذلك من ضياع الوقت والجهد وإهدار المال العام الذي بلدنا في أمس الحاجة إليه؛ لكل ذلك ينبغي على القائمين على الأمر داخل القضاء وخارجه، المسارعة في معالجة تردي الوضع القضائي دون تراخ، مع مراعاة أن لفظ «القضاء» – في عصرنا الحاضر – يراد به معنيان؛ أولهما: القضاء كمؤسسة (سلطة)، وعلى رأسها مجلس القضاء الأعلى والهيئات القضائية الممثلة فيه. والآخر: القضاء كجهة حكم (المحاكم وقضاتها)؛ لذا نرى لزوم أن تبدأ المعالجة بتصويب مسار أداء تلك الهيئات، ليس بتغيير أشخاص القائمين عليها، بل بتغيير المفاهيم التي يعملون على أساسها، بدءاً بتحديد طبيعة كل هيئة لمعرفة دورها بحيث تُكمِّل تلك الهيئات بعضها، لا أن يغرد كل منها خارج السِّرب بذريعة الاستقلال المالي والإداري؛ فبالتكامل بينها يتسنى للقائمين عليها العمل على إصلاح القضاء كـ»جهة حكم»؛ بتفعيل الأركان الأربعة التي تضمنها عهد الإمام علِيٍّ عليه السلام دون غيرها وبالترتيب الذي وردت فيه، وذلك بتطبيق مضامينها عملياً على أرض الواقع، وليس بتلقين القضاة إيّاها؛ فالمخاطَب بالأوامر – التي ضَمَّنها عليه السلام عَهْدَهُ – هو واليه على أرض مصر وليس قضاتها.
والله من وراء القصد
[1] يراجع للكاتب بهذا الشأن العددان السابقان من هذه المجلة: العدد السادس، ص37 وما بعدها، والعدد السابع ص59 وما بعدها.
[2] وهي: أن يكون يمني الجنسية، خاليا من العاهات المؤثرة على القضاء، وأن يكون حائزا على شهادة من المعهد العالي للقضاء، وأن يكون محمود السيرة والسلوك حسن السمعة، وألا يكون قد حكم عليه قضائيا في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة. وليت أنه يتم التحري فعلا عن مدى توافر هذه الشروط؛ فالذي يمكن القطع به عند صدور قرار التعيين هو كون المعين يمنيا وحاصلا على شهادة المعهد، ليس إلا، مع أن الشروط مجرد شروط قبول للتعيين ابتدأ في وظائف السلطة القضائية، أما شروط الكفاءة لتولي القضاء فلا يمكن التحقق منها إلا بتطبيق الفقرة (ب) من المادة ذاتها التي تصرح قائلة: «... وألا يتولى القضاء إلا بعد مضي فترة تدريبية لا تقل عن سنتين في مجال العمل القضائي»، بيد أن العمل بهذا النص قد أهمل منذ سنة 2007م.
[3] للتفاصيل بهذا الشأن يراجع للكاتب: دراسات في الشأن القضائي والتشريعي، الدراسة المسمّاة: «أسس وقواعد وضع السياسة العامة للارتقاء بالأداء القضائي»، الأساس الأول، ص16 – 22.
[4] منها: الضغط المستمر على المحاكم – إدارياً وإعلامياً – بشأن سرعة الإنجاز، بل وبالاهتمام المبالغ فيه بإحصائيات الإنجاز الكمِّي للقضايا؛ لهذا وفي ظل تغييب الدور الفعلي لهيئة التفتيش القضائي – وهو «اختيار من يصلح للحكم بين الناس، ثم الإكثار من تعاهد قضائه» – لتصبح هذه الإحصاءات في أحوال كثيرة معياراً أساساً لتقييم هذا القاضي أو ذاك. ومنها: تطبيق «الدوام الرسمي» للجهاز الإداري على قضاة محاكم الموضوع – ابتداءً واستئنافا – إلى حد إلزامهم بالتوقيع يومياً على «حوافظ دوام»!!! دون مراعاة لاختلاف طبيعة عمل هذه المحاكم وأهميته، وهو أمر غير مسبوق في اليمن، ولا معهود في غيرها؛ لتعلقه بدماء الناس وأعراضهم وأموالهم وحقوقهم، ما يقتضي أداء عمل كهذا من استقرار نفسي وذهني لقضاة المحاكم، لا يتوفر في مقار المحاكم اليمنية، خاصة في ظل ضعف إمكاناتها البشرية والمادية، وفي ظل الطبيعة الاجتماعية التي وصل إليها حال المتقاضين في مكاننا وزماننا، ثم ما مبرر التفرقة – بشأن الدوام – بين هذه المحاكم وبين المحكمة العليا؟!! هل لأن الأخيرة مستقلة ماليا وإداريا؟ أم لأن الأولى محاكم موضوع؟!!
[5] ومن قبله نبي الله داود عليه السلام، تنفيذا لقوله تعالى: {يَا دَاودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [المائدة:49].
[6] المنتظم لابن الجوزي: الجزء7، ص65.
[7] المرجع نفسه.
[8] د. عصام محمد شبارو: قاضي القضاة في الإسلام، منشورات دار مصباح الفكر - بيروت، 1988م، ص108.
[9] د. عصام محمد شبارو: المرجع السابق، ص115.
[10] العلامة سعد بن محمد الشرقي: تقييد حوادث إنشاء تجديد الجهاد الثاني (عشر سنوات من سيرة الإمام يحيى بن محمد حميد الدين)، المجلد الأول، ص148 وما بعدها.
[11] د. علي أحمد يحيى القاعدي: القضاء في اليمن في عهد الإمام يحيى وولده أحمد ونهاية الدولة العثمانية، ص 136.
[12] د. محمد فتحي نجيب: التنظيم القضائي المصري، إصدار مهرجان القراءة للجميع- مكتبة الأسرة 2002م ، ص57.
[13] كان أول من وُلِّي هذا المنصب الفقيه محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة.
[14] فقد تم تشكيلها لأول مرة برئاسة القاضي حسين بن علي العمري، وعضوية كل من القاضيين حسن بن عبدالوهاب الوريث، ومحمد بن زيد الحوثي (د. علي أحمد يحيى القاعدي: القضاء في اليمن في عهد الإمام يحيى وولده أحمد ونهاية الدولة العثمانية، ص.125).
[15] محمد بن إسماعيل العمراني: نظام القضاء في الإسلام، إصدار المعهد العالي للقضاء، 1404هـ - 1984م، ص251.
[16] أقر هذا التقسيم الوضع القائم آنذاك باستثناء «المحاكم الجزئية» فقد أُخذت فكرتها عن النظام القضائي المصري، وبوجود هذا الصنف من المحاكم أصبحت «محاكم الألوية» محكمة ثاني درجة بالنسبة للاختصاص القيمي للمحاكم الجزئية، ولمحاكم القضوات والنواحي، أما قبل ذلك فقد كان توزيع الاختصاص بين محاكم الألوية ومحاكم القضوات ومحاكم النواحي مكانياً ليس إلا.
[17] هذا ما يتعلق باختصاصها المكاني، أما من حيث الموضوع فقد بينه القانون ذاته، وهو: «الفصل في القضايا الشرعية التي لا يجاوز قيمة المدعى به فيها عشرة آلاف ريال، وتعتبر أحكامها نهائية وغير قابلة لأي طريق من طرق الطعن في القضايا التي تتجاوز قيمتها ألف ريال» (مادة 6).
[18] ربط المقنن المسألة هنا بـ«المصلحة» وليس بـ«الضرورة»، مفوضاُ بتقدير المصلحة شخصاً واحداً، هو وزير العدل، على أن يتشاور مع رئيس المحكمة العليا، ومعلوم أن نتيجة التشاور ليست ملزمة، وأيا كان الحال فالتفويض –لشخص أو أكثر – أمر لا يملكه المقنن إلا إذا أجاز له الدستور ذلك.
[19] قوله هنا: «وقيمتها»؛ ليدخل اختصاص المحاكم الجزئية التي تمثل درجة من درجات التقاضي بالنسبة للدعاوى الداخلة في حدود نصابها الانتهائي.
[20] سواء ما كان قد أنشئ منها بقانون كمحاكم المرور، أو ما أنشئ بقرارات جمهورية كالمحكمة التأديبية ومحكمة أمن الدولة.
[21] وذلك بالنص على أن: «تلغى كلمة قضاء حيثما وردت في جميع أحكام القرار بقانون رقم (23) لسنة 1976 المشار إليه، وتلغى عبارة حاكم قضاء الواردة في جدول المرتبات والبدلات الملحق بالقانون المذكور، ويكون مرتب حاكم الناحية مبلغ (1700) ريال».
[22] الذي كان قد جُمد في المرحلة السابقة بقرار مجلس القيادة رقم (4) لسنة 1974م بـ «تجميد مجلس الشورى، وتعليق الدستور الدائم»، وقد عادت الهيئة التشريعية للعمل بالإعلان الدستوري الصادر في 6/2/1978م «بتشكيل مجلس الشعب التأسيسي وتحديد مهامه» .
[23] استمر المقنن في هذه المرحلة أيضا بتفويض شخص واحد – هو الوزير – بتحديد عدد القضاة في المحكمة العليا، ولم يقيده هذه المرة بالضرورة ولا بالمصلحة، بل «عند اللزوم»؛ لذا لا غرابة في التزايد المستمر في أعداد القضاة.
[24] رغم ذلك ظل هذ النص حبراً على ورق بالنسبة للمحاكم التجارية – دون غيرها من المحاكم الخاصة – فقد كانت الطعون المقدمة ضد الأحكام الصادرة عنها، ترفع مباشرة إلى «محكمة الاستئناف العليا»، بل وتنظر من قبل الشعبة (الدائرة) التجارية دون غيرها من شُعَب المحكمة العليا، استناداً إلى قرار مجلس القيادة رقم (28) لسنة 1976م بتشكيل الشعبة الاستئنافية التجارية بمحكمة الاستئناف العليا!!!
[25] التي كانت قد جاءت تعديلاً للمادة (51) من القانون رقم (121) لسنة 1976م، التي كانت تنص على «اختصاص المحاكم التجارية – دون غيرها – بالفصل ابتداء في الدعاوى التجارية».
[26] غريبٌ وصف المحاكم الابتدائية هنا بكونها «قضائية»!!! فهل مراد المقنن بهذا الوصف رفع شبهة كونها «محاكم استثنائية»؟!! أم هو قيد يمنع قيام مجلس القضاء من إنشاء محاكم استثنائية؟!! إذا كان كذلك فما جدوى هذا القيد في ظل الفقرة (أ) من النص نفسه؟! وقبل هذا وذاك لماذا تنصل المقنن أصلاً عن دوره الدستوري وعن تحمل مسئوليته بشأن «إنشائها المحاكم وترتيب درجاتها وتحديد اختصاصاتها»، مفوضاً مجلس القضاء الأعلى تحت ذريعة التخصص؟!!!
[27] وهي بحسب ترتيب وجودها: محاكم الضرائب، محاكم الأموال العامة، المحاكم الجزائية المتخصصة، محاكم الصحافة والمطبوعات، المحاكم الإدارية، محاكم الجمارك، المحاكم العمالية.
[28] أما القضاء العسكري فقد انشئ خارج إطار السلطة القضائية، وهذا ظاهر بجلاء من قانون الإجراءات الجزائية العسكرية الصادر بالقرار الجمهوري بالقانون رقم (7) لسنة 1996م والذي وافق عليه البرلمان لاحقاً بقراره رقم (3) لسنة 1999م، والذي ينص على جعل مكونات القضاء العسكري ضمن ما يُعرف بـ«المناطق العسكرية» (مادة 47)، واشتراط تشكيل هيئات الحكم فيه من ضباط القوات المسلحة والأمن (مادة 51) وبتبعيتهم لوزير الدفاع (مادة 6)؟!! وتمهيداً لذلك – وسعياً للتغطية على عدم دستورية هذا القانون – كان المقنن قد ضمّن قانون السلطة القضائية رقم (19) لسنة 1991م النص على «دائرة عسكرية» ضمن دوائر المحكمة العليا (مادة 16)!!!
[29] قد يبرر الإبقاء على النص: بأنه الأساس القانوني الذي يقوم عليه «نظام تعدد القضاة في المحكمة الابتدائية الواحدة» منذ حركة 1995م وإلى اليوم. وهذا مردود بأن هذا النص – كما سلف – ينظم شكل «هيئة الحكم في المحكمة الابتدائية» الواحدة، بحيث تكون من قاض فرد – كما هو الأصل – أو من ثلاثة قضاة؛ إذ لو كان ينظم الوضع القائم لقال: «تتألف هيئة الحكم في المحكمة الابتدائية من قاض فرد، ويجوز تعدد هيئات الحكم فيها كلما اقتضت الضرورة ذلك».
[30] للتفاصيل بشأن التعليق على هذا النص يراجع للكاتب: الولاية القضائية والاختصاص القضائي، الطبعة الثانية ص77 وما بعدها.
[31] الناجم عن قانون المرافعات السابق (42 لسنة 1981م) المخالف لقانون السلطة القضائية النافذ حينها، واستناداً للتشريعات الخاصة التي أنشئت بموجبها المحاكم الخاصة آنذاك (التجارية، المرورية)!!!
[32] تم لاحقاً حذف جملة: «دون غيرها»؛ لينسجم النص مع الاختصاص النوعي للمحكمة العليا بنظر الدعاوى الدستورية ودعاوى القضاة الإدارية، واختصاص محاكم الاستئناف بدعاوى بطلان أحكام المحكمين، بيد أن الأمر لم يقتصر على ذلك بل تم انتزاع مزيد من الدعاوى المبتدأة من عموم ولايتها، وإعطاؤها للمحكمة العليا، ثم تفاقم الحال بالتفويض التشريعي لمجلس القضاء الأعلى بإنشاء محاكم ابتدائية خاصة؛ فتم افراغ قاعدة «عموم ولاية المحاكم الابتدائية» من محتواها، رغم استنادها للأصل الشرعي المقرر دستورياً؛ لتقتصر ولايتها على الفصل في الدعاوى المدنية ودعاوى الأحوال الشخصية، والدعاوى الجزائية العادية ونحوها من المنازعات المتعلقة غالباً بعامة الناس؛ فأصبحت هي الأخرى «محاكم خاصة» للعامة!!!
[33] إلا أنه يؤخذ على هذا النص اضطراب صياغته؛ فلولا ما جاء في مبررات تعديله لما عرف المطلع من ألفاظه، مراد المقنن به؛ فبإخراجه ما أسماه: «الاختصاص النوعي أمام المحاكم الابتدائية»، عن كونه «من النظام العام»، يعني أن ثمة اختصاصاً «نوعياً» ثانياً من النظام العام «أمام المحاكم غير الابتدائية»!!! كما أن وصفه المحاكم الابتدائية في النص بأنها « ذات الولاية العامة» يعني أن ثمة اختصاصاً نوعياً ثالثاً «أمام المحاكم الابتدائية ذات الولاية الخاصة»!!! وتقسيم الاختصاص النوعي على هذا النحو أمر لم يقل به أحد على الإطلاق، فالاختصاص النوعي المعروف في فقه القانون هو من النظام العام، وهو صنف واحد قولاً واحداً؛ لذا كان الأولى تعديل نص المادة (91) بإعادة صياغته كما كان عليه قبل تعديل سنة 2010م.
[34] تضاعف هذا العدد تباعاً خلال عقدين من الزمن فقط، خاصة في المحاكم الابتدائية لأمانة العاصمة وعواصم المحافظات الكبيرة؛ ليتراوح عدد القضاة فيها ما بين (5 – 15) قاضياً، بل تجاوز ذلك في بعض محاكم أمانة العاصمة!!!
[35] صحيفة الجمهورية، الثلاثاء 13/9/1995م، العدد 9457، ص4.
[36] تم ترتيب المحافظات في الجدولين بحسب عدد القضاة.
[37] منها (94) محكمة في المحافظات الشمالية، و(16) محكمة في المحافظات الجنوبية والشرقية.
[38] تم احتساب النسبة المئوية للقضاة من إجمالي العدد المتبقي منهم (334 قاضياً)، وتم احتساب النسبة المئوية للمحاكم من إجمالي المحاكم المتبقية، بعد استبعاد المحاكم المشكلة من قاض فرد.
[39] ومن ذلك قصة المؤمنين في غزوة حنين؛ إذ قالوا: «لن نغلب اليوم من قِلَّة»؛ فنزل قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}.
[40] كان ثمة حراك شديد نحو تفتيت أكثر لليمن؛ بتقسيمها إلى أقاليم فيدرالية، يتمتع كل منها بحكم ذاتي مستقل إدارياً وأمنياً واقتصادياً، وبناء على ذلك التقسيم كان سينشأ في كل إقليم محكمة عليا للقضاء العادي، ومحكمة عليا للقضاء الإداري، وعدد من محاكم الاستئناف، والمحاكم الابتدائية المنبثقة عن القضائين العادي والإداري، هذا ما يتعلق بالأقاليم، أما السلطة المركزية فسيكون لها صنف خاص من المحاكم يطلق عليها «المحاكم الفيدرالية»، بطبقاتها الثلاث، وبالإضافة إلى كل ذلك سيتم إنشاء «محكمة دستورية عليا» في العاصمة، فهل ناقش المتحاورون – حول دستور الدولة الفيدرالية – مسألة كَمِّ القضاة اللازم لشغل كل هذا الخليط من المحاكم؟!! أم أن الهدف من كل ذلك الحراك كان مجرد التمهيد لتمزيق اليمن إلى دويلات؟!! لهذا تقدم الكاتب حينها بمقترح مكتوب مسبب ومعزز بالخرائط؛ لبعض ذوي الشأن آنذاك بخصوص «تقسيم إداري» جديد لليمن كدولة واحدة لها عاصمتها، وتتكون من سبع «ولايات»، يضم كل منها ثلاث محافظات من المحافظات القائمة، مع مراعاة تقارب عدد السكان في كل منها قدر الإمكان، وعدم تركز مصادر الثروة في ولاية دون أخرى، بيد أن هذا المقترح لم يلق آذناً صاغية في ظل حُمَّى الفيدراليةّ!!!
أما قضائياً – ووفقاً لهذا المقترح – ستكون ثمة محكمة عليا واحدة للدولة مقرها العاصمة صنعاء، على أن تكون محكمة قانون فقط باستثناء الدعاوى الدستورية والدعاوى الإدارية للقضاة لا غير، أما بالنسبة لمحاكم الموضوع فنرى أن يكون للعاصمة صنعاء محكمة استئناف وكذا بالنسبة لكل من الولايات السبع ويكون في نطاق كل محكمة استئناف عدد كاف من المحاكم الابتدائية، يشمل اختصاصها المكاني المديريات المتاخمة لها من جميع الجهات، ويحدد القانون قدر عدد المحاكم الابتدائية ونطاق الاختصاص المكاني لكل منها، أما المديريات التي تبعد عن عواصم المحافظات؛ فيكون لكل منها «محكمة جزئية» يحدد القانون اختصاصها القيمي وكذا اختصاصها بالدعاوى الموضوعية غير القابلة للتقدير القيمي، أما ما عدا ذلك فينعقد الاختصاص به للمحاكم الابتدائية، كل في دائرة اختصاصها المكاني، ويُطعن في ما يصدر عن المحاكم الابتدائية والجزئية معاً أمام محاكم الاستئناف – بعد تحديد ما يقبل الطعن فيه بالاستئناف – بحيث تكون محكمة الاستئناف محكمة موضوع بالنسبة للمحاكم الابتدائية، ومحكمة قانون بالنسبة للمحاكم الجزئية، مع مراعاة أن تكون ولاية المحاكم بجميع طبقاتها الثلاث عامة، باستثناء اختصاص المحكمة العليا بنظر الدعاوى المبتدأة آنفة الذكر (الاختصاص النوعي).
[41] المدرج الإحصائي لمحاكم وشعب الجمهورية اليمنية، الصادر عن الأمانة العامة لمجلس القضاء الأعلى.
[42] تجدر الإشارة إلى أن الأرقام أعلاه لا تشمل محاكم وشعب القضاء العسكري؛ لخروجها عن التنظيم القضائي العام المقرر في قانون السلطة القضائية.
[43] رقم (46) 1972م، ورغم تعديله مرات عديدة إلا أن الأحكام القانونية المتعلقة بإنشاء المحاكم وتحديد اختصاصاتها باقية كما هي.
[44] أخذ المقنن اليمني بنظام المحاكم الجزئية في تنظيم السلطة القضائية رقم (23) لسنة 1976م، نقلاً عن القانون المصري الذي ما زال ينظم اختصاصاتها إلى اليوم (مادة 42)، أما في اليمن فلعله لم يتم تفعيل النصوص الخاصة بهذه المحاكم؛ وقد ألغيت في قانون السلطة القضائية رقم (28) لسنة 1979م.
[45] أما فرضها تحت مبرر الحد من الدعاوى الكيدية؛ فمحل نظر؛ فقد نظم قانون المرافعات هذا الأمر بنصه في المادة (170) على أن: «يجوز للمحكمة أن تحكم للخصم بناءً على طلبه بغرامة على خصمه عن كل دعوى أو دفاع يقصد به الكيد كما يجوز لها دون طلب أن تحكم على ذات الخصم لذات الأسباب بغرامة مناسبة للخزانة العامة وأن تبين أسباب ذلك في حكمها». كما أن القاعدة القانونية تقضي بأن «ممارسة حق التقاضي تقوم على حسن النية» (مادة 22 مرافعات)، وإعمالاً لهذه القاعدة لا ينبغي فرض رسوم على الدعاوى بذريعة الحد من الكيدية.
[46] ثمة من يسعى إلى التزيد في عدد المحاكم الابتدائية العامة في أمانة العاصمة تبعاً لتقسيمها الإداري؛ ليكون لكل منطقة من مناطقها العشر محكمة خاصة بها، وبعض ممن يروجون لهذه الفكرة يحتجون أيضاً بـ«تقريب العدالة»، وفقاً للمفهوم المادي، مع أن ثلاثاً من المحاكم الخمس الحالية ما زالت تعمل في مبان سكنية مستأجرة، أما المحكمتان الأخريان فمقراهما لم يعودا لائقين لا شكلاً ولا مضموناً، هذا بالنسبة لمحاكم عاصمة الدولة، أما عواصم المحافظات فلا يكاد يوجد بها مبنى محكمة مملوك للدولة، ناهيك عن كونه يليق بالقضاء كرسالة؛ فاعتبار القضاء مجرد وظيفة – بل وأدنى من غيرها من الوظائف – ليس سبباً للتهاون في شروط من سيتولاه فحسب، بل هو وراء التوسع في إنشاء محاكم ما دام بالإمكان أن تعمل في شقق سكنية، بل ثمة من يقول: إن على القضاة أن يعملوا ولو «تحت شجرة» أسوة بالسلف الصالح!! فنقول: إن التأسي بالسلف الصالح أمر محمود ولا ريب، لكن ذلك يجب أن يكون في اختيار القضاة أولاً، لا العكس.
[47] د. فتحي والي: الوسيط في قانون القضاء المدني، طبعة 1981م، مؤسسة روز اليوسف. وطبعة 1997م، مركز جامعة القاهرة للطباعة والنشر، ص197.
[48] مع أن أحكام القانون اليمني متميزة جداً بهذا الشأن؛ فإلى ما قبل عقدين من الزمن كان هذا النظام يغني كثيراً من المتنازعين عن نظام التداعي أمام المحاكم، بل كان يغني عن نظام القضاء المستعجل الذي استحدث بعد ذلك ووضعت أحكامه نقلاً عن نظام «قاضي الأمور المستعجلة» في مصر وغيرها، وليس عن نظام «القضاء المستعجل « في تلك الدول نفسها، وشتان بين الحالين؛ فالقضاء المستعجل – كنظام للحماية القضائية العاجلة –يتم في الأصل أمام محكمة الموضوع أياً كانت درجتها، بطلب عارض وليس بدعوى مستقلة، واستثناء من هذه القاعدة، يمكن في حالات الاستعجال الشديد فقط أن تمنح هذه الحماية عن طريق دعوى مستقلة ترفع إلى قاض مكلف بذلك، كالقضاة المناوبين في العطلة القضائية في اليمن، بيد أن أحكام القضاء المستعجل في القانون اليمني وضعت باعتبار الاستثناء لا القاعدة!!!
[49] ومع ذلك ينبغي التمييز بينهما في النموذج الرسمي للإحصاء بتسمية الأول: «حكم أصلي»، والآخر: «حكم فرعي»، كما عليه الحال في النماذج الرسمية لتقارير الكفاءة.
[50] فسيل القضايا المتدفق على المحاكم؛ ليشكل ضغطاً مطرّداً يزداد يوماً بعد يوم؛ يرجع لخليط من الأسباب العامة: الاجتماعية، والاقتصادية، والأمنية، والإدارية، والتشريعية، وأخيراً الكثافة السكانية.
[51] فتعثر القضايا ناجم عن توقف المحكمة عن نظرها، وذلك بخروجها من «دفتر يومية الجلسات»، وهذا التعثر راجع لأمرين؛ أولهما: الخلل الظاهر في الإدارة القضائية للمحاكم، سواء الإدارة المباشرة أو الإدارة الإشرافية، والآخر: اضطراب صياغة النصوص القانونية المتعلقة بـ«شطب القضايا و«استبعادها» وبـ«سقوط الخصومة».
[52] لا شك أن لتراخي بعض القضاة تأثيراً بهذا الشأن، لكن نسبة هذا التأثير لا تقارن بالتأثير الناجم عن القصور التشريعي، سواء بالتَّزيُّد في إجراءات التقاضي أو بالتوسع في درجاته، أو بالقيود الإجرائية الكثيرة التي كبل المقنن بها السلطة التقديرية للقضاة.
[53] مقصودنا هنا هو إهدار هذه الحجية بنصوص قانونية، تم استحداثها كمعالجات للتردي العام في مستوى الأحكام القضائية، بدءاً بالمادتين (57، 294) من قانون المرافعات رقم (40) لسنة 2002م، ثم بتعديل المادة (501) منه بالقانون رقم (2) لسنة 2010م، وأخيراً: بتعديل المادة (57) منه بالقانون رقم (1) لسنة 2021م، فبنصوص كهذه لم يعد للأحكام القضائية ما ينبغي لها من حجية تمثل ردعاً للمعتدي وزجراً لغيره؛ فكثر اللجوء للقضاء، مما فاقم كثيراً من مشكلة تراكم القضايا.
[54] الدفعة الثالثة والعشرون ستتخرج خلال أشهر، وعدد أفرادها (184).
[55] يراجع كتاب الإحصاء السنوي لسنة 1417هـ الصادر عن محكمة استئناف أمانة العاصمة، والإحصائية السنوية الصادرة عن محكمة استئناف أمانة العاصمة لسنة 1443هـ.
[56] يراجع كتاب الإحصاء السنوي لسنة 1417هـ الصادر عن محكمة استئناف أمانة العاصمة، والإحصائية السنوية الصادرة عن محكمة استئناف أمانة العاصمة لسنة 1443هـ.
[57] إذ أن إنجاز محكمة بني الحارث في العام نفسه بلغ (2219) حكما.
[58] قد يستغرب المطلع تقارب إنجاز المحاكم الخاصة ما بين سنة 1417هـ وسنة 1443م، وسببه ارتفاع إنجاز ما كان يُعرف بـ"محكمة الأمور المستعجلة"، وهي ذات طبيعة جزائية في الغالب، فجل أحكامها كانت متعلقة بإقامة حد شرب الخمر؛ لذا بلغ إنجازها (1077) حكما، أي (52%) من مجموع إنجاز المحاكم الخاصة آنذاك، يليها محكمة الأموال العامة التي أصدرت حينها (515) حكما (47،8%)، ثم المحكمة التجارية التي أصدرت (298) حكما (27،5%)، وأخيرا محكمة المرور التي أصدرت (166) حكما (15،4%).
[59] يراجع للكاتب: دراسات في الشأن القضائي والتشريعي، «مقترح بمشروع قانون بديل لقانون السلطة القضائية النافذ»، ص300 وما بعدها.
[60] تجدر الإشارة إلى أن قانون السلطة القضائية المصري قد نظم إجراءات خاصة بهذا الشأن؛ يتم بموجبها إحالة القاضي الذي اختلت صلاحيته للعمل القضائي أو نقله إلى عمل غير قضائي (مادة 111).
[61] فالمعهد ليس ملجأ للباحثين عن وظائف إدارية، وما أكثرهم.
[62] فالهدف من وجود المعهد هو تأهيل قضاة لا أساتذة.
[63] فالانعدام وصف قانوني يلحق الحكم القضائي ويجعله مجرداً من جميع آثاره الشرعية والقانونية (مادة 55 مرافعات)، وبالتالي فإن القول بمواجهة الحكم المدعى انعدامه بدعوى مبتدأة، يعني أن له آثاراً، ومن ثم فهو بحاجة إلى حكم يقضي بانعدامه!!!
[64] وجدنا حكماً موقعاً عليه من بعض من تولوا هذا العمل، مؤرخ في سنة 1388هـ (1970م).
[65] عُمِلَ بهذا النظام قبل سنوات، ولكن بصورة محدودة، لم تنجح؛ لعدم مراعاة الضوابط المذكورة أعلاه.
[66] لعدم توحيد تفاصيل نماذج الإحصاء المعمول بها، كما أن توحيدها مؤخراً يفتقر لتصنيف دقيق للقضايا، كما أن تراكم القضايا الذي يظهر في بعض المحاكم، وخاصة الاستئنافية منها، قد يكون راجعاً إلى تعثر القضايا، بسبب تغيُّب بعض أعضاء الشعب.