النظام القانوني لجرائم الجلسات في التشريع اليمني

الدكتورة/تهاني علي يحيى زياد

1/8/2024

يمكنك تنزيل الدراسة من هنا

النظام القانوني لجرائم الجلسات 
في التشريع اليمني

 

 

 

الدكتورة
 تهاني علي يحيى زياد

 

«لا خوف على دولة يسودها القانون ويعلو فيها صوت الحق»

هذه الدراسة تتضمن اجتهادات قد يتفق البعض عليها معي ويخالفني آخرون، لذلك أرجو أن نتعاون فيما اتفقنا عليه للوصول لنظام قانوني يحقق العدالة في تطبيقه، وأن تعذروني فيما اختلفنا فيه.

المقدمة: 

مما لا شك فيه أن هيبة القضاء واحترامه جزء من هيبة الدولة، فالقضاء هو سلطة من سلطات الدولة التي تحمي النظام وتحافظ عليه، فهو الملاذ الوحيد لرد الحقوق إلى أصحابها؛ لذلك کان لابد من أن يضع المشرع اليمني قواعد تحكم نظام الجلسات التي تنظر فيها قضايا المختصمين، وتكفل المحافظة على كرامة القضاء، وهيبته والاحترام الواجب له في أثناء انعقاد جلساته حتى يقوم بأداء رسالته في جو من الهدوء والاحترام.   

ومن أجل ذلك فقد منح المشرع رئيس الجلسة في جميع المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها،- أي: سواء أكانت مدنية أم محكمة جزائية عامة أم متخصصة وسواء أكانت محكمة نقض أم استئناف أم ابتدائية- الحق في ضبط وإدارة الجلسة، وله أن يتخذ في سبيل ذلك كل الإجراءات والتدابير التي من شأنها ذلك؛ بل أكثر من ذلك منحه سلطات استثنائية، بتحريك الدعوى الجزائية فيما قد يقع في أثناء انعقاد الجلسة من جرائم مختلفة، وقد لا تقتصر سلطة المحكمة في أنواع أخرى من الجرائم على مجرد التحريك، وإنما تجاوز ذلك إلى الحكم فيها، حتى وصل إلى أن قاضي الحكم قد يجمع عند مواجهته لجرائم الجلسات بين سلطتي الاتهام والمحاكمة؛ فهو الذي يحقق في الجريمة ويحكم في بعض الأحيان؛ حيث الأصل ألا تعطى جهة واحدة صلاحية الاتهام والحكم في الوقت ذاته. 

وهذا الاستثناء إن كان يخالف القواعد الأصلية للمحاكمات فإن المشرع قد أخذ به لاعتبارات عديدة من أهمها: مواجهة الجرائم التي بطبيعتها قد ترد على أفعال تنافي الاحترام الذي يجب أن تحاط به المحكمة– وهي تمارس عملها في الجلسة- ويخل بالهدوء المتطلب لسير إجراءات الجلسة، وتكون بحاجة إلى رد سريع وحازم إزاء هذه الافعال أو الجرائم، إضافةً إلى ذلك أنّ المحكمة التي تشهد جلستها وقوع جريمة فيها تكون أقدر من غيرها على تحقيقها واثباتها والفصل فيها، لاسيما أنّ هذه الجرائم تعدّ في حالة تلبس، وارتكابها في مجلس القضاء ينطوي على جرأة بالغة, لكل تلك الاعتبارات خرج المشرع على القواعد العامة المنظمة لإجراءات التقاضي سواء ما يتعلق بتحريك الدعوى أم المحاكمة. 

وتتمثل السلطات الاستثنائية التي منحها المشرع للمحاكم لمواجهة هذه الجرائم أيضًا بعدم تقيد المحكمة بقواعد الاختصاص، فالمحكمة لا تتقيد بالاختصاص النوعي أو الشخصي أو المكاني عندما تتخذ الإجراءات القانونية تجاه هذه الجرائم، إضافة إلى أنّ القواعد الخاصة بمنع القضاة وردهم عن نظر الدعوى لا يعمل بها في هذه الجرائم. 

وقد نظّم المشرع اليمني الأحكام الخاصة بسلطة المحاكم فيما يتعلق بجرائم الجلسات في المواد (319) إجراءات جزائية و(173، 174، 175، 176، 177، 178) مرافعات، مفرقًا في ذلك بين حكم الإخلال بنظام الجلسة، والجرائم التي تقع فيها، وفرق بين سلطة المحاكم الجزائية وسلطة المحاكم المدنية والتجارية، كما أنّ سلطة المحكمة لمواجهة هذه الأفعال والجرائم تضيق بالنسبة لما يقع من المحامي أكثر فيما لو وقعت الجريمة من الأفراد العاديين سواء كانوا خصومًا أم أحد الحاضرين.

ولأهمية الموضوع ارتأينا أن تكون: «جرائم الجلسات في التشريع اليمني» محلاً لبحثنا لنبين القواعد الإجرائية الخاصة والاستثنائية التي تنطبق على هذا النوع من الجرائم. 

وترتيبًا على ما تقدم تُقسم هذا الدراسة إلى ثلاثة مباحث، الأول: أستعرض فيه جرائم الجلسات وتميزها عما يشتبه بها، أما الثاني فأبين فيه سلطات المحاكم في جرائم الجلسات، والمبحث الثالث والأخير أخصصه لجرائم الجلسات التي تقع من المحامي، وسننهي البحث بخاتمة تتضمن أهم الاستنتاجات التي توصلنا إليها.

 

المبحث الأول 
مفهوم جرائم الجلسات وتميزها عما يشتبه بها من نظم إجرائية

تمهيد وتقسيم:

جرائم الجلسة: هي تلك الجرائم التي ترتكب في مجلس القضاء «قاعة المحكمة» سواء أكانت هذه الجريمة تشكل جريمة جسيمة أم غير جسيمة أم هي الأفعال التي تقع داخل مبنى المحكمة أم في جلسة المحاكمة في أثناء نظر الدعوى، من شأنها عرقلة سير المحاكمة ومن ثم إعاقة عمل القضاء في الوصول إلى العدالة أو أن تقلل من هيبة المحكمة والاحترام الواجب لقضائها وتخضع لقواعد استثنائية تمليها اعتبارات المحافظة على هيبة القضاء وكرامته واحترامه. 

ولتوضيح موضوع دراستنا بصورة أكثر دقة ينبغي أن نبين بداية مفهوم الجلسة، بوصفها الأساس الذي يدور حوله عنوان الدراسة الذي نحن بصدده وهذا ما سوف نبيّنه من خلال مطلبين؛ الأول: أستعرض فيه تحديد المقصود بالجلسة، والثاني: أبين فيه تميز جرائم الجلسات عما يشتبه بها من نظم إجرائية. 

المطلب الأول 
تحديد المقصود بالجلسة

يشترط المشرع لاستعمال القضاء سلطته المخولة له في جرائم الجلسات أن يكون الفعل الذي يتعارض مع الاحترام الواجب للقضاء ويخل بالنظام الواجب توفيره للمحاكم قد وقع في المكان الذي يقرر القانون أن تعقد فيه المحكمة جلستها وفي أثناء مباشرة إجراءات الدعوى المطروحة.

هنا قد يثار تساؤل: ما هو المقصود بالجلسة؟ حتى يضع لها المشرع نظامًا إجرائيا خاصًا يخرج فيه على لكثير من المبادئ الأساسية في الإجراءات الجزائية.

تساؤل لا شك يحظى بأهمية بالغة لا بد من الإجابة عنها، بداية نقول: من الأمور المتفق عليها فقهًا أن الجلسة هي فكرة زمنية ومكانية.   

والمقصود بمعنى الجلسة مكانيًا ينصرف إلى المكان الذي تنعقد فيه المحاكمة وتباشر فيه نظر القضايا المطروحة عليها فعلاً، سواء أكان هذا المكان هو المكان المعتاد للانعقاد والذي هو قاعة المحاكمة، أو أي مكان آخر يتقرر عقد الجلسة فيه لسبب أو لآخر[1]، ويستوي بعد ذلك أن يكون انعقاد الجلسة علنًا في قاعة المحكمة أم سرًا في غرفة المداولة أم في المكان الذي تقرر المحكمة الانتقال إليه لمباشرة أي إجراء من إجراءات التحقيق النهائي مثل انتقال هيئة المحكمة للمعاينة[2] أو انتقالها إلى منزل، أو مستشفى للاستماع إلى أقوال شاهد يتعذر حضوره إلى قاعة المحكمة[3].

أما المقصود بمعنى الجلسة زمانيًا فينصرف إلى الوقت الذي يعقد فيه القضاء الجلسة؛ وفي هذا فقد تباينت الآراء، فهناك من أعطى للجلسة مفهومًا واسعًا ورأى أنّ هذا المعنى ينصرف إلى المدة الواقعة بين بداية عمل القاضي ونهايته، بما في ذلك المدة التي تكون فيها المحكمة قد رفعت الجلسة للمداولة والمدة التي تقضيها في المداولة وبذلك تعد الجلسة منعقدة قانونًا في حالة ما إذا كان أعضاء هيئة الحكم في غرفة المداولة يباشرون عملهم وتظل الجلسة منعقدة إلى الوقت الذي يتم فيه مغادرة القضاة لمكان انعقاد الجلسة بعد رفعها تمهيدًا للانصراف ويستوي أن تكون الجلسة قد انعقدت بطريقة علنية أو سرية.

في حين يفرق جانب آخر بين «الجلسة» و«انعقاد الجلسة»؛ فالجلسة يتحدد معناها بالمدة الواقعة بين دخول القاضي إلى مكان انعقاد الجلسة وبين ختامها، أي أن ذلك يشمل الوقت والمكان المخصص للمداولة، بل إن لفظ الجلسة ينصرف أيضًا إلى الوقت الذي يمضي بين رفع الجلسة ودخول القاضي غرفة المداولة.

أما معنى انعقاد الجلسة فيأخذ مفهومًا ضيقًا ويتمثل بالوقت والمكان الذي يجلس فيه القضاة فعلاً لمباشرة إجراءات الدعوى، ويتحدد بالنطاق الزمني الكائن بين افتتاح الجلسة من القاضي وقفل باب المرافعة فيها دون أن يشمل ذلك الوقت والمكان المخصص للمداولة[4] فإذا اجتمع القضاة للمداولة فالنصوص الخاصة بجرائم الجلسات لا تطبق، وإذا انتهت المداولة وعادوا مرة أخرى إلى القاعة لإعلان الحكم مرة أخرى تنطبق قواعد جرائم الجلسات بمعنى أدق إذا ارتكبت الجريمة بعد قفل باب المرافعة فهي لا تعد «جريمة جلسة»، وإذا ارتكبت الجريمة في أثناء اجتماع القضاة للتداول في «غرفة المداولة» فلا تعد أيضًا «جريمة جلسة»، فالجريمة وفقًا لهذا المفهوم يجب أن ترتكب في المدة التي يقرر القانون جلوس القضاة فيها لمباشرة إجراءات الدعوى المنظورة أمامهم سواء أكانت الإجراءات خاصة بالمرافعة أم التأجيل أم بالنطق بالحكم، ويستوي أن تكون الجلسة قد انعقدت بطريقة علنية أو سرية، وتنتهي الجلسة بانصراف القضاة من القاعة المخصصة للاستماع، أيًا كان مكان انعقاد الجلسة سواء أكان مقر المحكمة أم في مكان آخر تقرر عقدها فيه. 

وقد تبنت محكمة النقض المصرية المفهوم الضيق في أحد أحكامها بالقول: «إذا كانت المحكمة قد عدت الجريمة واقعة في الجلسة، حتى إذا وقعت في أثناء اجتماع القضاة للمداولة، فإنّ قضاءها يكون مخالفًا للقانون وهو ما يستوجب نقضه، مع القضاء بقبول الدفع ببطلان إجراءات تحريك الدعوى الجزائية»[5]

من جانبنا نرى أنّ الرأي الأولى بالترجيح هو الرأي الذي يأخذ بالمفهوم الواسع؛ لأنّ أي إخلال يقع في أثناء هذه الفترة يعد مساسًا بالحرمة الواجبة للمحاكم، إلا أنّه بالرجوع إلى الأحكام الخاصة بجرائم الجلسات في النظام القانوني اليمني نجد أن المشرع اليمني قد نظم جرائم الجلسات في المادة (319) إجراءات جزائية فاستعمل عبارة «لرئيس الجلسة أن يخرج من القاعة من يخل بالنظام العام فيها... » وهذا ما تضمنته المادة (١٧٦) مرافعات بالنص بأنه «إذا وقع تعدِّ على هيئة المحكمة أو أحد أعضائها أو أحد العاملين بها في أثناء انعقاد الجلسة...» فعبارة «أثناء انعقاد الجلسة» تظهر أن المشرع اليمني اشترط أن تقع الجريمة في قاعة المحاكمة، وهو تطبيق للرأي الذي يأخذ بالمفهوم الضيق لتحديد المقصود بالجلسة.

ولكن على الرغم من أخذ المشرع اليمني بالمفهوم الضيق في مفهوم جرائم الجلسات؛ إلا أنه وسع من مفهوم جرائم الجلسات في جريمة التعدي على هيئة المحكمة، أو أحد أعضائها، أو أحد العاملين فيها؛ حيث استعمل في المادة (177) مرافعات عبارة: «إذا وقعت في الجلسة أو في مبنى المحكمة أو ساحاتها...»، هنا نجد أن المشرع قد توسع في النطاق المكاني لجرائم الجلسات فلم يقصر موقع الجريمة على قاعة الجلسة، بل امتد ليشمل أي جزء من مبنى المحكمة أو ساحاتها، وهو تطبيق للرأي الذي يأخذ بالمفهوم الواسع لتحديد المقصود بالجلسة.

المطلب الثاني
 تميز جرائم الجلسات عما يشتبه بها من نظم إجرائية

قد تشترك بعض النظم الإجرائية مع جرائم الجلسات في بعض القواعد الإجرائية إلا أنها لا تعد من قبيل جرائم الجلسات، ومن هذه النظم سلطة المحاكم في التصدي لتحريك الدعوى الجزائية، وسلطة المحاكم في محو العبارات الجارحة من أي ورقة من أوراق المرافعة وهو ما سنبينه تبعًا: 

أولًا: سلطة المحاكم في التصدي لتحريك الدعوى الجزائية:

القاعدة: أن النيابة العامة هي صاحبة الاختصاص الأصيل بتحريك الدعوى الجزائية، ورفعها، ومتابعتها أمام المحاكم حتى صدور حكم في موضوعها يقرر ثبوت أو عدم ثبوت الحق في العقاب من عدمه؛ وهذا ما تشير إليه وتؤكده بوضوح المادة (21) إجراءات جزائية، بالقول: «النيابة العامة هي صاحبة الولاية في تحريك الدعوى الجزائية ورفعها ومباشرتها أمام المحاكم، ولا ترفع من غيرها إلا في الأحوال المبينة في القانون». 

ولكن بعد أن بين المشرع اليمني في المادة (21) أحقية النيابة العامة بتحريك الدعوى الجزائية ختم نص المادة بالقول: «مالم ينص القانون على خلاف ذلك»، ومفهوم هذه العبارة يعني أن هناك وسائل أخرى أجاز القانون بواسطتها تحريك الدعوى الجزائية غير ما ذكر آنفًا؛ فقد استثناء المشرع اليمني في أحوال معينة من قاعدة احتكار النيابة العامة لتحريك الدعوى الجزائية؛ وإعطاء المحاكم سلطة تحريكها؛ وذلك في إحدى حالتين: 

الأولى: حالات التصدي المخولة للمحاكم الجزائية الابتدائية والاستئنافية، وللدائرة الجزائية بمحكمة النقض لتحريك الدعوى الجزائية . 

الثانية: السلطة المخولة للمحاكم عامة بتحريك الدعوى الجزائية بالنسبة للجرائم التي تقع في الجلسات والفصل في بعضها.

ما يميز بين الحالتين أن التصدي في الحالة الأولى مقتصر على المحاكم الجزائية؛ أما في الحالة الثانية فمقرر لجميع المحاكم، كما أن سلطة القضاء في حالة التصدي تقتصر على مجرد تحريك الدعوى الجزائية، بينما في جرائم الجلسات تشمل- في بعض الحالات بالإضافة إلى ذلك- تحقيق الدعوى والحكم فيها، ويميز بين الحالتين كذلك اختلاف العلة والسبب. 

فالعلة من التصدي هي تخويل القضاء نوعًا من الإشراف والرقابة على السلطة التقديرية للنيابة العامة في توجيه الاتهام وتصحيح ما قد يقع من خطأ، أو تقصير، أو نقص في أداء وظيفتها إذا لم توجه الاتهام على النحو الذي كان يتعين عليها أن توجهه به، ومن أجل هذه الحكمة كان حق التصدي أمراً إلزامياً على المحكمة ويعلل التصدي كذلك ضرورة ما تقتضيه العدالة في عدم إفلات المجرم من المساءلة الجزائية والعقاب، لأنَّ شعور الجماعة بوجود متهمين لم يلتفت إليهم قرار الاتهام أو وقائع لم تباشر الإجراءات بشأنها بدون سبب يهدد الثقة في العدالة[6].

في حين علة  جرائم الجلسات هي الحفاظ على هيبة القضاء في أثناء انعقاد جلساته إضافةً إلى ذلك فإن مثل هذه الجرائم قد ترتكب في مجلس القضاء وفي حالة تلبس الأمر الذي قد يجعل القاضي يتحقق منها بنفسه. 

وسبب التصدي اكتشاف المحكمة في أثناء نظرها للدعوى الجزائية المرفوعة أمامها أن هناك متهمًا أو متهمين غير من أقيمت الدعوى عليهم، منسوبًا إليهم ارتكاب الجريمة المرفوعة بها الدعوى؛ وقامت النيابة العامة برفع الدعوى على بعضهم وأغفلت الرفع ببعضهم الآخر، أو إذا تبين للمحكمة في دعوى مرفوعة أمامها أن المتهم، أو المتهمين الذين قدموا للمحاكمة موضع تهمة أخرى غير تلك التي أسندت إليهم في الدعوى المعروضة وأن هذه التهمة مؤيدة بأدلة قولية أو كتابية مما قدم في الدعوى المعروضة ولم تقدم النيابة تلك الوقائع في قرار الاتهام[7].

في حين سبب جرائم الجلسات هي مواجهة الأفعال التي تقع داخل جلسات المحكمة في أثناء نظر الدعوى وهي أفعال إما أن  تحت نص قانوني يعاقب عليها فتعدّ جريمة، أو لا تحت مثل ذلك النص فلا تعد جريمة، وإنما مجرد أفعال تشويش أو إخلال بنظام الجلسة[8]

ثانيًا: سلطة المحاكم في محو العبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام، أو للآداب العامة: 

وردت هذه السلطة في المادة (١٧٥) مرافعات بالنص أنه: «على المحكمة أن تمنع التلفظ بالعبارات الجارحة، أو المخالفة للنظام العام، أو للآداب العامة، ولها من تلقاء نفسها أن تأمر بمحوها من محضر الجلسة أو الأوراق والمذكرات الأخرى بقرار يثبت في محضر الجلسة». 

وهذا ما أقرته معظم التشريعات نذكر على سبيل المثال– لا الحصر- ما أقره المشرع المصري في المادة (105) مرافعات والتي جاءت بالصيغة ذاتها التي جاءت بها المادة (١٧٥) مرافعات تقريبًا، والمادة (65) من قانون المرافعات العراقي رقم (23) لسنة 1971م، التي نصت على أن:« للمحكمة ولو من تلقاء نفسها أن تقرر شطب العبارات الجارحة أو المخالفة للآداب أو النظام العام من اللوائح أو من أية ورقة من أوراق المرافعة».

والحكمة من إقرار هذا الحق للمحكمة هو الحد من الطعن في شرف وكرامة الغرماء وهذا ما أكده المشرع  في المادة (319/2) إجراءات جزائية بقوله: «يحرص رئيس الجلسة على أن تحترم كرامة الموطنين وهيئة المحكمة من قبل جميع الأطراف المشتركين في القضية». ولكن لا تلتزم المحاكم استعمال هذا الحق، إذ الأمر جوازي لها، وهي تقدر ملاءمته؛ فلها استعماله أو إهماله، واذا اختارت أحد الأمرين فهي ليست مطالبة ببيان الأسباب التي اعتمدت عليها في هذا الاختيار، كما أنّ المحكمة عندما تستعمل هذا الحق تستعمله من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب أحد الخصوم، وتقدير كون العبارات جارحة أو مخالفة للآداب يدخل أيضًا في سلطة المحكمة التقديرية[9]

ولكن استعمال هذا الحق لا يحول دون إمكانية لجوء أحد أطراف الدعوى إلى استعمال عبارات القذف أو السب شفاهًا أو كتابة في أثناء دفاعه عن حقوقه أمام المحاكم، وسلطات التحقيق أو الهيئات إذا كان ذلك لازمًا في اثبات واقعة معينة تستلزمها الدعوى، أو لدحض أمر معين يقض موضوع الدعوى دحضه أو كانت الدعوى لا تثبت إلا بإيراد هذه العبارات، وعلى هذا الأساس نصت المادة (293/7) عقوبات على أن: «لا تقبل دعوى السب في الأحوال الآتية:... إذا صدرت الأقوال أو العبارات في أثناء إجراءات قضائية من شخص أشترك فيها بصفة قانونية كقاضٍ أو محامٍ أو شاهد أو طرف في الدعوى»، وكذلك نصت المادة (290) عقوبات على أن: «يسقط حد القذف ... بإقامة البينة على صحة ما قذفه به أو بإقرار المقذوف نفسه به... ». 

 

المبحث الثاني 
سلطة المحاكم في مواجهة جرائم الجلسات

تمهيد وتقسيم:

قد تقع من المتواجدين في الجلسة في أثناء نظر الدعوى أفعال تمثل خروجًا على حرمة الجلسات وانتهاكاً لكرامة القضاء وهيبته في نفوس الأفراد وحسن سير العدالة، وهذه الأفعال قد تعدّ جريمة سواء أكانت جسيمة أم غير جسيمة؛[10] وقد لا تعد جرائم وإنما مجرد أفعال تشويش أو إخلال من شأنها أن تؤثر في الهدوء الذي ينبغي أن يسود فيها لتتمكن هيئة الحكم في المحكمة من مباشرة واجبها في الفصل في الدعاوى المطروحة عليها.

وفي الحالتين فقد قدر المشرع لهذه الأفعال نظامًا إجرائيًا خاصًا مفرقًا في ذلك بين حالتين: الأولى: حكم الإخلال بنظام الجلسة، والثانية: ارتكاب فعل يشكّل جريمة في قاعة المحاكمة، أو في مبنى المحكمة أو ساحاتها.

وغني عن البيان أنه لا يعد «جريمة جلسة» الفعل الذي يستفيد مرتكبه من «حق الدفاع أمام القضاء»  كسبب للإباحة، والمحكمة التي تحرك الدعوى الجزائية في شأن «جريمة الجلسة» هي التي تختص بتقرير هذا التكييف لها، وهي تفعل ذلك تحت رقابة محكمة النقض[11]

وعلى هذا النحو، يُقسم هذا المَبْحَثُ إِلَى مطلبين؛ نخصص الأول لتوضيح سلطة المحاكم في مواجهة حالة الإخلال بنظامها، والثاني سلطة المحكمة في مواجهة الجرائم التي ترتكب في المحكمة. 

المطلب الأول 
سلطة المحاكم في مواجهة حالة الإخلال بنظامها

تناول المشرع اليمني سلطة القاضي الجزائي عند الإخلال بنظام الجلسة في المادة (319) إجراءات جزائية بالنص: 

1-  تكون إدارة المحاكمة من قبل رئيس الجلسة.

2-  يحرص رئيس الجلسة على أن تحترم كرامة المواطنين وهيئة المحكمة من قبل جميع الأطراف المشتركين في القضية.

3- لرئيس الجلسة أن يُخرج من القاعدة مَنْ يخل بالنظام العام فيها، وله الحق أن يوقع العقوبة الفورية على من يخل بالنظام، وذلك بحبسه مدة 24 ساعة أو بغرامة لا تتجاوز (2000) ريال. 

4-  إذا اعترض أحد الأطراف على قرار صادر عن رئيس الجلسة في مجال إدارة الجلسات تبت هيئة المحكمة في الاعتراض.

5- يشرف عضو النيابة العامة عند غياب هيئة المحكمة على حفظ النظام في قاعدة المحكمة. 

وتناول السلطة المخولة للقضاء المدني والتجاري عند الإخلال بنظام الجلسة في المادة (١٧٤) مرافعات التي نصت على أن: «لرئيس الجلسة أن يخرج من قاعتها من يخل بنظامها فإن لم يمتثل وتمادى كان للمحكمة أن تحكم عليه بغرامة خمسمائة ريال أو بحبسه أربعًا وعشرين ساعة، وإذا وقع الإخلال ممن يؤدون وظيفة بالمحكمة كان لرئيس المحكمة تقرير الجزاء التأديبي عليهم وللمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة إذا قبلت عذر الموظف أو المحكوم عليه أن ترجع عن الحكم أو القرار الصادر عنها».

يُلحظ أن نص المادة (١٧٤) مرافعات يكاد يطابق ما ورد بنص المادة (319) إجراءات جزائية؛ وهو ما يعني وحدة ما نقول به من قواعد تخضع لها في ضبط الجلسة وإدارتها وحفظ نظامها سواء كانت المحكمة جزائية أم مدنية أم تجارية، كما سنرى. 

فقد جعل المشرع سلطة ضبط الجلسة وإدارتها وحفظ نظامها في جميع المحاكم منوطة برئيسها، الذي يتولى توجيه الأسئلة للخصوم والشهود، وإذا رغب أحد الأعضاء في توجيه سؤال أو ملاحظة أسر له بذلك ليتولى هو توجيه السؤال[12] وقد قرر المشرع هذا الحق أيضًا لعضو النيابة فنصت المادة (128) إجراءات جزائية بأن «يكون لعضو النيابة العامة في أثناء التحقيق ما للمحكمة من سلطات تتعلق بحفظ النظام في الجلسة».

ولكن قد تحدث في جلسة المحاكمة أحيانًا أفعال ليست ذات صفة إجرامية وإنما مجرد أفعال تشويش تخل بنظام الجلسة، هنا تكون للقاضي رئيس الجلسة- في جميع المحاكم– سلطة اتخاذ الإجراء المناسب لمواجهة مثل هذه التصرفات، كلًا حسب نوعية التصرفات، وحسب ما هو منصوص عليه في المادة (319) إجراءات جزائية والمادة (١٧٤) مرافعات، وسوف نوضحها كالآتي: 

الإجراء الأول: مواجهة التصرفات المؤدية إلى الإخلال بنظام الجلسة:

إذا حدث في أثناء انعقاد الجلسة فوضى وصياح، أو تلفظ بألفاظ اعتراضية، من الحضور أو تصرفات، لا تتلاءم مع جو الهدوء الذي ينبغي أن يسود في الجلسة؛ وهذه الصورة من التصرفات المخلة بنظام الجلسة تصنف أنها غير ذات صفة إجرامية ولكنها تكتسب خطورتها من مجرد صدورها في الجلسة، وتأثيرها في الهدوء الذي يجب أن يسود الجلسة لتتمكن المحكمة من مباشرة عملها والفصل في الدعاوى المطروحة عليها فإن للقاضي رئيس الجلسة – في سبيل مواجهة تلك التصرفات- وحسب ما هو منصوص عليه في الفقرة الثالثة من المادة (319) إجراءات جزائية، والمادة (١٧٤) مرافعات- الحق في أن يُخرج كل من يخل بنظام الجلسة، حتى لو اقتضى الأمر إخراج كل الحاضرين، بشرط أن يتوقف عن الاستمرار في نظر الدعوى إلى حين دخول جمهور آخر، وهذا الحكم احترامه لشرط العلانية فلا يجوز للقاضي الاستمرار بالمحاكمة إلا إذا بقي في الجلسة عدد من الناس بغير تمييز وإذا انعقدت الجلسة دون جمهور في غير الأحوال التي يقرر فيها القاضي جعلها سرية صارت المحاكمة باطلة.

والإخراج من الجلسة لا يقتصر على الجمهور الحاضرين بل يمتد ليشمل حتى المتهم إذا أخل بنظام الجلسة، إذ يجوز للمحكمة إخراجه من القاعة إذا أخل بالنظام مدة تمكنها من إعادة الضبط والهدوء في القاعة ثم بعدها يعود لقاعة المحاكمة إذا كف عما صدر عنه، وتعدّ الإجراءات التي تمت بغيابه كالإجراءات التي تمت بحضوره، بشرط أن يخبر بها وهذه الحالة لا يصار إليها إلا عند الضرورة القصوى؛ لأّنها خلاف الأصل الموجب عدم إبعاد المتهم عن قاعة المحاكمة.

والسند القانوني لهذا الإجراء من القاضي رئيس الجلسة جاء في المادة (349) من قانون الإجراءات الجزائية التي قرر فيها المشرع أنه «لا يجوز إبعاد المتهم في أثناء نظر الدعوى إلا إذا وقع منه ما يخل بنظام الجلسة وتستمر الإجراءات في مواجهة وكيله أو منصوب عنه إلى أن يمكن السير فيها بحضوره، وعند عودته على المحكمة أن تحيطه علماً بما تم في غيبته من إجراءات».

ولما كان إبعاد المتهم عن الجلسة يحرمه من حقه في الدفاع عن نفسه؛ فإنه ينبغي أن يتم ذلك بحكم من المحكمة وليس بأمر من رئيسها فحسب؛ وإلا كان هذا الأمر باطلًا[13].

وهذه السلطة المخولة للقاضي رئيس الجلسة الهدف منها ضبط الجلسة وإدارتها لتتمكن المحكمة من مباشرة عملها والفصل في الدعاوى المطروحة عليها بشكل يحقق العدالة، ولذا لا يعدّ أمر رئيس المحكمة بالإخراج عقوبة وهو ليس حكمًا، بل مجرد إجراء إداري محض يباشره لمجرد الإخلال بالنظام في الجلسة بوصفه منوطًا به ضبطها وإدارتها؛ ولذا يختص به رئيس الجلسة وحده – سواء أكان في المحكمة الجزائية أم المدنية أم التجارية-  أي لا يشترط قبل صدوره أخذ رأي باقي الأعضاء إذا كانت الجلسة من أكثر من قاضٍ، أو سماع أقوال النيابة العامة فيما يخص المحاكم الجزائية، ولا سماع أقوال المخل بالنظام وهذا الإجراء من القاضي غير قابل للطعن فيه؛ لأنَّ الإجراء الصادر عنه ما هو إلا مجرد وسيلة تهديد مؤقتة يقتضيها حفظ النظام بالجلسة. 

الإجراء الثاني: مواجهة عدم الامتثال والتمادي في الإخلال بالنظام: 

أشرنا إلى أنه يجوز لرئيس الجلسة للحفاظ على النظام والهدوء في الجلسة الأمر بالتزام الهدوء أو أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها فإن لم يمتثل من أخل بنظام الجلسة لأمر رئيسها بالخروج من القاعة أو تمادى في التشويش شكّل ذلك في حقه جريمة خاصة يجوز بموجبها لرئيس الجلسة أن يصدر على الفور «حكمًا» من تلقاء نفسه ودون الرجوع للنيابة العامة، بحبس الجاني حبسًا بسيطًا أربعا وعشرين ساعة، أو بغرامة لا تتجاوز(2000) ريال، ولا يشترط أن يصدر الحكم عن كامل هيئة المحكمة إذا كانت مشكلة من عدة أعضاء في الجلسة، وهذا ما يفهم بشكل واضح من الفقرة الثالثة من المادة (319) إجراءات جزائية التي جاء فيها: « لرئيس الجلسة أن يخرج من القاعدة من يخل بالنظام العام فيها، وله الحق أن يوقع العقوبة الفورية... ».

أما بالنسبة لباقي المحاكم غير الجزائية فيجوز لرئيس الجلسة وفقًا لنص المادة (174) مرافعات أن يحكم على الفور بتوقيع العقاب على الفاعل وهو الحبس أربعًا وعشرين ساعة، أو بغرامة (500) ريال، وإذا كانت مشكلة من عدة أعضاء في الجلسة، فإن قرار العقوبة ينبغي أن يصدر عن كامل هيئة المحكمة، وليس عن رئيس الجلسة،[14] وهذا ما يفهم بشكل واضح من المادة (174) مرافعات التي جاء«لرئيس الجلسة أن يخرج من قاعتها من يخل بنظامها» وتابع المشرع نص المادة بالقول: «فإن لم يمتثل وتمادى كان للمحكمة أن تحكم عليه بغرامة خمسمائة ريال أو بحبسه أربعًا وعشرين ساعة».

ويُلحظ بهذا الصدد أنّ قرار القاضي الجزائي- رئيس الجلسة- فرض عقوبة الحبس أربعاً وعشرين ساعة أو الغرامة التي لا تتجاوز(2000) ريال وفقًا للفقرة (4) من المادة (319) إجراءات جزائية لم يشترط فيه المشرع التمادي وعدم الامتثال لأمر رئيس الجلسة، فقد يرى القاضي الجزائي هذه العقوبة على التشويش أو التمادي. 

في حين قيد المشرع سلطة رئيس الجلسة في المحاكم المدنية والتجارية في فرض عقوبة الحبس أربعاً وعشرين ساعة[15] أو الغرامة التي لا تتجاوز(500) ريال على التمادي في التشويش وعدم الامتثال لأمر رئيس الجلسة؛ إذ نصت المادة (١٧٤) مرافعات على أن: « ... وإن لم يمتثل وتمادى كان للمحكمة أن تحكم عليه بغرامة خمسمائة ريال أو حبسه أربعًا وعشرين ساعة». 

وينبغي الاشارة إلى أن هذا الإجراء ما هو إلا عقاب على التمادي في التشويش الحاصل بمجلس القضاء بوصفه مجرد إخلال بالنظام فيه، ولا شأن له بما قد يحتويه التشويش من جرائم مثل القذف والسب؛ لأنّ هذه الجرائم تنظر بالطرق القانونية المرسومة، فإذا حكمت محكمة على متهم بسبب تشويش بالجلسة، فإنّ هذا الحكم لا يمنع من محاكمته محاكمة قانونية على ما تضمنه هذا التشويش من قذف أو سب[16].

كما يُلحظ أن الفقرة (3) من المادة (319) إجراءات جزائية والمادة (١٧٤) مرافعات، في فرض عقوبة الغرامة والحبس كإجراء من إجراءات ضبط الجلسة، يتفقان في نوعية العقوبة، ويتفقان– أيضًا- في أنها عقوبة تخييرية بين الغرامة وبين الحبس، إضافة إلى أنهما يتفقان في مدة عقوبة الحبس أربع وعشرين ساعة، غير أنهما يختلفان في مقدار مبلغ الغرامة فحين نجد قانون المرافعات يحددها بمبلغ خمسمائة ريال لا يجوز للمحكمة إنقاصها عن ذلك المقدار أو زيادتها عليه، ونجد في المقابل قانون الإجراءات الجزائية يحدد الغرامة بمبلغ لا يتجاوز(2000)ريال بمعنى أن للمحكمة أن تنقص بحدها الأدنى إلى ما يقل عن خمسمائة، ولكن لا يجوز أن تزيد في حدها الأعلى عن الفين ريال[17] وبما أن النص المحدد لعقوبة الغرامة نتيجة الإخلال بنظام الجلسة الوارد في قانون الاجراءات الجزائية نص خاص فيتعين على المحاكم الجزائية بمختلف درجاتها وتخصصاتها النوعية أن تلتزم به، أما المحاكم المدنية بمختلف درجاتها وتخصصاتها فلا تطبق إلا النص الوارد في قانون المرافعات[18].

ومما تجدر الإشارة إليه أن قرار رئيس الجلسة- في المحاكم الجزائية أو المدنية والتجارية على السواء- بالإخراج أو فرض عقوبة الحبس أو الغرامة ليس نهائيًا، وإنما يجوز لرئيس الجلسة أن يرجع عن الحكم الذي أصدره إلى ما قبل انتهاء الجلسة، أي أن هذا الحكم مجرد وسيلة تهديدية مؤقتة يقتضيها حفظ النظام بالجلسة ولكن إذا انتهت دون أن يرجع عنه صار حكمًا نهائيًا غير جائز استئنافه، وهذا ما وضحته المادة (١٧٤) مرافعات بالقول: «... للمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة إذا قبلت عذر الموظف أو المحكوم عليه أن ترجع عن الحكم أو القرار الصادر عنها» وما وضحته المادة (١٧٨) بالقول: «يكون الحكم الذي يصدر عن المحكمة بالغرامة أو الحبس للإخلال بنظام الجلسة نهائيًا..».

إلا أن المشرع  في المحاكم الجزائية جعل من حق المتضرر الاعتراض من أي قرار يصدره القاضي رئيس الجلسة في مجال إدارة الجلسة؛ فإذا تم الاعتراض فإن قرار البت فيه لا يصدر عن رئيس الجلسة أو رئيس المحكمة وإنما من هيئة المحكمة بكامل أعضائها بعد إجراء المداولة وإلا عد الإجراء باطلًا؛ وهذا ما يفهم من العبارة الواردة في الفقرة الرابعة من المادة (319) إجراءات جزائية على أن: «إذا اعترض أحد الأطراف على... تبت هيئة المحكمة في الاعتراض»؛ أما إذا كانت المحكمة مشكلة من قاضٍ فرد كانت له سلطة إصدار القرار في الاعتراض؛ إذ يمثل القاضي رئيس الجلسة هيئة الحكم، والقرار الذي يصدر في الاعتراض من قبل الهيئة أو القاضي الفرد يعد حكماً نهائياً ولا يمكن لهيئة المحكمة العدول عنه بعد إصداره حتى لو كانت في الجلسة؛ بخلاف الحكم الذي قررته المادتين (174) و(178) مرافعات اللتان أجازتا للمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة الرجوع عن الحكم الذي أصدرته بالحبس أو الغرامة على من يتمادى بالإخلال بالنظام والتمادي بالتشويش.

ولكن قد يثار تساؤل بهذا الصدد مفاده: ماذا لوكان المخل بنظام الجلسة ممن يؤدون وظيفة بالمحكمة؟    فما هو الإجراء الذي يمكن للمحاكم اتخاذه حياله؟ 

الجواب: أنه إذا وقع الإخلال بنظام الجلسة على النحو السالف البيان ممن يؤدون وظيفة بالمحكمة- أي من موظفي المحاكم وليس من القضاة كالكتبة، أو الإداريين، كان لرئيس المحكمة بما له من سلطة إدارية رئاسية على موظفي المحكمة، تقرير الجزاء التأديبي عليه؛ الذي يجوز لرئيس المصلحة توقيعه على مرؤوسيه وفقًا لما نص عليه القانون الإداري؛  وللمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة إذا قبلت عذر الموظف أن ترجع عن القرار الصادر منها، أما إذا انتهت الجلسة دون رجوع المحكمة عن القرار فعندئذ يصبح الجزاء التأديبي نهائياً، وفي ذلك نصت المادة (١٧٤) مرافعات على أنه: «.. إذا وقع الإخلال ممن يؤدون وظيفة بالمحكمة كان لرئيس المحكمة تقرير الجزاء التأديبي عليهم وللمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة إذا قبلت عذر الموظف أو المحكوم عليه أن ترجع عن الحكم أو القرار الصادر عنها»، وطالما لم يرد مثل هذا الحكم في قانون الإجراءات الجزائية فلا مانع من تطبيق المادة (١٧٤) مرافعات؛ تطبيقًا لنص المادة (564) إجراءات جزائية، كما أن غاية المشرع الجزائي لا تتنافى مع سريان نص المادة (١٧٤) مرافعات على المحاكم الجزائية.

المطلب الثاني
سلطة المحكمة في مواجهة الجرائم التي ترتكب في المحاكم

نظم المشرع اليمني سلطات المحكمة في مواجهة أي فعل قد يشكّل جريمة ارتكبت في قاعة المحاكمة أو في مبنى المحكمة أو ساحاتها في المادتين (١٧٦) و (١٧7) مرافعات وهاتان المادتان إن كان النص عليهما في قانون المرافعات فإنهما واجبتا التطبيق في كل المحاكم على مختلف أنواعها ودرجاتها بما في ذلك المحاكم الجزائية العامة والمتخصصة[19]

وهذا ما أكده المشرع اليمني بالمادة (564) إجراءات جزائية التي قرر فيها أنه يتعين الرجوع إلى قانون المرافعات في كل ما لم يرد به نص في قانون الإجراءات الجزائية[20]، وقد فرق المشرع اليمني بين ثلاثة أنواع من جرائم الجلسات، ووضع لكل نوع منها– بحسب مكان حدوثها– أحكامًا خاصة لسلطة المحكمة في التصدي: 

النوع الأول: ارتكاب جريمة التعدي وشهادة الزور في قاعة الجلسة في أثناء انعقاد الجلسة. 

النوع الثاني: سائر الجرائم التي ترتكب في قاعة الجلسة في أثناء انعقاد الجلسة غير جريمة التعدي وشهادة الزور. 

النوع الثالث: سائر الجرائم التي تحدث خارج قاعة الجلسات، سواء في مباني المحاكم أم في ساحتها. 

واستناداً لما تقدم سوف نوضح هذا المطلب من خلال الفروع الآتية: 

الفرع الأول
 سلطة المحاكم في جريمة التعدي والشهادة الزور التي تقع

في قاعة المحكمة أثناء الجلسة

نصت المادة (١٧٦) مرافعات على أن: «إذا وقع تعِّد على هيئة المحكمة أو أحد أعضائها أو أحد العاملين بها في أثناء انعقاد الجلسة حاكمت المحكمة المعتدي وحكمت عليه في الحال بالعقوبة المقررة قانونًا، ولها أن تحاكم شاهد الزور، وتحكم عليه بالعقوبة المقررة قانونًا».

الواضح من هذا النص أن المشرع قد منح المحاكم جميعًا- حتى لو كانت محكمة النقض- سلطة تحريك الدعوى الجزائية والحكم فيها على نوعين من الجرائم هما: الأول؛ الجرائم التي تمثل تعدياً على هيئة المحكمة أو أحد أعضائها أو أحد العاملين بها، والنوع الثاني، جرائم الشهادة الزور. 

وتخضع الأحكام الصادرة في جريمة التعدي وشهادة الزور التي تقع في أثناء انعقاد الجلسة للطعن فيها بطرق الطعن التي رسمها القانون، فإذا كان الحكم صادراً عن المحكمة الابتدائية جاز الطعن أمام محكمة الاستئناف وإن كان صادرًا عن محكمة الاستئناف فإنه يقبل الطعن فيه بطريق النقض، أما إذا كان صادرًا عن محكمة النقض فلا سبيل للطعن فيه. 

ولكن ما يجدر التنويه إليه هو أن المحكمة المدنية والتجارية وهي تؤدي سلطتها في نظر الدعوى الجزائية والحكم فيها تتحول إلى محكمة جزائية ومن ثم تكون الأحكام الصادرة عنها في شأن جرائم التعدي وشهادة الزور أحكاماً جزائية لا يجوز الطعن فيها بالاستئناف إلا أمام الشعبة الجزائية بمحكمة الاستئناف كما لا يجوز الطعن فيها بالنقض إلا أمام الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا، وإذا ما طعن فيها بالنقض أمام الدائرة الجزائية بمحكمة النقض وقضت المحكمة بإلغاء الحكم وإحالة الدعوى إلى محكمة أخرى فإن هذه المحكمة يجب أن تكون محكمة جزائية. 

وبذلك سوف نتناول سلطات المحاكم إزاء كل حالة من هذه الحالات مخصصين لكل حالة غصناً مستقلًا. 

الغصن الأول 
سلطة المحاكم بالنسبة لجرائم التعدي على هيئة المحكمة أو أحد أعضائها أو العاملين بها

عد المشرع اليمني جريمة التعدي على هيئة المحكمة أو أحد أعضائها أو أحد العاملين بها في أثناء انعقاد الجلسة من جرائم الجلسات وأعطى لجميع المحاكم مدنية كانت أم جزائية سلطة إقامة الدعوى الجزائية على المتهم  في الحال، بل أجاز لها التحقيق والحكم فيها، بمعنى أن المحكمة في هذا النوع من الجرائم تجمع بيدها سلطة الحكم والاتهام، والغرض من ذلك هو الحفاظ على هيبة القضاء ومقتضيات توقيره في أثناء انعقاد جلساته إضافة إلى أن مثل هذه الجرائم قد ترتكب في مجلس القضاء وفي حالة تلبس الأمر الذي قد يجعل رئيس الجلسة هو الأقدر من غيره على إثبات هذه الجريمة والفصل فيها.

ولكن حتى تكون جريمة التعدي من جرائم الجلسات ولإعمال المحاكم سلطتها في تحريك الدعوى الجزائية والفصل فيها، اشترط المشرع عدة شروط يجب توافرها: 

الشرط الأول: أن تكون الجريمة من جرائم التعدي؛ لم يحدد المشرع المقصود بالتعدي، إلا أن هذا التعبير يشمل كل سلوك مادي أو قولي وبأي صورة كانت سواء أكان التعدي بالقول، أم الفعل، أم بالكتابة، فقد يتمثل هذا التعدي في صورة الضرب أو الايذاء البدني وقد يشمل السب والقذف والإهانة بالقول أو بالكتابة وقد يتمثل التعدي في عدم احترام أوامر المحكمة...الخ، فالتعدي تعبير واسع جدًا ينطوي على كثير من السلوكيات التي طوتها المادة (185) عقوبات[21]

الشرط الثاني: تحقق صفة المجني عليه بأن تقع جريمة التعدي على هيئة المحكمة أو أحد أعضائها أو أحد العاملين بها وعبارة هيئة المحكمة تتسع لتشمل جميع أعضاء المحكمة، ويستوى أن يكون عضو هيئة المحكمة عضوًا في قضاء الحكم أو قضاء التحقيق (عضو نيابة) أو أن تقع على أحد العاملين في المحكمة من الإداريين والكتبة، فإذا لم يكن المجني عليه أحد هؤلاء فلا تنهض الجريمة الموصوفة في المادة (١٧٦) مرافعات، وإن عدت جريمة أخرى من جرائم الجلسات، أما الجاني المعتدي فلم يتطلب المشرع صفة خاصة فيه، ومن ثم يجوز أن يكون الجاني أي شخص ولو كان أحد أعضاء المحكمة أو العاملين فيها، غير أنه إذا كان الجاني محاميًا فإنه يخضع لإجراءات خاصة محددة في قانون المحاماة . 

الشرط الثالث: أن تكون جريمة التعدي قد وقعت داخل قاعة المحكمة في أثناء انعقاد الجلسة وهو الوقت الذي يبدأ من لحظة افتتاح الجلسة إلى لحظة رفعها أي الوقت الذي تباشر فيه المحكمة إجراءات نظر الدعوى فعلًا؛ فإذا لم يتحقق ذلك الشرط فلا يجوز للقضاء الجزائي أو المدني في هذه الحالة إقامة الدعوى والحكم فيها فورًا. 

أوجه الاختلاف بين سلطة القضاء الجزائي وسلطة القضاء المدني في جريمة التعدي وإهانة القضاء التي تقع في أثناء الجلسة:   

غني عن البيان أن سلطة التصدي لجرائم التعدي على هيئة المحكمة أو أحد أعضائها أو أحد العاملين بها في أثناء انعقاد الجلسة تتقرر لكل المحاكم؛ لأنَها ممكن تحدث في أي دعوى في أثناء انعقاد الجلسة فيستوي إن كانت المحكمة التي تنظر الدعوى مدنية أو جزائية، وحتى لو كانت الجريمة داخلة في اختصاص محكمة خاصة «كمحكمة الأحداث» أو محكمة أعلى درجة كالمحكمة العليا، استناداً إلى أن الاختصاص الاستثنائي يجب قواعد الاختصاص العادية ، ومن ثم يمكن لأي محكمة أن تقيم الدعوى الجزائية عن جريمة التعدي والحكم فيها. 

ولا يتقيد حق المحكمة أيًا كانت في تحريك دعوى جريمة التعدي والحكم فيها بأي قيد من القيود التي فرضها المشرع على سلطة النيابة العامة في تحريك الدعوى الجزائية؛ فلو كانت الجريمة التي وقعت بالجلسة قد علق القانون إقامة دعوى الجزائية فيها على تقديم  شكوى، أو إذن، أو طلب فلا تتقيد المحكمة بهذا ويمكنها رفع الدعوى دون الحصول على الشكوى، أو الإذن، أو الطلب؛ لأنَّ الجرائم في هذه الصورة لا تكون قاصرة على المجني عليه وحده بل إنها تعد واقعة أيضًا على هيبة المحكمة ونظامها[22].

ولكن ولما كانت الدعوى الجزائية تخرج عن ولاية المحاكم المدنية فإن المشرع- وخلافًا للسلطات الواسعة التي أعطاها للمحاكم الجزائية في التصدي لجريمة التعدي- منح  المحاكم المدنية سلطات أضيق نطاقًا إزاء هذه الجريمة وقرر لها نظاماً إجرائياً مختلفاً عن الإجراءات المقررة للمحاكم الجزائية، وهو أمر له ما يبرره بطبيعة الحال؛ إذ إنّ المحاكم الجزائية لها في هيبتها والأحكام التي تصدر عنها ما يشعر الفرد بخطورة ما قد يرتكب من الجرائم في جلساتها بينما قد لا يتوافر مثل هذا الجو للمحاكم المدنية، إضافة إلى ذلك الدعاوى الجزائية أصلًا من اختصاص المحاكم الجزائية، أما المحاكم المدنية والتجارية فنظرها للدعوى الجزائية يكون بشكل استثنائي.

وأوجه الاختلاف بين سلطة كل منهما تجدها متمثلة أكثر فيما يأتي: 

أولًا: لا يملك القضاء غير الجزائي الفصل في واقعة التعدي إلا في الجلسة ذاتها، التي وقع فيها الاعتداء، فيجب أن يتم تحريك الدعوى الجزائية من قبل المحكمة والحكم فيها في الحال، أي في أثناء انعقاد الجلسة وقبل رفعها،  وهي بذلك تتحول بالضرورة– مؤقتًا- إلى محكمة جزائية، فإن لم تفعل وأجلت الحكم إلى جلسة أخرى تكون بذلك قد فقدت اختصاصها وخضعت دعوى التعدي للإجراءات وفقًا للقواعد العامة. 

في حين أن للقضاء الجزائي أن يحاكم المعتدي في الجلسة ذاتها أو يؤجل ذلك إلى جلسة أخرى  بشرط أن يكون قد قام بتحريك الدعوى الجزائية في الجلسة ذاتها التي وقعت فيها جريمة التعدي؛ لأنه مختص أصلًا بهذا النوع من الجرائم. إلا أنه بما أن الجريمة مشهودة والأدلة ظاهرة وأن هيبة المحكمة واحترامها يتطلب سرعة البت في القضية فإنه من المناسب أن تحكم المحكمة في التعدي فورًا[23]. مع الإشارة إلى أن المحكمة الجزائية في هذه الحالة تطبق السلطة الجوازية المقررة لها– وفقًا لنص المادة (35) إجراءات جزائية، وهي تلك الجرائم التي تحدث خارج الجلسات مثل التعدي على المحكمة بواسطة الأقوال أو عن طريق النشر في الصحف أو في مظاهرات أو اجتماعات جماهيرية خارج المحكمة[24]

ثانيًا: إذا وقعت جريمة التعدي في جلسة المحكمة الجزائية فمن الضروري أن تسمع المحكمة أقوال النيابة العامة لأنها متواجدة أصلًا في الجلسة، فالمعروف أن المحاكم الجزائية– وفقًا للقواعد العامة– يتطلب في تكوينها تواجد عضو النيابة العامة، ولذا عند محاكمتها المتهم فإنه يتعين عليها أن تسمع أقوال النيابة العامة ودفاع المتهم، وإن كانت طلبات النيابة العامة – طبقًا للقاعدة العامة- لا تقيد المحكمة بل عليها أن تفصل في التهمة حتى لو امتنعت النيابة عن إبداء طلباتها وتستطيع المحكمة أن تستمع إلى شهود إن رأت موجبًا لذلك، ويجوز لها أن تقضي بالبراءة. 

في حين أن هذا الأصل غير موجود في المحاكم غير الجزائية؛ ولذا لا يشترط لصحة الأحكام التي يصدرها القضاء غير الجزائي في هذه الجرائم سماع أقوال النيابة العامة؛ إذ قد لا يتيسر حضور أعضاء النيابة الجلسة التي وقعت فيها الجريمة، ولكن إذا كانت متواجدة في الجلسة فإنه لا يوجد ما يمنع من سماع أقوالها، غير أنه يتعين عليها سماع أقوال المتهم قبل الحكم عليه بوصف ذلك من القواعد الإجرائية الجوهرية التي لا يجوز الخروج عليها[25]، وفي هذا الشأن قضت محكمة النقض المصرية بأنه «لا وجوب لسماع أقوال النيابة فيما يجرى من المحاكمات على ما يقع في الجلسات المدنية من التشويش وجنح الاعتداء على هيئة المحكمة أو أحد أعضائها، أما ما يجري من تلك المحاكمات أمام المحاكم الجنائية فسماع أقوال النيابة فيها واجب»[26].

ثالثًا: أن الأحكام التي تصدر عن القضاء غير الجزائي إعمالًا للسلطة المخولة له في جرائم الجلسات تكون مشمولة بالنفاذ المعجل حتى لو طُعن فيه بالاستئناف وذلك وفقًا لما أشارت إليه المادة (١٧٨) مرافعات بالنص على أن: «...الحكم الذي يصدر في جريمة التعدي أو شهادة الزور يكون واجب التنفيذ ولو مع استئنافه». 

بينما لا تكون الأحكام الصادرة عن القضاء الجزائي مشمولة بالنفاذ المعجل، وهذا الفارق يثير التساؤل بما يكشف عنه من قوة للحكم الصادر عن القضاء غير الجزائي بينما لا يتمتع بهذه القوة ذات الحكم الصادر عن القضاء الجزائي. 

الغصن الثاني: 
سلطة المحاكم بالنسبة لجريمة شهادة الزور

شهادة الزور تختلف عن غيرها من جرائم الجلسات وقد نص المشرع اليمني صراحة على عدّ شهادة الزور من جرائم الجلسات وخول جميع المحاكم سلطة التصدي لجريمة شهادة الزور، غير أنه فرق بين سلطة المحاكم المدنية والجزائية، وسوف أنتقل لبعض التفصيلات. 

أولًا: المحاكم الجزائية:

السند القانوني لسلطة المحاكم الجزائية إزاء هذه النوعية من جرائم الجلسات مشار إليه في المادة (357) إجراءات جزائية بالقول: إنه «إذا تبين للمحكمة أن أحد الشهود أو الخبراء أو المترجمين كاذب فللمحكمة أن تحيله للنيابة العامة للتحقيق معه من تلقاء نفسها أو بناء على طلب النيابة العامة». 

والواضح من هذا النص أن المشرع نظم أحكاماً خاصة لشهادة الزور أمام القضاء الجزائي وتتخذ تلك السلطة  صورتين:   

الصورة الأولى: عندما يتبين للمحكمة بنفسها كذب الشاهد أو الخبير أو المترجم من خلال الوقائع المعروضة أمامها في الجلسة، أو من خلال ادعاء النيابة العامة بأن الشاهد أو الخبير أو المترجم كاذب، أو قد تتبين ذلك من خلال دفع المتهم بكذب شاهد الإثبات أو دفع المدعي الشخصي أو النيابة بأن شاهد النفي كاذب.

هنا خول المشرع اليمني القضاء الجزائي على اختلاف أنواعه ودرجاته في حالة تبين للمحكمة كذب الشاهد من خلال الوقائع أو الادعاء عليه باقتراف جريمة الشهادة الزور في الجلسة سلطة تحريك الدعوى الجزائية وإحالتها إلى النيابة العامة للتحقيق فيها والتصرف طبقًا للقانون سواء أكانت الإحالة من تلقاء نفسها أم بناء على طلب النيابة العامة.

الصورة الثانية:  رجوع الشاهد عن الشهادة التي سبق له وأن أدلى بها أمام القضاء ويتم الرجوع عن الشهادة بطريقتين: الأولى: قول الشاهد: رجعت عن شهادتي، الثانية: أن يكذب الشاهد نفسه بالقول الصريح أن الشهادة التي شهد بها إنما كانت محض كذب، وأيًا كان الرجوع عن الشهادة فقد رتب المشرع اليمني على ذلك الرجوع آثارًا على الدعوى المنظورة أمام المحكمة المتعلقة بها الشهادة، وعلى مسؤولية الشاهد ولكن يختلف الأمر في أن يتم الرجوع قبل الحكم أو بعده[27]

1-  الرجوع قبل الحكم: هنا لا يحكم بشهادة الزور في الدعوى المنظورة أمام المحكمة الجزائية، ويكفي المحكمة التوقف عن الحكم بالشهادة ثبوت رجوعه أو كذبه ولو خارج المحكمة، وإذا خالف القاضي ذلك وحكم بالشهادة يكون الحكم بعد الرجوع باطلًا، ويحاكم القاضي إذا كان الرجوع في مجلسه، أما بالنسبة لمحاكمة الشاهد وتوقيع العقوبة عليه: فالقاضي في هذه الحالة إعفاء الشاهد عن عقوبة شهادة الزور، أو محاكمته والحكم عليه بالعقوبة، وهذا ما أشارت إليه المادة (179) عقوبات بالقول:«... ويجوز للقاضي إعفاء الشاهد من العقوبة إذا عدل من شهادته وأدلى بالحقيقة قبل صدور الحكم في موضوع الدعوى». 

2-  الرجوع بعد الحكم بتلك الشهادة: هنا لا بد أن يكون الرجوع أمام المحكمة التي سمعت الشهادة: ويجوز للمتضرر من الشهادة أن يطلب إعادة النظر في الحكم، أما بالنسبة لمحاكمة الشاهد وتوقيع العقوبة عليه-   فيجب على المحكمة محاكمة الشاهد والحكم عليه، لأنًّ الجريمة في هذه الحالة مشهودة ومبنية على اعتراف المتهم، فتستطيع الحكم عليه بالعقوبة المناسبة وفقًا للمادة (179) عقوبات التي وضحت هذه المسألة بالنص على أن: «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بالغرامة الشاهد الذي يدلي بعد حلف اليمين أمام المحكمة بأقوال غير صحيحة أو يكتم كل أو بعض ما يعلم من وقائع الدعوى الجزائية التي يؤدي عنها الشهادة وإذا ترتب على الشهادة الحكم على متهم بعقوبة أشد تكون عقوبة الشاهد هي العقوبة المقررة للجريمة التي حكم على المتهم فيها ولو لم ينفذ الحكم ... إذا ترتب على شهادة الزور الحكم على متهم بعقوبة الإعدام أو الرجم أو القطع تكون عقوبة الشاهد الزور الحبس مدة لا تزيد على سبع سنوات إذا  لم ينفذ الحكم، أما إذا نفذ الحكم وفي جميع الأحوال لا تلتزم المحكمة بتحريك الدعوى الجزائية عن جريمة شهادة الزور التي ارتكبت في أثناء انعقاد الجلسة وداخل قاعة المحاكمة وإحالتها للنيابة العامة؛ إذ الأمر جوازي لها، وهي تقدر ملاءمته، فلها من تلقاء نفسها إحالة الدعوى الجزائية، وإحالة المتهم إلى النيابة العامة للتحقيق والتصرف وفقًا للقواعد العامة من حيث الاختصاص والإجراءات، ولها- أيضاً- أن تقرر عدم الإحالة، وتركها، وفي هذا الشأن قررت محكمة النقض المصرية أن« جريمة شهادة الزور هي من الجرائم التي تقع في الجلسة والتي يجب الحكم فيها في الجلسة ذاتها فمن حق المحكمة الحكم فيها من تلقاء نفسها ولو لم ترفع الدعوى بها من النيابة العمومية»[28].

غير أن ذلك لا يعني سلب النيابة العامة سلطتها في تحريك الدعوى الجزائية؛ كونها صاحبة الاختصاص الأصيل باستعمال الدعوى الجزائية؛ فإذا لم تحرك المحكمة الدعوى ولم تحل المتهم إلى النيابة يكون من حق النيابة العامة تحريك الدعوى وتحقيقها، وبعد الانتهاء من التحقيق لها أن تتصرف بالدعوى إما بإصدار قرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية أو بالإحالة الى المحكمة المختصة لمحاكمة المتهم بالشهادة الزور، ومن ثم يتعين على المحكمة الفصل في الدعوى حتى إن كان قد سبق لها أن قررت عدم تحريك الدعوى وإحالتها إلى النيابة العامة لتحقيقها. 

كما لا يشترط المشرع في هذه الحالة أن ترجئ المحكمة الدعوى الأصلية فإذا قررت المحكمة إقامة الدعوى على المتهم وإحالته إلى النيابة العامة من تلقاء نفسها أو بناء على طلب النيابة العامة وكانت الشهادة مؤثرة فللمحكمة من تلقاء نفسها أو بناء على طلب المدعي بالحق الشخصي أو المتهم أن ترجئ الفصل في الدعوى محل الشهادة الزور أي الدعوى الأصلية حتى يتم الفصل في دعوى الشهادة الزور والحكم بصحة الشهادة من عدمه وهذا ما أشارت إليه المادة ( 358) إجراءات جزائية بالقول: «عند الادعاء على أحد الشهود بالشهادة الكاذبة، للنيابة العامة وللمدعي بالحق الشخصي وللمتهم إذا كانت الشهادة مؤثرة في الدعوى أن يطلبوا إرجاء النظر إلى أن يحكم في صحة الشهادة أو كذبها وللمحكمة أن تقرر ذلك من تلقاء نفسها». 

ولكن لكون شهادة الزور في الدعاوى الجزائية تختلف عن شهادة الزور في الدعاوى المدنية من حيث الأثر، فإذا كان الأثر في الدعاوى المدنية يؤدي إلى أخذ أموال الناس بالباطل ويقتصر على هذا الحد، فإن الشهادة الزور في الدعاوي الجزائية تؤدي إلى تبرئة مجرم يستحق العقاب أو إدانة بريء فيتم إعدامه ظلمًا أو سجنه وسلب حريته. 

والمعنى أن إرجاء الفصل في الدعوى الأصلية- وإن كان جوازيًا للمحكمة ضروري إذا كانت الشهادة مؤثرة نظرًا لما قد يترتب على تلك الشهادة من آثار خطيرة خاصة في القضايا الجزائية، فقد يترتب على الحكم بصحتها إدانة المتهم إذا كانت شهادة إثبات وعلى كذبها براءة المتهم وإن كانت شهادة نفي وحكم بكذبها فإنه سيترتب على ذلك عدم إفلات المجرم من العقاب وإن كانت صحيحة سيترتب عليها براءة متهم هو في الأصل بريء وليس من مصلحة المجتمع إدانة بريء. 

ثانيًا: المحاكم المدنية:

السند القانوني لعد هذه النوعية من جرائم الجلسات، وسلطة المحاكم المدنية والتجارية إزاءها مشار إليه في   المادة (١٧٦) مرافعات بالقول « إذا وقع تِّعد على هيئة المحكمة أو أ حد أعضائها أو أحد العاملين بها في أثناء انعقاد الجلسة حاكمت المحكمة المعتدي وحكمت عليه في الحال بالعقوبة المقررة قانونًا، ولها أن تحاكم شاهد الزور وتحكم عليه بالعقوبة المقررة قانونًا».

الواضح أن المشرع نص صراحة على عدّ شهادة الزور من جرائم الجلسات ولكنه فرق بين سلطة المحكمة المدنية في التصدي لجريمة شهادة الزور عن سلطتها بالنسبة لجريمة التعدي؛ فحين تكون سلطة التصدي وجوبية في جريمة التعدي وفورية، وهذا ما يفهم من عبارة النص «...حاكمت المحكمة المعتدي وحكمت عليه في الحال...». 

نجد سلطتها في التصدي لجريمة شهادة الزور جوازية فللمحكمة أن تحاكم شاهد الزور ولها أن لا تحاكمه،  وهذا ما يفهم من العبارة  التي ختم بها المشرع  نص المادة بالقول: «... ولها أن تحاكم شاهد الزور...».

والحكمة من الاختلاف في سلطة المحكمة بين الجريمتين تكمن في أن جريمة التعدي تكون بأفعال مادية ظاهرة ومشهودة، أما جريمة شهادة الزور فتحتاج إلى تحقيق بشأنها حتى يتم إثباتها، فإذا كانت من الوضوح ما يظهر بما لا يدع مجالًا للشك في زور هذه الشهادة ومخالفتها للحقيقة، فلا يوجد ما يمنع المحكمة من محاكمة الشاهد والحكم عليه بالعقوبة المقررة في المادة (179) عقوبات.

وهذا ما وضحه المشرع اليمني في المادة بأنه «... ولها أن تحاكم شاهد الزور وتحكم عليه بالعقوبة المقررة قانونًا»، بمعنى أن المشرع قد افترض– بداية– أن الشخص شاهد زور، بمعنى أدق لا تتمتع المحاكم بسلطة تحريك الدعوى الجزائية والحكم فيها إلا إذا تأكدت من ثبوت شهادة الزور؛ أما إذا رأت أن حكمها سيبنى على غير اليقين بثبوت شهادة الزور فالأولى أن لا تحكم في القضية إلا بعد تحقيقها، وهذه السلطة تثبت لكل المحاكم، غير أن المحاكم المدنية لا يكون لها السلطة في محاكمة شاهد الزور، إلا إذا اقتنعت بذلك في الجلسة ذاتها، أما إذا تطلب الأمر التأجيل لتحقيق الواقعة، فإن الاختصاص لا يكون إلا للمحكمة الجزائية، بمعنى أنه للمحكمة المدنية أن تحكم على شاهد الزور بالعقوبة المقررة للجريمة أو لا تحكم عليه شأنها في ذلك شأن المحاكم الجزائية إذا كان ثبوت الشهادة الكاذبة قبل الحكم– حسبما سنرى فيما يأتي، أما إذا كان الحكم بالشهادة الكاذبة بعد صدور الحكم فيجب عليها أن تحكم عليه بالعقوبة، والتقرير بشهادة الزور يتم بأحد أمرين[29]:

الأمر الأول: الحكم القضائي، أي عندما تفصل المحكمة في دعوى شهادة الزور المقدمة من النيابة العامة أو المدعي بالحق الشخصي أو المتهم أمام المحاكم الجزائية، أو عندما يتبين للمحكمة كذب الشاهد، أو عندما تقدم الدعوى إلى المحكمة من قبل أطراف الخصومة في الدعوى المدنية، ففي هذه الحالة لا تختص بتقرير الشهادة الكاذبة والحكم فيها إلا المحكمة الجزائية؛ فإذا أثير موضوع الشهادة الزور أمام المحكمة المدنية،  فعليها إحالة القضية للنيابة العامة لتحقيقها.

 والأمر الثاني: الرجوع في الشهادة، بمعنى أن الأصل أنه يجوز الرجوع عن الشهادة، ولكن لا يصح الرجوع عن الرجوع وهذا ما جاء في المادة (51) إثبات بالقول: «لا يصح الرجوع عن الرجوع في الشهادة» ويتم الرجوع بطريقتين: الأول: قول الشاهد رجعت عن شهادتي، والثانية: أن يكذب الشاهد نفسه بالقول الصريح أن الشهادة التي شهد بها أنما كانت محض كذب، وقد بين المشرع في المادة (52) من قانون الإثبات رقم (5) لسنة 1996م، حكم الرجوع في حالتين: 

الحالة الأولى: الرجوع قبل الحكم بالشهادة، هنا يكتفي القاضي بالتوقف عن الحكم بشهادة ثبت عدم صحتها برجوع من صدرت عنه ويكون الحكم بها بعد الرجوع باطلًا، ويحاكم القاضي إذا كان الرجوع في مجلسه وللمحكمة في هذه الحالة إعفاء الشاهد عن عقوبة شهادة الزور، أو محاكمته والحكم عليه بالعقوبة، المادة (179) عقوبات؛ إذ إن الأمر جوازي وهي تقدر ملاءمته.   

الحالة الثانية: الرجوع بعد الحكم بتلك الشهادة هنا لا بد أن يكون الرجوع أمام المحكمة التي سمعت الشهادة: ويجوز للمتضرر من الشهادة أن يطلب إعادة النظر في الحكم، ويجب على المحكمة أن تقيم الدعوى الجزائية والحكم فيها فورًا أو إحالة الدعوى الجزائية للنيابة العامة. 

وإذا ألغى القاضي الحكم ضمن الشاهد ما نفذ وتعذر إرجاعه ويعاقب بعقوبة شاهد الزور والمحكمة المدنية التي تختص بمحاكمة شاهد الزور قد تكون المحكمة الابتدائية أو محكمة الاستئناف أو المحكمة العليا.

وقد نصت عليه المادة (305) مرافعات على أنه: إذا تحققت بعد صدور الحكم حالة من الحالات المحددة في المادة (٣٠٤) فللخصم أن يلتمس من المحكمة التي أصدرت الحكم إعادة النظر فيه وذلك على التفصيل الآتي:

1- إذا صار الحكم الابتدائي واجب النفاذ بفوات مدة الطعن فيه فيتم الالتماس إلى المحكمة الابتدائية.

2- إذا صار الحكم الاستئنافي واجب النفاذ بفوات مدة الطعن بالنقض فيتم الالتماس إلى محكمة الاستئناف. 

3-  إذا صار الحكم باتًا لصدوره عن المحكمة العليا فيقدم الالتماس إليها لتفصل فيه من حيث الشكل فإذا رأت قبوله أحالته إلى المحكمة التي أصدرت الحكم، أما إذا كانت المحكمة العليا قد خاضت في موضوع الحكم محل الالتماس فعليها الفصل في الالتماس شكلًا وموضوعًا.

بمعنى أن المحكمة التي سوف تنظر طلب إعادة النظر هي التي سوف تحكم على شاهد الزور بالعقوبة الجزائية، غير أنه يشترط لذلك أن يتم إلغاء الحكم الذي بني على شهادة الزور، فإذا لم يتم الغاؤه، سواء لعدم طلب المشهود عليه إعادة النظر في الحكم أو لأنَّ الحكم لم يلغ لوجود أدلة أخرى مؤيدة للحكم غير الشهادة، ففي هذه الحالة يجوز للمحكمة أن تعاقب شاهد الزور أو لا تعاقبه، وفي الحالة الثانية تحيله إلى النيابة العامة للتحقيق معه في جريمة شهادة الزور، ثم إحالته بعد ذلك إلى المحكمة الجزائية. 

الفرع الثاني 
الجرائم التي تقع في الجلسة أو في مبنى المحكمة

نصت المادة (177) مرافعات بأنه «إذا وقعت في الجلسة أو في مبنى المحكمة أو ساحاتها جريمة غير ما ذكر في المادة السابقة أمرت المحكمة بتحرير محضر ضبط لها يكون حجة بما جاء فيه واتخذت الإجراءات التحفَّظية بما فيها القبض على المتهم وحبسة احتياطيًا ثم تحيل الواقعة إلى النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية فيها أو تأمر جهات الضبط القضائي بالقيام بما يلزم من الإجراءات لإحالتها إلى النيابة العامة». 

الواضح من نص المادة أن هذه الصورة من جرائم الجلسات تتمثل في كل إخلال يشكل جريمة سواء أكانت جريمة جسيمة، أم جريمة غير جسيمة، وتشمل نوعين:

النوع الأول: سائر أنواع الجرائم التي تقع في قاعة المحكمة في أثناء الجلسة غير التعدي على هيئة الحكم أو أحد أعضائها أو أحد العاملين فيها، ولا تعد من جرائم الشهادة الزور تمزيق مستندات أحد الخصوم أو تهديده أو أن تقع جريمة قتل أو ضرب أو جرح أو جريمة سرقة بين الجمهور الحاضرين، ويستوى بعد ذلك أن تكون الجرائم جسيمة أو غير جسيمة. 

النوع الثاني: سائر أنواع الجرائم التي تقع خارج قاعة المحاكمة في مبنى المحكمة أو ساحاتها، بما فيها الاعتداء على هيئة المحكمة، أو أحد أعضائها أو أحد الموظفين بالمحكمة، أو على الجمهور الحاضرين إذ لا يشترط في هذه الجريمة صفة المجني عليه أو الجاني فيستوي أن تقع منه أو على أحد القضاة أو هيئة المحكمة أو أعضائها أو أحد العاملين بها، أو على أحد الشهود أو أحد الخصوم أو أحد الحاضرين في الجلسة. 

وإذا خلصنا مما تقدم توضيحه أن للمحاكم حق تحريك الدعوى الجزائية عن الجرائم التي وقعت في أثناء انعقادها فإن ذلك لا يعني أن تكون هذه الجرائم قد وقعت في القاعة المخصصة للمحاكمة فقط، وإنما تعد الجريمة قد وقعت في أثناء انعقاد المحاكمة حتى لو وقعت خارج مكان جلسة المحاكمة في مبنى المحكمة أو ساحاتها.

وقد رسم المشرع اليمني للقضاء إجراءات ينبغي اتباعها منها: 

4-  يأمر رئيس المحكمة كاتب المحكمة، بكتابة محضر ضبط بالواقعة التي حدثت في أثناء انعقاد جلسات المحاكمة وأن يدون في ذلك المحضر الكيفية ويتخذ ما يراه مناسبًا من إجراءات التحقيق وله أيضًا الأمر باتخاذ بعض «الإجراءات التحفظية» كالقبض على المتهم وحبسه احتياطيًا إذا رأت ضرورة صيانة التحقيق وسلامته تفتضى ذلك حتى يتم تسليمه للنيابة العامة والتحفظ على أداة الجريمة وأدلتها، ويكون هذا المحضر حجة بما يحتويه، وهذا يمثل خروجًا على القواعد العامة التي تقرر حجية نسبية للمحاضر الرسمية، بحيث يجوز إثبات عكس ما جاء فيها أو الطعن بتزويرها. 

5- إذا تبين لرئيس المحكمة أن محضر الضبط قد أصبح كاملًا، يُصْدِرُ أمراً بإحالة المحضر مع المتهم إلى النيابة العامة المختصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة وفقًا للقواعد العامة، وللنيابة العامة بعد ذلك مطلق الحرية في تقدير الواقعة المحالة إليه والتصرف في الدعوى على ضوء التحقيق الذي يجريه، فقد يصدر قرار بأن لأوجه لإقامة الدعوى، أو قد يصدر قرار إحالة المتهم إلى محكمة الموضوع المختصة، وإذا أحيلت الدعوى على المحكمة فلا يجوز أن يشترك في نظرها والحكم فيها أحد أعضاء جلسة المحكمة التي حركت الدعوى الجزائية؛ وذلك لقيامها بوظيفة النيابة في هذه الجريمة فضلًا عن أنهم لديهم معلومات شخصية عن الجريمة قد تدعو إلى سماعهم كشهود على الواقعة وثمة تعارض بين صفتي الشاهد والقاضي. 

6-  إذا رأت المحكمة أن محضر الضبط لم يستوفَ وأنه يحتاج إلى استكمال، فإن لها سلطة أن تأمر جهات الضبط القضائي- بما فيهم النيابة العامة- القيام بما يلزم من الإجراءات، لإحالة الدعوى إلى النيابة العامة. 

محصل القول: أن المشرع في هذا النوع من الجرائم قصر سلطات المحاكم على مجرد تحريك الدعوى الجزائية  وتنظيم محضرٍ بما حدث ومن ثم إحالة الجاني مع المحضر إلى النيابة العامة لإجراء اللازم قانونًا دون أن يكون للمحكمة- حق الحكم فيها سواء وقعت الجريمة داخل قاعة المحكمة في أثناء انعقاد الجلسة أو في مبنى المحكمة أو ساحاتها فالمحكمة أيا كانت درجتها ونوعها- لا تملك إلا أن تحرك الدعوى وهذا يرجع في الواقع إلى ما تتميز به هذه الجرائم  من خطورة تستوجب إجراء التحقيق الابتدائي فيها  قبل رفع الدعوى إلى القضاء.

المبحث الثالث  
جرائم الجلسات التي تقع من المحامي

يحتل المحامي في النظام القضائي الحديث مركزاً قانونياً مهماً، نظرًا لما يقوم به من دور في مساعدة القضاء في الوصول إلى الحقيقة؛ وذلك بمعاونته للقاضي في الفهم الصحيح لوقائع الدعوى، والتطبيق السليم للقانون؛ وهذا ما وضحه المشرع في المادة (121) من قانون السلطة القضائية بالقول: أن «أعوان القضاء هم المحامون..».

ومن أجل ذلك فإن شخصية المحامي مصونة، فلا يجوز إخضاعه في أثناء أدائه لمهام عمله لأي إجراء من إجراءات القبض، أو الاحتجاز، أو التوقيف، أو الاعتقال، أو إخراجه من قاعة المحاكمة أو الاعتداء عليه سواء أكان مصدر هذا الاعتداء هيئة الحكم في الجلسة أم الأفراد العاديين، أو موظفي المحكمة، وعلى المحاكم وسائر الجهات التي يحضر أمامها معاملته معاملة تليق بمقامه الوظيفي، بوصفه فرداً من أفراد العدالة، وتفادي أي تصرفات قد تمتهن كرامته، ولا تليق بحجم المهمة الملقاة على عاتقه كعون للقضاء. 

ولأهمية الدور الذي يقوم به المحامي فقد أفرد المشرع له قانوناً خاصاً ينظم مهنة المحاماة وذلك تنفيذًا للمادة (151) من الدستور اليمني النافذ 1991م، التي نصت على أن: «ينظم القانون مهنة المحاماة»، وبموجب ذلك تم صدور القانون رقم (31) لسنة 1999م، بشأن تنظيم المحاماة، وفيه قرر المشرع أحكامًا خاصة لجرائم المحامين في جلسات المحاكمة[30]

وبالرجوع إلى قانون الإجراءات الجزائية نجد أنّ المشرع اليمني لم يميز المحامي عن غيره من الأفراد العاديين في جرائم الجلسات من حيث الاختصاص الممنوح للمحكمة، إلا أن ما تضمنه قانون رقم (31) لسنة 1999م، بشأن تنظيم المحاماة قد فرق في التعامل مع المحامي المخلّ بنظام الجلسة أو الذي ارتكب جريمة في أثناء انعقادها مع غيره من المواطنين؛ فقد أعفى المشرع اليمني- وبنص صريح- ما قد يبدو من المحامي تحريرًا أو شفويًا من أقوال تكون جرائمًا في الأصل كجرائم السب، والقذف، والتحقير أثناء المرافعة عن حقوق موكله أمام المحاكم؛ وذلك حماية لحق الدفاع أمام القضاء الذي يتطلب إطلاق حرية الدفاع للمتقاضين بالقدر الذي تقتضيه مدافعتهم عن حقوقهم؛ وذلك ما أشارت إليه المادة (39) من قانون تنظيم المحاماة بالقول «لا يجوز توقيف المحامي احتياطيًا في أثناء ممارسته لواجبات مهنته، لما ينسب إليه من جرائم الذم، والقذف، والتحقير، ولما يصدر عنه من تشويشات مخلة بنظام الجلسات تستوجب المساءلة التأديبية،...». وما نصت عليه المادة (52) من القانون ذاته بالقول: « يحق للمحامي أن يسلك الطريق التي يراها مناسبة في الدفاع عن مؤكله ولا يكون مسؤولًا عما يورده في مرافعات خطية كانت أو شفهية مما يستلزم حق الدفاع وبما لا يخالف نصًا شرعيًا أو قانونيًا »، وما نصت عليه المادة (53) من القانون ذاته بالقول: «أ- لا يجوز توقيف المحامي احتياطيًا في أثناء ممارسته لواجبات مهنته، لما يصدر عنه من عمل أو أقوال مخلة بنظام الجلسات،...».

وهذا النهج الذي انتهجه المشرع اليمني بالمواد (39 و52 و 53) من قانون تنظيم المحاماة نراه في الفقرة السابعة من المادة (293) من قانون العقوبات رقم (12) لسنة 1994م، التي نصت بأن «لا تقبل دعوى السب في الأحوال الآتية: ... سابعًا: إذا صدرت الأقوال أو العبارات في أثناء إجراءات قضائية من شخص اشترك فيها بصفة قانونية كقاضٍ أو محامٍ أو شاهد أو طرف في الدعوى».

محصل القول: استثناء المحامي من الأحكام الخاصة بنظام الجلسات والجرائم التي تقع منه في أثناء انعقاد الجلسة، أو بسبب ذلك الواجب والمنصوص عليها في المواد (319) إجراءات جزائية، والمادة (١٧٤، 177,176، 178) مرافعات السابقتين.

ولكن ينبغي أن لا يفهم خطأ من هذا أنّ المحامي سوف يفلت من يد العدالة إذا أخل بنظام الجلسة أو ارتكب في أثناء انعقاد الجلسة جريمة قولية أو أي جريمة أخرى في أثناء ممارسته لواجبات مهنته؛ فالمشرع لم يستثن المحامي من واجباته بضرورة احترام القضاء وعدم التشويش في الجلسات لأنَّ ذلك إذا كان خطأ من قبل العامة فإنه إخلال بواجب أساسي مقرر على المحامي، فالواقع وآداب المهنة تقتضي عليه احترام نظام الجلسات أكثر من غيره من الأفراد العاديين، وهذا ما قضت به المادة (71) من قانون تنظيم المحاماة بالقول «على المحامي أن يتقيد في سلوكه الشخصي والمهني بالقيم الإسلامية ومبادئ الشرف والاستقامة والأمانة وحفظ السر والنزاهة وآداب المهنة سواء تجاه القضاء أو تجاه زملائه أو موكليه، وعليه أن يتجنب كل إجراء أو قول يحول دون سير العدالة وأن يتقيد بأحكام هذا القانون وأنظمة ولوائح النقابة». 

إضافةً إلى أن عمله هو مكافحة الجريمة ومعاونة القضاء ومن ثمَّ فإنه- لاشك– سيكون حريصًا على احترام كل القوانين سواء الخاصة بتنظيم الجلسات أم غيرها  دون أن يكون في التزامه بها– أمرًا كان أو نهيًا– أي إخلال بمكانته، فكيف يعمد إلى مخالفته، وفي ذلك  نصت المادة (73) من قانون تنظيم المحاماة بأن: «على المحامي أن يتخذ من سلوكه ومظهره ما يدل على احترامه الكامل لهيئة المحكمة وألاَّ يبدي ما من شأنه أن ينتقص من احترامها وهيبتها».

كما أن الحصانة الإجرائية التي تحمي المحامي، من أقواله وأفعاله، لم تقرر لمصلحته الشخصية أو إخلالًا لمبدأ المساواة أو لمجرد تميزه عن غيره  من الأفراد، وإنما تعد أمرًا ضروريًا لمباشرة مهام عمله دون عوائق، وفي جو من الهدوء والطمأنينة بعيدًا عن أي مؤثرات، في جلسة الحكم أو في أي جهة من جهات الدولة التي يحتاج للتعامل معها لمباشرة مهمته؛ لأنَّ المحامي لا يمكنه القيام بعمله على الوجه الأكمل، إذا كان مترددًا ولذلك اهتم المشرع بالمحامي وعمله، ورأى أن يحيطه بنوع من الحصانة الإجرائية– على سبيل الاستثناء– في أثناء أداء واجبه فوفر له الحماية التي تمكنه من أداء هذا الواجب في جو من الحرية وعدم التردد. 

ولذلك فإن الحصانة الإجرائية مقتصرة على ما يقع منه في الجلسة في أثناء الواجب أو بسببه، أما إذا كان ما وقع منه في الجلسة لم يكن في أثناء الواجب أو بسببه، جاز للمحكمة في هذه الحالة معاملته بما تقتضي به الأحكام العامة المطبقة قبل الأشخاص العاديين[31]. أيضًا إذا خرجت الأقوال التي يتلفظ بها المحامي وتشكل جريمة سب أو قذف عن القدر اللازم الذي تقتضيه طبيعة المدافعة، أصبحت جريمة من الجرائم القولية التي لا ينطبق عليها نص المواد (293)  عقوبات و(39/52/53) بشأن المحاماة .

كذلك إذا كان المشرع قد نص على حصانة المحامي في المادة (39) بشأن المحاماة بالقول «لا يجوز توقيف المحامي احتياطيًا في أثناء ممارسته لواجبات مهنته، لما ينسب إليه من جرائم الذم، والقذف، والتحقير، ولما يصدر عنه من تشويشات مخلة بنظام الجلسات تستوجب المساءلة التأديبية..» إلا أنه أكمل في المادة ذاتها    بالطريقة التي يمكن محاسبة المحامي «... يحرر في هذه الحالة رئيس المحكمة المختصة محضراً يرفع إلى النيابة العامة، وينسخ إلى مجلس النقابة، أو رئيس الفرع الذي يتبعه المحامي ». 

وإذا كان المشرع قد نص في الفقرة (أ) من المادة (53) من قانون المحاماة بتمتع المحامي بحصانة إجرائية تميزه عن غيره تتمثل بعدم جواز توقيفه، احتياطيًا في أثناء ممارسته لواجبات مهنته، لما يصدر عنه....» إلا أنه أكمل في الفقرة (أ)  ووضح ما على القاضي رئيس الجلسة القيام به في مثل هذه الحالة بالقول «... يحرر في هذه الحالة رئيس المحكمة المختصة محضراً يرفع إلى النيابة العامة، وينسخ إلى مجلس النقابة، أو رئيس الفرع الذي يتبعه المحامي». ونصت الفقرتان  (ب و جـ)  من ذات المادة بأن «ب- تقوم النيابة العامة بالتحقيق بعد تبليغ النقابة أو رئيس الفرع لإيفاد من يمثل النقابة أو الفرع لحضور التحقيق، جـ- لا يجوز أن يشترك القاضي أو قضاة المحكمة التي رفع فيها الحادث في نظر الدعوى التي تقام على المحامي بسبب ذلك».

وإذا كان المشرع قد أعطى لمكتب المحامي حرمة شخصية في المادة (55) فنص بأنه «لا يجوز التحقيق مع محامٍ أو تفتيش مكتبه» إلا أنه تابع النص بالقول: إلا بحضور أحد أعضاء النيابة العامة وعلى النيابة العامة اخطار النقيب أو رئيس الفرع قبل الشروع في التفتيش والتحقيق بوقت كافٍ».

ومؤدى هذه النصوص أن المحامي المخلّ بنظام الجلسة أو الذي ارتكب جريمة في أثناء انعقادها لا يفلت من المساءلة ولكن التعامل معه يختلف عن التعامل مع غيره من المواطنين، فإذا كان من وقع منه الإخلال في أثناء الجلسة أو الفعل الجرمي محاميًا مسجلاً في سجل نقابة المحامين كمزاول أو متدرب، وكان الإخلال في أثناء قيامه بواجبه في الجلسة، أو بسببه وكان الإخلال يقتضي معاقبته جزائيًا أو تأديبيًا، فلا تملك المحكمة سلطة إقامة الدعوى والحكم فيها وإنما يقتصر حق المحكمة التي وقع في جلستها الإخلال سواء أكانت هذه المحكمة مدنية أو جزائية، على مجرد الإحالة الى النيابة العامة لإجراء التحقيق؛ وذلك بأن يحرر رئيس المحكمة مذكرة (محضر ضبط) بالواقعة وإحالته إلى النيابة العامة لإجراء التحقيق معه وإخطار النقابة الفرعية المختصة بذلك. تقوم النيابة العامة بالتحقيق مع المحامي في وجود مندوب من النقابة، وتلتزم النيابة بالتحقيق، ولكنها تحتفظ بسلطتها التقديرية في التحقيق، فإذا انتهت من التحقيق فلها أن تقرر أن لا وجه لإقامة الدعوى أو رفع الدعوى الجزائية إلى القضاء، ولكن لا يتم  الرفع إلا بأمر النائب العام أو من ينوب عنه من المحامين الأول، أما إذا كان ما وقع من المحامي لا يعدوا أن يكون مجرد إخلال بالنظام أو الواجب المهني، الذي يستوجب مؤاخذته تأديبيًا فإنه يجب إحالة المحامي المخلّ إلى مجلس تأديب النقابة الفرعي[32] للنظر في المخالفة الصادرة عنه لإيقاع العقوبة التأديبية المناسبة بحقه في حدود اختصاصه، وإلا رفع موضوع المخالفة إلى مجلس التأديب الأعلى[33] مشفوعًا برأيه والمجلس الأعلى سيقوم بتوقيع العقوبة المناسبة عليه في حدود اختصاصه[34]

وفي كلتا الحالتين لا يجوز أن يشترك أحد أعضاء الهيئة التي وقع الاعتداء أمامها في نظر الدعوى الجزائية أو الدعوى التأديبية التي ترفع على المحامي بسبب ما وقع منه في الجلسة. 

محصل القول: أن جوهر الاستثناء الذي قرره يستشف المشرع في شأن جرائم الجلسة التي يرتكبها المحامي أنه لم يمنح المحكمة سلطة التحقيق أو الحكم فيها، وإنما حصر سلطة المحاكم عامة التي وقع في جلستها الإخلال من محامٍ على  مجرد الإحالة إلى النيابة العامة لإجراء التحقيق، وإرسال نسخة من المحضر إلى رئيس فرع النقابة الذي يتبعه المحامي، لإيقاع العقوبة التأديبية بحقه إذا كان الإخلال يستدعي مؤاخذته تأديبيًا، أو المشاركة بمتابعة النيابة إذا كانت الواقعة تشكل جريمة. 

 

الخاتمـــــة

ضبط الجلسة وإدارتها من أجل الحرص على كرامة المواطنين، وهيبة المحكمة من قبل جميع الأطراف المشتركين في القضية. فأحيانًا قد تحدث أفعال تخل بنظام الجلسة، مجرد صياح، أو ألفاظ اعتراضية، أو تصرفات لا تتلاءم مع جو الهدوء والحياد الذي ينبغي أن يسود الجلسة، كما  قد تحدث في أثناء انعقاد الجلسة جرائم ينبغي على المحاكم التصدي لها، ومن أجل ذلك خرج المشرع على المبادئ الأساسية في الإجراءات الجزائية، ومنح المحاكم سلطة تحريك الدعوى الجنائية بمجرد وقوعها بل منحها محاكمة المتهم والحكم عليه بالعقوبة المقررة قانونًا وهذا الخروج إن كان يخالف القواعد الأصلية للمحاكمات إن المصلحة العامة تقتضي إعماله ولذا فإن من أهم النتائج: 

أولًا: أن المشرع اليمني استثنى جرائم الجلسات من عدة مبادئ؛ وذلك لتحقيق هيبة القضاء وإعطائه الاحترام الواجب منها: 

1-    قاعدة «الاختصاص» والتي تعني أنّ المحكمة لا تكون مختصة بنظر الدعوى المرفوعة إليها إلا إذا كانت مختصة بالنسبة للشخص وبالنسبة لنوع الجريمة المنسوبة إلى المتهم ومن حيث المكان، وتلك القواعد يتوقف العمل بها في جرائم الجلسات، فلا تتقيد المحكمة بالاختصاص النوعي أو الشخصي والمكاني عندما تتخذ الاجراءات القانونية تجاه هذه الجرائم، إذ يكون حق المحاكم  في نظر الجريمة ليس مؤسسًا على القواعد العامة للاختصاص، وإنّما هو مؤسس على أن جريمة الجلسة من جرائم التلبس لوقوعها أمام هيئة القضاء.

2-    قاعدة «منع القضاة من نظر الدعوى وردهم»: ضمانًا لحياد القاضي وصيانة مكانته وعلو كلمته في أعين الناس قرر المشرع اليمني المادة (270) إجراءات جزائية، جملة من الأسباب التي تجعل القاضي غير صالح للنظر في  الدعوى، ومن أهمها: يمتنع على إذا كانت الجريمة قد وقعت عليه شخصيًا، إذ لا يجوز أن يكون الشخص خصمًا وحكمًا في آن واحد، أو إذا كان قد قام في الدعوى بعمل مأمور الضبط القضائي أو بوظيفة النيابة العامة أو أدلى فيها بشهادة، ولكن المشرع تجاوز هذا المانع  في جرائم الجلسات وأعطى الحق للمحكمة سلطة الفصل في الدعوى، على الرغم من أنّ القاضي قد يكون هو المجني عليه، وكذلك الحال في القاضي الذي سبق أن أدى الشهادة في الدعوى إذ تعدّ هذه الحالة من أسباب امتناع القاضي عن نظر الدعوى؛ لأنّ صفة الشاهد تتعارض مع صفة القاضي فلا يجوز أن يركن القاضي إلى أقوال نفسه التي سبق أن أداها في التحقيق أو في الدعوى؛ لأنه في هذه الحالة سوف يحكم بناءً على معلوماته الشخصية، ولكن المشرع في جرائم الجلسات خرج عن هذا الأصل وأعطى الحق للمحاكم في رفع الدعوى  والحكم فيها رغم أن القاضي في أغلبها قد يكون في موقف الشاهد في هذه الجرائم لوقوعها تحت سمعه وبصره، وتتوافر بشأنها المعلومات الشخصية وهو ما يجعله في مركز يسمح له بأداء الشهادة فيها. 

3-  قاعدة: «الفصل بين سلطتي الاتهام  والمحاكمة» والتي تعني الفصل بين جهات تحريك الدعوى أو مباشرتها وجهات التحقيق والمحاكمة، وهي من أهم ضمانات الأفراد في تحقيق العدالة، ولكن المشرع في جرائم الجلسات  خول المحكمة سلطة تحريك الدعوى الجزائية، بل تجاوز ذلك إلى سلطة الحكم- أيضًا- في بعض الأحيان، وهذا يعد خروجاً على المبادئ الأساسية في الإجراءات الجزائية، والتي تقضي عدم الجمع في يد واحدة بين سلطتي الاتهام والمحاكمة، وهو تطبيق لما يعرف «بنظام الاتهام» والذي كان سائدًا وقت ما ثم هجرته التشريعات الجنائية تقريبًا إلا فيما يتعلق بجرائم الجلسات، والسبب عيوبه التي من أهمها أنّه يجمع في أيدي القاضي سلطتين من المفروض أن تظلا منفصلتين وأن لا تباشرهما ذات السلطة، وهما سلطة الاتهام  والقضاء، فلا يمكن أن يكون القاضي خصمًا وحكمًا في الوقت ذاته، وإلا فلن تتحقق العدالة المتوخاة في القضاء. 

ثانيًا: لم يعط هذا الحق الاستثنائي إلى جميع محاکم الدولة أو جهات التقاضي، بل توسع في هذا الحق مع المحاکم الجزائية، وحدده بشکل أضيق أمام المحاکم المدنية.

ثالثًا: استثنى المشرع اليمني المحامين من أحكام جرائم الجلسات إذا وقعت منهم، فلم يعاملهم معاملة العامة التي تقع منهم جرائم الجلسات وإنما خصص لهم نظاماً قانونياً آخر ممثلاً في قانون تنظيم المحاماة  رقم (31) لسنة 1999م.

الحمد لله رب العالمين

 


 

[1]    الدكتور/ حسن صادق المرصفاوي: أصول الإجراءات الجنائية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1972م، ص 155. 

 

[2]    تنص المادة (160) من قانون الإثبات بأنه «للمحكمة أو من تنتدبه من قضاتها أو من قضاة المحاكم الأخرى أن تجري معاينة بأن تنظر في الأشياء التي تفيد في إثبات الدعوى، وتطلع عليها وتفحصها لكي تصل إلى الحقيقة في شانها.. ». 

 

[3]    نصت المادة (64) من قانون الإثبات بأنه «إذا كان للشاهد عذر يمنعه من الحضور جاز أن ينتقل إليه القاضي لسماع أقواله ويدعى الخصوم لسماع الشهادة ويحرر محضر بها يوقعه الكاتب والقاضي».

 

[4]    الدكتور/ كامل السعيد: شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2008م، ص 124. 

 

[5]    نقض 30/3/ 1965م، أحكام النقض س 16 ق 68، ص 319.

 

[6]    تنص المادة (431) إجراءات جزائية على أن: «تتولى المحكمة العليا مراقبة المحاكم في تطبيقاتها للقانون ولا تمتد إلى حقيقة الوقائع التي اقتنعت بثبوتها المحكمة مصدرة الحكم ولا إلى قيمة الأدلة التي عولت عليها في الإثبات إلا في الحالات التي ينص عليها القانون». 

 

[7]    وفي ذلك نصت المادة (32) إجراءات جزائية على أنه: «إذا رأت المحكمة الابتدائية في دعوى مرفوعة أمامها أن هناك متهمين غير من أقيمت الدعوى عليهم، أو وقائع أخرى غير المسندة فيها إليهم، أو أن هناك جريمة مرتبطة بالتهمة المعروضة أمامها ... ». 

 

[8]    وفي ذلك تنص الفقرة الثانية من المادة (319) إجراءات جزائية على أن: «يحرص رئيس الجلسة على أن تحترم كرامة المواطنين وهيئة المحكمة من قبل جميع الأطراف المشتركين في القضية». 

 

[9]    هذا وقد أعطى المشرع في المادة (364) إجراءات جزائية الحق للمحاكم الجزائية من أن تمنع الخصوم ووكلاءهم من الخروج عن موضوع الدعوى أو التجاوز على بعضهم بعضاً أو على الغير فنصت على أن: «... وللمحكمة أن تمنع المتهم أو ممثل الدفاع من الاسترسال في المرافعة إذا خرج عن موضوع الدعوى أو كرر أقواله وبعد ذلك تصدر المحكمة قرارها بإقفال باب المرافعة ثم تصدر حكمها».

 

[10]   سلك المشرع اليمني في تقسيمه للجرائم مسلكًا يكاد يكون نادرًا بالنسبة للتقسيمات التي اعتمدت عليها القوانين الجزائية الحديثة في الدول؛ إذ قسم الجرائم من حيث جسامتها وفقًا للمادة (15) عقوبات إلى نوعين: جرائم جسيمة، وجرائم غير جسيمة. وعرف الجرائم الجسيمة في المادة (16) عقوبات بأنها: ما عوقب عليه بحد مطلقًا أو بالقصاص بالنفس أو بإبانة طرف أو أطراف وكذلك كل جريمة يعزر عليها بالإعدام أو بالحبس مدة تزيد على ثلاث سنوات، بينما عرف الجرائم غير الجسيمة في المادة (17) عقوبات بأنها: التي يعاقب عليها أصلًا بالدية أو بالأرش أو بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بالغرامة. 

     وقسمها من حيث أنواعها وفقًا للمادة (11) عقوبات إلى نوعين: وجرائم« قصاص، وحدود، وتعزيريه»- والعلة في ذلك هو تأثره الكبير بما سار عليه النظام الإسلامي عند تقسيمه للجرائم بالمسميات ذاتها سواء للجريمة أم للعقوبة».   

[11]    الدكتور/ محمود نجيب حسني : شرح قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة ، 1988م، ص 158.

 

[12]   تنص المادة (١٧٣) مرافعات على أن: «يناط ضبط الجلسة وإدارتها وحفظ نظامها برئيسها، وهو الذي يتولى توجيه الأسئلة للخصوم والشهود، وإذا رغب أحد الأعضاء في توجيه سؤال أو ملاحظة أسر له بذلك ليتولى هو توجيه السؤال».

     منح المشرع اليمني رئيس الجلسة  سلطة تنظيم الحاضرين في الجلسة لكفالة الهدوء وحفاظًا على هيبة المحكمة، وله في سبيل تحقيق ذلك إذا اكتظت القاعة بالحضور أن يمنع الدخول إليها، ولا يعد هذا إخلالًا بمبدأ العلانية، وإذا أثارت بعض الدعاوى اهتمامًا لدى الرأي العام، وقدر رئيس المحكمة أن جموعاً غفيرة تعتزم حضور الجلسات كان له أن ينظم الأمر بما قد يؤدي إلى السماح للبعض دون البعض الآخر بالحضور بشرط أن يلتزم في الإذن والمنع ضوابط موضوعية، وهذا ما قضى به المشرع اليمني في الفقرة الثانية من المادة (263) إجراءات جزائية بالقول:« يباح دخول المواطنين إلى قاعة المحاكمة بقدر ما تستوعب القاعة ذلك».

     كما أن لرئيس الجلسة وفقًا لما قرره المشرع في الفقرة الأولى من المادة (263) إجراءات جزائية أن يجعل الجلسة سرية لا يحضرها غير ذوي العلاقة بالدعوى مراعاة للأمن والنظام أو محافظة على الآداب أو إذا كان يخشى إفشاء أسرار عن الحياة الخاصة لأطراف الدعوى، أو في حالة انتشار الأمراض الوبائية وغيرها من الأمراض المعدية ولها أن تمنع دخول الأحداث وكذلك الأشخاص الذين يبدون في مظهر غير لائق يتنافى مع مهابة هيئة المحكمة.

[13]   الدكتورة/  فوزية عبد الستار: شرح قانون الإجراءات الجنائية،  دار النهضة العربية، القاهرة، 2010 م،  ص 87.

 

[14]   جعل المشرع اليمني سلطة العقاب في المحاكم المدنية، في الأفعال المخلة بنظام الجلسة لرئيس الجلسة وحده في حالتين: حالة إذا كان المخل بنظام الجلسة ممن يؤدون وظيفة بالمحكمة، وحالة الإخراج من الجلسة، هنا للقاضي رئيس الجلسة وحدة اتخاذ القرار حتى لو كانت المحكمة مشكلة من أكثر من قاضٍ، أما في  حالة الحكم بالحبس أو الغرامة فلا يجوز للقاضي رئيس الجلسة الانفراد باتخاذ القرار إذ يجب أن يكون لهيئة المحكمة كاملة إلا إذا كانت المحكمة مشكلة من قاضٍ فرد.

 

[15]   تنص المادة (39) عقوبات على أن: «لا تقل مدة الحبس عن أربع وعشرين ساعة ولا تزيد على عشر سنوات..». 

 

[16]   نقض 12/3/ 1931م، مجموعة القواعد القانونية ج2 ق 203، ص 462.

 

[17]   مبلغ الغرامة خمس مائة على أن: لذلك نهيب بالمشرع اليمني تعديل قيمة الغرامة. 

 

[18]   تنص المادة (43) عقوبات على أن: «...لا تنقص الغرامة عن مائة ريال ولا تجاوز سبعين ألف ريال ما لم ينص القانون على خلاف ذلك». 

 

[19]   هناك من يستثني من هذه القاعدة ما يقع من الأحداث، فإذا ارتكب أحد الأحداث جريمة من جرائم الجلسات فلا يحق للمحكمة التي وقعت الجريمة في جلستها نظرها ولا يكون لها سوى تحريك الدعوى الجزائية دون اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق سوى القبض على المتهم إذا اقتضى الحال؛ لأنّ محكمة الأحداث دون غيرها تختص في أمر الحدث عند اتهامه في الجرائم وعند تعرضه للانحراف، يراجع في ذلك: المستشار/ أحمد عبد الظاهر الطيب: جرائم الجلسات، توزيع المكتبة القانونية ، القاهرة، دون سنة طبع، ص108. ولكننا لا نرى ذلك ونجد أن الأحكام عامة ولا يستثنى إلا المحامون فهم يخضعون لقواعد خاصة منصوص عليها في قانون تنظيم المحاماة.

 

[20]   نصت المادة (564) إجراءات جزائية على أن: « يرجع في كل ما لم يرد فيه نص في هذا القانون إلى أحكام قانون المرافعات وقانون الإثبات الشرعي والقواعد العامة الشرعية».

 

[21]   نصت المادة (185) عقوبات على أن: « يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة كل من أخل بكتابة أو قول أو فعل أو بأي طريقة بمقام قاضٍ أو هيبته أو سلطته أو حاول التأثير فيه، وكان ذلك في شأن أي دعوى في أثناء انعقاد الجلسة.  وتسري ذات العقوبة إذا وقعت الجريمة على سلطات التحقيق بمناسبة تحقيق جزائي تجريه».

 

[22]   وهذا أيضًا ما أشار إليه المشرع في المادة (27/1) إجراءات جزائية بالقول: «لا يجوز للنيابة العامة رفع الدعوى الجزائية أمام المحكمة إلا بناء على شكوى المجني عليه أو من يقوم مقامه قانونًا في الأحوال الآتية: ..... ما لم تكن الجرائم وقعت على مكلف بخدمة عامة في أثناء قيامه بواجبه أو بسببه». 

 

[23]    الدكتور/ مطهر أنقع: مرجع سابق، ص146.   

 

[24]   نصت المادة (35) إجراءات جزائية على أن: «للمحكمة في حالة نظر الموضوع إذا وقعت أفعال من شأنها الإخلال بأوامرها أو الاحترام الواجب لها والتأثير في قضائها أو في الشهود وكان ذلك في صدد دعوى منظورة أمامها أن تقيم الدعوى الجزائية على المتهم...وتقضي فيها». 

 

[25]   والسبب في عدم الاهتمام بضرورة وجود وسماع النيابة العامة هو أنها من الجرائم المشهودة إضافة إلى ذلك من الجرائم غير الجسيمة وهذه الجرائم يجوز رفعها إلى المحكمة وفقًا لما جاء في نص المادة (111) إجراءات جزائية، بدون تحقيق، أما إذا كانت الجرائم الواقعة في الجلسة من الجرائم الجسيمة فإنه وفقًا لما ورد في المادة (111) إجراءات جزائية لا بد من التحقيق فيها من قبل النيابة العامة ولهذا لا يجوز التصدي لها مباشرة وإنما تخضع للقواعد العامة المقررة في قانون الإجراءات الجزائية، الدكتور/ مطهر علي صالح أنقع: مرجع سابق، هامش(2)، ص 147.     

 

[26]   الطعن رقم 1175 لسنة 46  ق، بتاريخ 30/1/ 1930م ، ص 433.

 

[27]   تراجع المادة (52) إثبات رقم (5) لسنة 1996م..     

 

[28]    الطعن رقم 568 لسنة 6 ق، جلسة 1936/1/13 .

 

[29]   نقلًا عن الدكتور/ مطهر علي صالح أنقع: مرجع سابق، ص 146.

 

[30]   نصت المادة (122) من قانون السلطة القضائية رقم (1) لعام 1991م، على أن: «يحدد القانون الشروط اللازم توافرها للاشتغال بالمحاماة، ويبين حقوق المحامين وواجباتهم وتنظيم محاسبتهم»،

 

[31]   الدكتورة/  فوزية عبد الستار:  مرجع سابق، ص 95. 

 

[32]    يتكون مجلس التأديب الفرعي وفقًا لنص المادة (84) من قانون تنظيم المحاماة من...1- قاضٍ بدرجة رئيس محكمة ابتدائية ينتدب بقرار من الوزير على أن يكون رئيسًا للمجلس التأديبي، 2- عضو يعينه مجلس النقابة، 3- عضو ينتخب من قبل الجمعية العمومية.

 

[33]    يتكون مجلس التأديب الأعلى وفقًا لنص المادة (84) من قانون تنظيم المحاماة من خمسة أعضاء هم  ...1- قاضٍ ينتدب بقرار من الوزير على أن لا تقل درجته على قاضٍ بمحكمة استئناف يكون رئيسًا للمجلس التأديبي، 2- عضوان  يتم انتخابهما من قبل الجمعية العمومية على أن لا تقل درجة كل واحد منهما على محامٍ أمام المحكمة العليا يعينه مجلس النقابة، 3- عضو يعينه مجلس النقابة لا تقل درجته عن محامٍ أمام المحكمة العليا  ينتخب من قبل الجمعية العمومية. 4- مسؤول شؤون المهنة بحكم منصبه مقررًا .

 

[34]   لتوضيح نوعية العقوبة التأديبية التي تصدر عن المجلس التأديبي الأعلى تراجع المادة (85) من قانون تنظيم المحاماة.