أركان القضاء على ضوء عهد أمير المؤمنين الإمام علِيٍّ لواليه على مصر (قــراءة معاصــرة)

القاضي. الدكتور/ عبدالملك عبدالله الجنداري

1/19/2023

يمكنك تنزيل الدراسة من هنا

القاضي. الدكتور/ عبدالملك عبدالله الجنداري

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين نحمده، ونشكره، ونستعينه، ونستهديه، ونثني عليه الثناء كلّه، ونصلي ونسلم على خير خلقه؛ سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أمّا بعد.. بادئ ذي بدء يجدر التنويه إلى أن ما تضمنه عهد أمير المؤمنين الإمام عليٍّ في مجموعه ليس مجرد “وصايا” أو “نصائح” – كما يحلو للبعض وصفها –  بل “أوامر” و”توجيهات” ملزمة من رئيس إلى مرؤوس، تضمنها “عهد توليته” (قرار تعيينه) لمالك الأشتر، فهو وإن جاء مُضَمَّناً في رسالة، إلا أنها ليست مجرد “رسالة” من شخص إلى آخر، بل هي عَهَدُ تولِيَةٍ؛ بدليل ما جاء في مدخلها، وهو قوله: “هَذَا مَا أمَــرَ بِهِ عَبْدُاللهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ المؤمنينَ، مالِكَ بن الحارِثِ الأَشْتَرَ في عَهْدِهِ إلَيهِ، حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ: جِبايَةَ خَراجِها، وجِهادَ عَدُوِّها، واسْتِصلاحَ أَهْلِها، وعِمارَةِ بِلادَها.  أَمَــرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وإِيثارِ طاعَتِهِ، واتَباعِ ما أَمَرَ بِهِ في كِتابِهِ: مِنْ فَرائِضِهِ وسُنَنِهِ التي لا يَسْعَدُ أحَدٌ إلا بِاتِّباعِها، ولا يَشْقَى إلا معَ جُحُودِها وإِضاعَتِها، وأنْ يَنُصَر اللهَ سُبْحانَهُ بِقَلْبِهِ ويَدِهِ ولِسانِهِ؛ فإنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قد تَكَفَّلّ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وإعْزازِ مَنْ أَعَزَّهُ. وأمَــرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَواتِ، ويَزَعَها عِنْدَ الجَمَحاتِ؛ فإِنَّ النَّفْسَ أَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إلا ما رَحِمَ اللهُ…” إلخ.

فمما ينبغي الالتفات إليه: أن الفعل “أمَـرَ” قد تكرر في هذا المدخل ثلاث مرات، تمهيدا لما سيأتي من أوامر وتوجيهات في نص العهد؛ فصيغة “فعل الأمر” قد هيمنت على جميع الصيَغ الأخرى الواردة فيه (وردت 77 مرة)، ويليها صيغة المضارع المقترن بـ”لام الأمر” (وردت 12 مرة)، وهو في الأعم الأغلب فعل (الكينونة)؛ فـ(لام الأمر) تضفي على الكينونة زيادة في التوكيد؛ لما يحتمله فعل (الكينونة) من العموم في إثبات الفكرة، كقوله عليه السلام: «فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح»[1]، هذا وبالإضافة إلى صيغة “الأمر”، وقد تضمن ذلك العهد أيضا صيغة “النهي”[2]، وقد أحصى بعض المتخصصين ورود تلك الصيَّغ فيه [3]، مبينا إياها في الجدول الآتي:

الصيغةالأمـــرالنهـيالنداء
عدد تكرارها89441

فهيمنة هذه الصِيَغ على نص العهد، تأكيد على عِظَم المسئولية الملقاة على عاتق المُتلَقِّي، وهذا لا يعني الأشتر فقط، بل كل مُتَلَقٍّ توَلَّى شأناً[4]؛ لذا ليس صحيحاً البتة القول: إن ذلك العهد قد أضحى من التاريخ ولا محل لتطبيقه في هذا العصر؛ فعَظَمة وأهمية ذلك العهد تكمن في مضامينه والمفاهيم القويمة التي قام عليها، وتَجاهُلُ تلك المضامين السامية – سواء في مجال القضاء أو في غيره – والتقاعس المطرد عن تطبيقها  جيلاً فجيلاً، هو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه؛ ليقال مثل هذا القول، إما لعدم استيعاب تلك المضامين، بقصد العمل على تردي أحوال الأمة، أو للهروب من سيئ إلى أسوأ.

صحيحٌ أنّ التركة الثقيلة التي ورِثَها هذا الجيل نتيجة تعاقب العصور طوال أربعة عشر قرنا – وما صاحبها  من إفساد مطَّرد للزمان وأهله – تُمَثِّلُ عائقا في سبيل تنفيذ ذلك العهد حرفيا، غَيْر أنّ العمل بهذا العهد – وفقا لما تضمنه من مفاهيم قويمة، وبمراعاة واقعنا المعاش، وإمكانياتنا المتاحة – أمر لابد منه شرعا وعقلا[5]، أما تجاهل تلك المضامين والمفاهيم تماما – ناهيك عن العمل بنقيضها – فهو إخلال بحق الأمة، وإهدار لِسُنَّة من السُّنن الإلهية، سيسأل عنه ولاة أمرِها القائمون على أمر القضاء؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41]، وهذا ما حرص الإمام علي عليه السلام على إيصاله للمتلقي لذلك العهد العظيم؛ ولعل هذا يبرر هيمنة صيغة الأمر والنهي على نَصِّهِ.

تمهيد وتقسيم:

إن مضمون عهد الإمام عليٍّ عليه السلام – كما سلف القول – ملزم لكل مُتلَّقٍ تولَّى شأناً من شئون العباد في كل عصر، ولاشك ولا ريب أن الحكم بين الناس – بفض خصوماتهم وقطع منازعاتهم – من أهم شئونهم، وبالتالي فتولي القضاء لا ولا يمكن أن يكون مجرد وظيفة، بل هو رسالة إنسانية، بدليل أن الله تعالى أناطها ابتدأ بأنبيائه عليهم الصلاة والسلام[6]، وبهذا جاء مضمون ذلك العهد العظيم؛ إذ يأمر فيه الإمام عليَّ واليه بقوله:

«اخْتَر للحُكْمِ بين النَّاس أفضلَ رعيَّتك في نَفْسِكَ؛ مِمَّنْ لا تَضيقُ به الأمورُ، ولا تُمَحِّكُهُ الخصومُ، ولا يتمادَى في الزَّلَّةِ، ولا يَحْصَرُ من الْفَيْءِ إِلى الحقِّ إذا عَرَفَهُ، ولا تُشْرِفُ نَفسُهُ على طمعٍ، ولا يَكتَفِي بِأدنَى فَهْمٍ دون أقصاهُ، وأوقَفَهُمْ في الشُّبُهَاتِ، وآخَذَهُمْ بِالحُجَجِ، وأقَلَّهُمْ تبرُّماً بمراجعةِ الخصمِ، وأصبرَهُمْ  على تَكَشُّفِ الأمورِ، وأصرَمَهُمْ عند اتِّضاحِ الحُكْمِ، ممَّنْ لا يَزْدَهيهِ إِطْرَاءٌ، ولا يَسْتَمِيلُهُ إغْراءٌ، وأولئك قليلٌ، ثُمَّ أكثرْ تَعاهُدَ قضائِهِ، وأفْسِحْ له في البَذْلِ ما يُزيحُ عِلَّتَهُ، وتَقِلُّ معه حاجَتُهُ إلى النَّاسِ، وأعْطِهِ من المَنْزِلَةِ لديكَ ما لا يَطْمَعُ فيه غَيْرُهُ من خاصَّتِكَ؛ ليأْمَنَ بذلك اغْتيالَ الرِّجالِ له عندك؛ فانْظُرْ في ذلكَ نَظَرًا بَليغًا؛ فإنَّ هذا الدِّينَ كانَ أَسِيرًا في أَيْدِي الأشْرارِ يُعْمَلُ فيه بالهَوَى، وتُطْلَبُ بِهِ الدُّنيا».

ففي هذا الجزء المهم من العهد وردت صيغة  (الأمر) خمس مرات، الأربع الأُوَل هي: “اختر، أكثر، أجزل، أعطه”؛ لهذا يمكننا القول إنه عليه السلام قد ضَمَّنَ عهده هذا أركان بناء القضاء، وأنها أربعة أركان؛ فقد بدأ كلا منها بـ(فعل أمر)، ومن ثم فهذه الأركان – وفقا لمفهومنا المعاصر–  هي:

  1. سلامة اختيار القضاة.
  2. مراقبة وتتبع سلامة أدائهم.
  3. توفير احتياجاتهم المادية.
  4. تحقيق حَصاناتهم.

وللتأكيد على أهمية ولزوم إقامة هذه الأركان الأربعة، وأن إقامة العدل والقسط بين الناس هو قوام الدِّين، أعقبها عليه السلام بأمر خامس قائلا: «… فانْظُرْ في ذلكَ نَظَرًا بَليغًا؛ فإنَّ هذا الدِّينَ كانَ أَسِيرًا في أَيْدِي الأشْرارِ يُعْمَلُ فيه بالهَوَى، وتُطْلَبُ بِهِ الدُّنيا»؛ لذا فترتيب هذه الأركان الأربعة في العهد أعلاه، لم يأت هكذا اعتباطا؛ فصاحبها بابُ مدينة العِلم؛ ومن ثم فهو أعلم وأفصح وأبلغ من جاء بعد نبي الأمة صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذا ينبغي بِنَا – إن أردنا قضاءً قادرًا على أداء الرسالة الإنسانية السامية – أن نعمل جاهدين على تحقيق وتنفيذ هذه الأركان الأربعة معًا، وبالتتابع الذي وردت به؛ فلا يمكن للقضاء – بأي حال – أن يقوم بدوره في أداء رسالته الإنسانية إلا بإقامة هذه الأركان الأربعة مجتمعة وتكريسها على أرض الواقع، قولا وفعلا.

وعليه ونظراً للتراجع الظاهر الذي آل إليه أداء المؤسسة القضائية[7] في بلادنا؛ كان لزاما علينا الوقوف أمام الجزء المتعلق بـ”القضاء” في عهد الإمام علي عليه السلام؛ فرغم كثرة شروح هذا العهد، إلا أنّ هذا الجزء تحديدا لم يلق حقه من الشرح والتعليق، رغم أهميته وسمو مضامينه؛ لهذا وعملا بقوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، وقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 110]، سنستعرض في ما يلي – وبإيجاز يتناسب والمقام – أركان القضاء الأربعة التي تضمنها ذلك العهد العظيم، وقراءة ما جاء فيه في ظل ظروفنا الزمانية والمكانية – الواقعية والقانونية – لتشخيص واقعنا، ومعرفة أين نحن من تلك المفاهيم القويمة؛ فبقدر بُعْدِنا عنها يكون حجم المشكلة، وبقدر قُرْبِنا منها تكون فعالية الحل.

الركن الأول
سلامة اختيار القضاة

بيَّنَ الإمام عليِّ عليه السلام الخصال التي يجب تحريها في من يتم اختياره للحكم بين الناس، وذلك بقوله: «… مِمَّنْ لا تَضيقُ به الأمورُ، ولا تُمَحِّكُهُ الخصومُ، ولا يتمادَى في الزَّلَّةِ، ولا يَحْصَرُ من الْفَيْءِ إِلى الحقِّ إذا عَرَفَهُ، ولا تُشْرِفُ نَفسُهُ على طمعٍ، ولا يَكتَفِي بِأدنَى فَهْمٍ دون أقصاهُ، وأوقَفَهُمْ في الشُّبُهَاتِ، وآخَذَهُمْ بِالحُجَجِ، وأقَلَّهُمْ تبرُّماً بمراجعةِ الخصمِ، وأصبرَهُمْ  على تَكَشُّفِ الأمورِ، وأصرَمَهُمْ عند اتِّضاحِ الحُكْمِ، ممَّنْ لا يَزْدَهيهِ إِطْرَاءٌ، ولا يَسْتَمِيلُهُ إغْراءٌ».

فهذه أربع عشرة خصلة، مترابطة بعضها ببعض على نحو غاية في الإبداع، ومما تجدر ملاحظته أنه بدأ كلا من الخصال السِّت الأولى بـ(لا النافية)، بينما بدأ كلا من الخصال الخمس التالية لها بصيغة (أَفْعَل التفضيل)، ثم عاد فاختتم كل ذلك بخصلتين أخريين بدأهما أيضا بـ(لا النافية)، ولا شك أن لهذه الصياغة دلالتها، ولهذا الترتيب دلالته[8]. وعليه يمكن القول: إن ثمة طائفتين من الخصال المطلوبة في من يتولى الحكم بين الناس:

الطائفة الأولى (المبدوءة بـ”لا” النافية): تمثل الخصال الأساس التي يلزم توافرها فيمن يُختار للحكم بين الناس؛ أي أن توافر هذه الخصال شرط أساس لتولي منصب القضاء، ثُم ومِن بين مَن تتوافر فيهم هذه الخصال يُفضل اختيار من تتوافر فيه الخصال الخمس الأخرى (المبدوءة بصيغة “أفعل” التفضيل)؛ لذا فالطائفة الأخرى: تمثل الخصال التي يتميز بها الأصلح للقضاء (الكفء) عن الصالح له (فوق المتوسط)[9].

هذا وقبل أن يعدد عليه السلام مجموع تلك الخصال، ذكر أولا آلية اختيار القضاة بقوله: «اخْتَرْ للحُكْمِ بين النَّاس أفضلَ رعيَّتك في نَفْسِكَ»، ثم أعقب تلك الخصال قائلا: «وأولئك قليلٌ»، في إشارة دقيقة جداً إلى طبيعة تلك الخصال؛ وأنها مَلكاتٌ ومواهبَ أصلية في الأشخاص، لا يمكن اكتسابها بالعلم والتلقي – وإن كانت تصقل بهما –  وبالتالي فإنّ من تتوافر فيهم تلك الخصال قليل في كل زمان ومكان، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الله أناط بهم إقامة سُنَّةٍ من السُّنن الإلهية، وهي “النهي عن المنكر”؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: 41].

وعليه سنستعرض في المطالب الثلاثة التالية: آلية اختيار القضاة في العصر الأول؛ أي كما جاءت في مجمل عهد الإمام علِيَّ عليه السلام. ثم آلية اختيار القضاة في عصرنا، وأخيرا طبيعة الخصال اللازمة في من يُولَى القضاء.

المطلب الأول
آلية اختيار القضاة في العصر الأول

سلف القول أن الإمام علِيٍّ عليه السلام وجَّه أمرًا لواَليهِ بقوله: «اخْتَرْ للحُكْمِ بين النَّاس أفضلَ رعيَّتك في نَفْسِكَ».  وفي شرح هذه العبارة يقول الإمام يحيى بن حمزة:  “يريد أنه لابد للناس من حاكم يفصل شجارهم، ويقطع مواد خصوماتهم، ويُوصِّل إلى كُلٍّ حقه؛ لأن ترك ذلك يؤدي إلى دوام التخاصم ويثير التظالم بين الخلق، وهو من أهم القواعد الشرعية وأعلاها بالمحافظة والمراقبة؛ فاختر أحق الناس بالفضل من الرعية التي تحت يدك، وأعلاهم همة في الدِّين، وأعظمهم في نفسك”[10]، وعليه:

  • فقوله: «اخْـتَر»، تفويض أمر اختيار القضاة للوالي شخصياً، مما يدل على أهمية منصب القضاء، وأنه ليس مجرد وظيفة، وإذا كان أمر اختيارهم في عصرنا قد تُرك لمجلس أعلى للقضاء، فلا أقل من تكون رئاسة ذلك المجلس لرئيس الجمهورية، وهو ما كان عليه الحال إلى وقت قريب، وتحديدا إلى سنة 2006م، أما التحجج باستقلال القضاء فغير صحيح؛ لأن هذه الحجة لم تقم إلا بعد أن أصبح رئيس الجمهورية حزبيا، ورئيساً للحكومة (السلطة التنفيذية)، أما إذا عاد الحال على ما كان عليه – وهو الأصل – فلا إشكال البتة؛ لأن رئيس الجمهورية حينها يرأس مجلس القضاء باعتباره رئيساً للدولة بجميع مؤسساتها الدستورية[11].
  • وقوله: «للحُكْمِ بين النَّاس»، يعني أن ولاية القاضي تنصب أساسا على مسألة “الحكم بين الناس”؛ بأن “يفصل شجارهم، ويقطع مواد خصوماتهم، ويُوصِّل إلى كُلٍّ حقه”[12]؛ فالقضاء هو: “الفصل الملزم بين الناس في الخصومات، حسماً للتداعي، وقطعاً للتنازع”[13]، وعلى هذا الأساس بيَّن الدستور النافذ مهمة المحاكم بقوله: “تتولى المحاكم الفصل في جميع المنازعات والجرائم” (مادة 149)؛ بيد أن تردي أداء الجهات الأخرى أو تسلطها، قد أسفر عن تحميل المحاكم – بالإضافة إلى هذه المهمة الشاقة – أعباء إضافية عديدة ومتنوعة؛ فهناك ما يُعرف بالأعمال الولائية، والأعمال الإدارية والمالية، ثم تأتي قاصمة الظهر المتمثلة في عبء تنفيذ الأحكام، دون تفرقة بين “إجراءات التنفيذ” وبين “منازعات التنفيذ”[14]، هذه فقط أبرز الأعباء المنصوص عليها في القانون، ناهيك عن أعباء أخرى كثيرة يفرضها الواقع، ويُلقى ذلك كله على عاتق القضاة؛ لذا لا غرابة – في ظل وضع كهذا – من أن توجد مشكلة “تراكم القضايا”، وأن تتَفاقم مشكلتي: “تعثر القضايا”، و”إطالة آماد التقاضي”، هذا ورغم أنه لا علاقة للمحاكم بالمشكلة الأولى[15]، ورغم وجود أسباب أخرى أساسية للمشكلتين الأخريين، إلا أن الجميع يُحَمّل وِزْر ذلك كله على المحاكم فقط، مع أن من يزور المحاكم في أي من عواصم المحافظات، سيجدها أكثر المنشآت الرسمية اكتظاظاً بالمواطنين، رغم التوسع الغريب في إنشاء ما يُسمّى بـ”المحاكم المتخصصة”، ورغم مضاعفة أعداد القضاة في تلك المحاكم ما بين عشرة إلى خمسة عشر ضعفاً تقريباً؛ ألا ينبغي أن تدفع هذه الظاهرة بالعقلاء للتساؤل والوقوف أمامها بجدية، بحثاً عن إجابة حقيقية لها؟!!! فظاهرة كهذه ليست مشكلة المحاكم فقط، بل هي مشكلة الدولة بكافة مؤسساته الدستورية (التشريعية، القضائية، التنفيذية)، وكافة التنظيمات السياسية، ومنظمات المجتمع المدني؛ لأن “العدالة” شأن عام[16].
  • وقوله: «أفضلَ رعيَّتك»، إشارة إلى أهمية منصب القضاء بين جميع مناصب الدولة؛ فمن يتصدى لأداء هذه الرسالة ينبغي ابتداء أن يكون من أفضل الرعية؛ فالأمة لا تُؤْتَى كما تُؤْتَى من اختلال هذا المنصب المتحكم بدماء الناس وأعراضهم وأموالهم وحقوقهم[17].
  • وقوله: «في نَفْسِكَ»، إشارة إلى أن الأفضلية هنا لا تقرر فقط بناء على تزكية فلان أو علان من الناس، بل يقررها الشخص المنوط به اختيار القضاة، وهو الوالي، ومن في حكمه في عصرنا؛ فالأمام علَّي عليه السلام – كما هو ظاهر – لم يقصد منطوق هذه العبارة؛ إذ لا يمكن للوالي – أيّا كان – أن يعرف جميع رعيته في بلد كمصر، ولو في ذلك الزمان؛ ومن ثم فالمقصود هو مفهوم العبارة الذي يستشف من توجيهاته الأخرى لواليه، ومنها قوله في مكان آخر من العهد: «وأكثر مدارسة العلماء[18]، ومناقشة الحكماء»؛ فمن بينهم يتم تحري شروط تولي القضاء، فالعلم والحكمة شرطان لازمان في كل من يتولى مناصب الدولة، لا في القضاة فقط؛ لهذا لم كان عليه السلام غني عن التصريح بهما، بين الخصال اللازم توافرها في يتولى منصب القضاء؛ لأنهما مفترضتان أصلا؛ قال تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: الآية 79]، وبالتالي اقتصر عليه السلام على بيان الخصائص والخصال التي يجب أن يتميز بها من يتولى القضاء من بين علماء وحكماء البلد، فمن خلال معرفته بهم المكتسبة من مجالسته لهم ومدارسته ومناقشته إياهم، سيجد من بينهم من تتوافر فيه الخصال المطلوبة؛ ليختار لمنصب القضاء أفضلهم في نفسه.

وقد لا تتوافر تلك الخصال في مَن يدارسهم ويناقشهم ويجالسهم المعنِي باختيار القضاة من بين العلماء والحكماء، ومع ذلك يجب عليه البحث والتتبع، وبهذا الشأن أشار له – عليه السلام – إلى طريق آخر يصل به إلى ذلك، وذلك بقوله قبل ذلك: «وإنما يُسْتَدَّلُ علَىَ الصَّالحينَ بما يُجري اللهُ لهم على أَلْسُنِ عِبادِه»؛ وهم الذين يعتقدون – قولا وعملا –  بمصداق قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105]، هؤلاء هم من يجعل لهم الله لسان صدق في الآخَرين، وهم من قصدهم عليه السلام، فمَن تواترت الأخبار على صلاحه، لزم على الوالي – ومن في حكمه – طلبه للتعرف عليه شخصيا ومدارسته ومناقشته؛ لمعرفة مدى استيفائه للخصال المطلوبة، وينبغي أن يتكرر ذلك مع عدة أشخاص؛ فالأفضلية لا تتقرر إلا بين أكثر من واحد، فمن خلال ذلك فقط يمكنه تقرير أفضلهم في نفسه لتولى القضاء؛ فمعنى قوله عليه السلام: «في نَفْسِكَ» –  كما شرحها الإمام يحيى بن حمزة –  أي بـ”الإضافة إليك وإلى فراستك وتفكرك في حالة، لا تكليف عليك سوى ما ينقدح في نفسك من ذاك”[19].

المطلب الثاني
آلية اختيار القضاة في عصرنا الحالي

سلف القول إنّ التطبيق الحرفي لنص العهد الذي نحن بصدده أمر تكتنفه معوقات واقعية، لسنا بصددها، والذي يهم هو العمل بمفاهيم ومضامين ذلك العهد العظيم، وأولها – بالنسبة للقضاء – الاهتمام الشديد بتحري  الخصال التي يجب توافرها في من يراد توليته القضاء، ليس ذلك فحسب بل يجب أن يتم ذلك بمراعاة الطبيعة التي تقتضيها الولاية القضائية؛ أي بأن ندرك أولا – تمام الإدراك – أنها رسالة إنسانية؛ لارتباطها بدماء وأعراض وحقوق الناس وأموالهم، وأن تولي القضاء ليس مجرد وظيفة كغيرها من الوظائف لا لغة ولا اصطلاحا[20]، ومن ثم لا يمكن لأي كان أن يؤديها – ولو بالحد المقبول من الأداء اللازم – بمجرد التعلم، بل لابد أيضا أن يتمتع القاضي بخصال خاصة تميزه عن غيره، خصال يجبل الشخص عليها، ولا يتأتى اكتسابها بالتعلم فقط، وإن كانت تصقل بالتأهيل والتدريب والممارسة العملية، بيد أن السائد في الأذهان والسائر على الواقع، هو خلاف هذا المفهوم، فحتى نصوص قانون السلطة القضائية التي كانت تُراعي إلى حد ما المفهوم السوي للقضاء، أخذ تطبيقها يختل تباعا، إلى أن وصل الأمر إلى تعديل بعضها،  أو تضمين قانون المعهد ما يعارض النافذ منها، والشواهد على ذلك كثيرة لا يتسع المقام للتعرض لها هنا[21]؛ لكل ما سلف نرى أن يتم تحري الخصال المطلوبة في القاضي وفقا للآلية التالية:

أولا: التشديد في شروط الالتحاق بالمعهد العالي للقضاء وفي عدد الملحقين به، الذي أصبح مجرد بوابة للتوظيف، وفي أحسن الأحوال للحصول على شهادة الماجستير، وهذا يقتضي إعادة النظر في الأسس التي قام عليها قانون المعهد رقم (34) لسنة 2008م، وضم أحكامه إلى قانون السلطة القضائية.

ثانيا: مراقبة سلوك الملتحق بالمعهد طوال فترة الدراسة؛ فمجرد حصوله على الشهادة لا يعني مطلقا صلاحيته لتولي القضاء، وليس ثمة نص قانوني يوجب توليته القضاء بعد تخرجه، لكن هذا الذي يحدث واقعا.

ثالثا: التطبيق العملي الفعال لموضوع التدريب والتأهيل بعد التخرج من المعهد، كشرط لازم لتولي القضاء، لفترة ” لا تقل عن سنتين في مجال العمل القضائي” (مادة 57/ب سلطة قضائية)، لا بمجرد مضي سنتين، بل بعد التفتيش عليه خلال تلك الفترة، لا لتقييم أداءه – كما هو الحال بالنسبة للقضاة  العاملين – بل للتأكد من صلاحيته لتولي القضاء، بتوافر الخصال المطلوبة فيه، وهذا يقتضي أن يكون قضاة المحاكم الابتدائية الذين يتولون التأهيل والتدريب من ذوي الكفاءة المتميزة والخبرة الطويلة، وأن يكون المفتشون أكثر كفاءة وخبرة من الجميع؛ ليُركن إليهم في تقرير صلاحية المتدرب لتولي القضاء، وبدون ذلك لا جدوى البتة من تطبيق النص المذكور، وبالتالي لا يمكن تطبيق أول وأهم ركن من أركان القضاء، وهو تحري الخصال المطلوبة في من يراد اختياره للحكم بين الناس، وبهذا نكون قد أهملنا “أهم القواعد الشرعية وأعلاها بالمحافظة والمراقبة”[22].

المطلب الثالث
طبيعة الخصال المطلوبة في القاضي

إن الإمام علِيٍّ عليه السلام قد جمع – في الجزء الخاص بالقضاء من العهد الذي نحن بصدده – كافة الخصال أو الصفات المطلوبة في من يراد اختياره للحكم بين الناس (القضاء) مُعدِدًا أربع عشرة خصلة، ولم يتضمن قوله أداة شرط؛ ليقال إن ذلك التعداد يمثل شروط تولي القضاء، وإلا لمَا صَحَّتْ ولاية قاض في أي زمان، ناهيك عن زماننا، ولمَا وُجِد فيه من يتصدى للحكم بين الناس؛ لأن الشرط يدور مع المشروط وجودًا وعدمًا، وبالتالي فالمراد بذلك التعداد بيان الخصال التي لا تبراء ذمة الوالي – ومن في حكمه – إلا بتحريها عند اختيار القضاة.

هذا ومن خلال ذلك التعداد، يمكن استخلاص الشروط اللازم توافرها للقول بكفاءة القاضي، ومن ثم صلاحيته للحكم بين الناس؛ ويمكن إجمالها في شروط خمسة؛ ثلاثة منها ذهنية؛ وهي: العلم، والفهم، والحزم (الحكمة). وشرطان مسلكيان؛ وهما: الحرص، والورع.

فالتحقق من الشروط الذهنية: يكون بتحري الخصال المبينة بقوله عليه السلام: «لا تَضيقُ به الأمورُ، لا تُمَحِّكُهُ الخصومُ، لا يَحْصَرُ من الْفَيْءِ إِلى الحقِّ إذا عَرَفَهُ، وآخَذَهُمْ بِالحُجَجِ، أقَلَّهُمْ تبرُّماً بمراجعةِ الخصمِ، وأصرَمَهُمْ عند اتِّضاحِ الحُكْمِ، لا يَكتَفِي بِأدنَى فَهْمٍ دون أقصاهُ، أوقَفَهُمْ في الشُّبُهَاتِ، أصبرَهُمْ على تَكَشُّفِ الأمورِ».

أما التحقق من الشروط المسلكية: فيكون بتحري الخصال المتمثلة في قوله عليه السلام: «لا يتمادَى في الزَّلَّةِ، ولا تُشْرِفُ نَفسُهُ على طمعٍ، لا يَزْدَهيهِ إِطْرَاءٌ، لا يَسْتَمِيلُهُ إغْراءٌ».

وبتأمل نماذج تقارير الكفاءة ونماذج استمارات التقييم، و”دليل المفتش” لكيفية إعمال تلك النماذج[23]، والمعتمدة في هيئة التفتيش القضائي منذ عقدين من الزمن تقريبا، سنجدها قد أعدت – إلى حد كبير – وفقاً لهذه المفاهيم، مراعيةً الزمان والمكان، بيد أنّها بقيت – غالبا – تقبع في الأدراج؛ لأنّ إعمالها على نحو تَبراء به ذمة القائمين على القضاء، لا ولن يتأتى إلا بإدراك أهمية هيئة التفتيش القضائي، وذلك برفدها بأفضل العناصر القضائية كمَّا وكَيْفًا، وبالإمكانات المادية والمعنوية التي تمكنهم من أداء هذه المهمة الجسيمة ولو في حدها المقبول، على نحو ما سيأتي بيانه في الركن التالي.

الركن الثاني
مراقبة وتتبع سلامة أداء القاضي

بعد أن أمر أمير المؤمنين واليه باختيار القضاة مبينا ما ينبغي أن يتوفر في القاضي من خصال، أضاف آمرًا إياه بقوله: «ثُمَّ أكثرْ تَعاهُدَ قضائِهِ». ومن خلال صيغة هذا الأمر في قوله: «ثُمَّ أكثرْ تَعاهُدَ قضائِهِ»، يمكن للمتأمل استخلاص عناصره، المتمثلة في أربعة عناصر أساس، نستعرضها في ما يلي:

أولاً: قوله: “ثُـمَّ”:

معلوم أن (ثم) في اللغة تشير إلى الترتيب مع التراخي؛ بمعنى أن اختيار القاضي يأتي أولا، وفقا للآلية المشار إليها في الحديث عن الركن الأول، وبعد أن يباشر القاضي عمله، ويبدأ في نظر الخصومات التي بين يديه، ويفصل فيها بحكم؛ أي يقضي فيها، عندئذ يمكن معرفة مدى سلامة قضائه فيها، أما قبل ذلك فمراقبته نوع من العبث، وعلى هذا الأساس تنص لائحة الهيئة على أنه: “لا يجوز فحص أي تصرف قضائي في أية قضية منظورة أمام القاضي الذي يجري التفتيش عليه” (مادة 22).

ثانياً: قوله: “أكْثِر”:

أي أنّ أمير المؤمنين قد أناط هذه المسألة بواليه شخصيا، وبهذا أبراء عليه السلام ذمته أمام الله، مُحمِلا واليه أمانة هذه المسئولية الجسيمة؛ لذا ألزمه بالإكثار من مراقبة أداء من اختاره للحكم بين الناس؛ ليتحمل مسئولية اختياره، بدليل قوله – في الموجهات الأساسية العامة – مخاطبا واليه: «فإنَّكَ فَوقَهُم، وَوالِي الأَمْرِ عَليْكَ فَوْقَكَ، واللهُ فَوْقَ مَنْ ولَّاكَ؛ وقَدِ اسْتَكْفاكَ أَمْرَهُمْ وابْتَلاكَ بِهِمْ»؛ أي أنك  – بعد ما وجهتك وأمرتك به – صِرْتَ أنتَ المسئول أمام الله، ولن يخرجك من مسئولية اختيارك لهذا القاضي أو ذاك، سوى الإكثار من تعاهد قضائه ومراقبة مدى سلامة أدائه، لتتخذ قرارك بشأنه على هدى وبينة، سواء بتصويب ما قد يقع فيه من خطأ في قضائه، أو بالأخذ على يده إنِ انحرف؛ فالهدف من إكثار المراقبة هو تحقيق أمرين:

أولهما: تصويب قضاء القاضي: وقد أناط القانون – في عصرنا – تحقيق هذا الهدف عن طريق المحكمة الأعلى درجة[24]، إلا أنّ هذه الدرجات قد تعددت أكثر مما ينبغي؛ بسبب إهمال الركن الأول، بل والعمل – كما أسلفنا – بخلاف مضمونه، فجاءت نتائج تعدد طبقات المحاكم عكسية.

والآخر: الآخذ على يده إنِ انحرف: وهذا في عصرنا منوط –  قانونا – بهيئة التفتيش القضائي؛ لينتهي بإحالته إلى مجلس القضاء الأعلى للمحاسبة فالتأديب، وفق القواعد والأحكام القانونية القائمة، ولا غبار عليها، ولا حاجة بنا إلى التعويل على العلم الشخصي القائم على السَّماع؛ إذ لا يخلو: إما أن يكون الناقل عن القاضي مخطئ أو غير دقيق في نقله، وإما أن يكون مصيبا فيه، وفي الحالين ينبغي عدم التعويل على نقله؛ لقوله عليه السلام في الموجهات العامة لواليه: «ولا تًعْجَلَنَّ إلى تصديق ساعٍ؛ فإنّ السَّاعي غاشٌ وإنْ تَشَبَّهَ بالنّاصِحينَ»؛ لذلك ولتجنب النقل الخاطئ لابد من إقامة الركن الرابع (الحصانات) المستمد من قوله عليه السلام: «أعْطِهِ من المَنْزِلَةِ لديكَ ما لا يَطْمَعُ فيه غَيْرُهُ من خاصَّتِكَ؛ ليأْمَنَ بذلك اغْتيالَ الرِّجالِ له عندك»، أما عدم التعويل على كلام الناقل – وإن كان مصيبا – فللزوم التحري، أي إقامةً للركن الثاني الذي نحن بصدده، وهو الإكثار من «تَعاهُدَ قضائِهِ».

ثالثاً: قوله: “تَعاهُدَ”:

تعاهد: من “عَهِدَ”؛ يقال: عَهِدَ الشَّيءَ؛ أي حفظه ورعاه، وتفقده حال بعد حال[25]، وقد جاء بها عليه السلام بصيغة “تَفاعَلَ”؛ للتأكيد على لزوم كثرة تفقد أداء القاضي. كما أن قوله عليه السلام: «تَعاهُدَ»، يتنافى مع ما يسمى بـ”التفتيش المستمر”، الذي تم ابتداعه مؤخرا بالمخالفة لقانون السلطة القضائية الذي استوعب مفهوم التعاهد؛ فقرر  أن يكون التفتيش على أعمال القضاة “دوريا”، بنصه على أنه: “يجب إجراء التفتيش مرة على الأقل كل سنة، ويجوز أن يكون مفاجئا في أي وقت” (مادة 93).  بيد أنّ الذي يتم التركيز عليه واقعا – وتهدر به إمكانات الهيئة – هو الشق الأخير من هذا النص؛ أي الشق الجوازي، أما الشق الوجوبي فهو شبه ميِّت منذ صدور القانون؛ لأسبابٍ ثلاثة:

أولها: عدم توفير الإمكانات المادية لهيئة التفتيش؛ فهي منذ إنشائها – وحتى 2013م – تابعة لوزير العدل، ثم أصبحت تابعة لرئيس مجلس القضاء الأعلى، وتشتت مخصصاتها بين ثلاث جهات (الوزارة، مكتب النائب العام، المجلس)؛ فـ”تفرق دمها بين القبائل”!!! وعندما طُرحت هذه الإشكالية على رئاسة الجمهورية سنة 2017م تم توجيه وزارة المالية باعتماد مبلغ (10،000،000) عشرة ملايين شهريا لهيئة التفتيش القضائي؛ لمواجهة “تكاليف النزول الميداني” دون غيرها، ولم تصرف المالية منها سوى النصف، وحتى ذلك النصف لم يعد مخصصا للنزول الميداني، بل تحول بقدرة قادرة لمواجهة كل متطلبات الهيئة من أجهزة، وقرطاسية، ودورات، ومؤتمرات… إلخ، وما عاد يصرف للهيئة من المجلس سوى مرتبات وحوافز القضاة والعاملين الشهرية!!

السبب الثاني: قلة الكوادر البشرية من المفتشين الأكفاء، فحتى لو توفرت الإمكانات المادية في فترة من الفترات، كما كان يحدث إذا تولى الوزارة وزير جيد، فقد كانت الإمكانات البشرية تقف عائقا أمام تنفيذ النص؛ لذا كانت تستمر الدورة التفتيشية – بمن توفر من مفتشين – ما بين سنتين إلى ثلاث؛ لهذا لم تنفذ سوى ثلاث دورات تفتيشية كاملة خلال العقود الثلاثة المنصرمة، كان آخرها بين عامي 2013 – 2014م، بصرف النظر عن مدى سلامة تقييم المفتشين للقضاة في تلك الدورة.

السبب الثالث: الكثرة غير المدروسة لعدد القضاة؛ فعدم التشخيص السليم لمشكلة “تراكم القضايا”، ومشكلة “تعثرها”، ومشكلة “إطالة آماد التقاضي”، تم التوجه المطَّرد لمعالجتها بزيادة عدد القضايا؛ فجاءت النتائج معكوسة؛ فقد سبق سرد الخصال التي يرى عليه السلام لزوم توافرها في من يتولى القضاء، مؤكدا بعدها بقوله: «وأولئك قليلٌ»، وبالتالي فإن أي زيادة في الكَمِّ يقابلها نقص في الكَيْفِ. ومما زاد دواعي الحاجة إلى أعداد أكبر من القضاة: التوسع في إنشاء المحاكم الخاصة بزعم “التخصص”، وفي المحاكم العامة بحجة “تقريب العدالة”، ونحو ذلك من العناوين البراقة[26].

رابعاً: قوله: “قضائِهِ”:

أي تعاهَدَ ما يصدر عن القاضي من أحكام في الخصومات التي تعرض عليه، فقد بيَّن عليه السلام بهذا محل التعاهد والمراقبة؛ وهو “قضاء القاضي”. وفي قوله عليه السلام: «أكثرْ تَعاهُدَ قضائِهِ»، إشارة واضحة لمبدأ التفتيش على أعمال القاضي، وإلى أن يدرك القاضي– وإن توافرت فيه خصال الكفاءة – بأنه تحت المجهر[27]، بيد أن التفتيش على أعماله ينبغي أن يقتصر أساسا على «قضائِهِ»، خاصة أن الدستور اليمني قد قَصَرَ ولاية المحاكم على “الفصل في جميع المنازعات والجرائم” (مادة 150)؛ أي على العمل القضائي، غير أن القوانين التنظيمية والإجرائية القائمة قد حَمَّلتْ القضاة بالإضافة إلى ذلك، أعمالا “ولائية”، وأعمالا “إدارية” أيضا؛ لهذا كان لابد للقائمين على هيئة التفتيش القضائي من مراعاة الوضع القانوني القائم دون التفريط في الأصل العام، المتمثل في: «تَعاهُدَ قضائِهِ»؛ فجاء “تقرير الكفاءة” الأساس – المعتَمد لدى الهيئة (نموذج رقم/1) – مُقَسِمًا جوانب تقييم كفاءة القاضي إلى جانبين: إداري، وقضائي. وقَسَّم الجانب القضائي إلى قسمين أيضا: مسلكي، وفني، وذلك بإعمال لائحة الهيئة التي تقضي بأن: “توزع درجات الكفاءة المائة على النحو الآتي: 15%  للجانب الإداري.  و85% للجانب الفــني، وتوزع درجات كل جانب على العناصر التي تندرج تحته بحسب أهمية كل عنصر” (مادة 24)،  إلا أن هذا النموذج – وغيره من نماذج التقييم الستة – قلَّما رأى النور؛ للأسباب الثلاثة السالف ذكرها تحت قوله عليه السلام: «تَعاهُدَ».

خلاصة ما سلف بشأن توافر الركن الثاني (الإكثار من تعاهد قضاء القاضي)؛ أنه عليه السلام يشير بهذا الركن إلى أنّ حسن اختيار القاضي (الركن الأول) لا تنتهي به مسئولية من اختاره للحكم بين الناس، لأن القاضي أولا وأخيرا إنسان وبشر، ومن ثم فتوافر الخصال المطلوبة فيه عند الاختيار لا يضمن استمرار سلامة سلوكه مستقبلا، بل لابد معها من المراقبة والحذر خشية انحراف سلوكه عن النهج القويم[28]؛ خاصة أن طبيعة عمله تجعله عرضة للضغوط المعنوية والإغراءات المادية؛ لهذا – وكما سيأتي – أعقبه بما يقرر لزوم قيام الركنين الأخرين.

فقضاء القاضي – لا سواه – هو الذي يقرر سلامة أدائه من عدمها، وهو الذي يقرر أيضا صواب ما نُقِل  عن القاضي من عدمه، سواء كان الناقل شاكيا أو واشيا؛ أما الاعتماد بشكل أساسي على التفتيش المفاجئ (الشق الجوازي) فمحل نظر كبير، خاصة أن تم إجرائه بالمخالفة للائحة الهيئة؛ لأنها تقرر أن التفتيش المفاجئ  إنما ينْصَبُّ فقط على “أعمال وسلوك القضاة… الذين تشير تقارير كفاءتهم إلى مخالفات إجرائية، أو  الذين تقتضي  الشكاوى المقدمة ضدهم البحث ميدانياً للتأكد من صحتها” (مادة 20/ب). ففي الحالة الأولى: يجب أن يسبقه تفتيش دوري (الشق الجوبي). وفي الحالة الأخرى: يجب أن تسبقه شكوى مستوفية لشروط قبولها وفقا للائحة الهيئة (مادة 45)، أي أن التفتيش المفاجئ – في جميع الأحوال – إنما يكون على أشخاص بعينهم، أما إجرائه بصورة جماعية – على نحو ما يحدث – فهو مجرد هَدْر لإمكانات الهيئة، المتواضعة أساسًا.

الركن الثالث
توفير احتياجات القاضي المادية

استُخلِص هذا الركن من أمْرِهِ عليه السلام واليَهُ، بقوله: «وأفْسِحْ له في البَذْلِ ما يُزيحُ عِلَّتَهُ، وتَقِلُّ معه حاجَتُهُ إلى النَّاسِ». والأمر بهذه الصيغة يتضمن مسألتين أساسيتين؛ أولهما: صفة وطبيعة العطاء الذي ينبغي للقاضي. والآخر: قَدْرُ ذلك العطاء، ونستعرضهما في ما يلي:

أولا: صفة وطبيعة ما ينبغي للقاضي من عطاء:

وتظهر من قوله عليه السلام آمرا واليه: «أفْسِحْ له في البَذْلِ»، والجدير بالتنويه هنا: أنه لم يقل: “اصْرِف له” أو “امنحه”، ونحو ذلك من الألفاظ التي نستخدمها في عصرنا؛ لعدم إدراكنا طبيعة الرسالة السامية المنوطة بالقاضي، بل قال: «أفْسِحْ له»، ولهذا دلالته ولا شك:

  • ففعل الأمر: “أفْسِحْ”، مشتق من مادة “فَسَحَ”؛ قال ابن فارس: الفاءُ والسِّينُ والحاءُ كلمةٌ واحدةٌ، تدلُّ على سَعَةٍ وَاتِّسَاعٍ. والْفَسِيحُ: الْوَاسِعُ[29]؛ أي أن مقصوده عليه السلام ليس مجرد العطاء، بل العطاء الواسع.
  • أما “البَذْلُ”: فهو نقيضُ المَنْعِ، وكلُّ من طابَت نَفْسُهُ لشيءٍ فهو باذلٌ[30]. يُفهم من ذلك أن طبيعة عمل القاضي تقتضي أن يُعطى عطاًء واسعًا، بل وعن طِيْبِ نفس من المُعْطي، وهذا أمر يتفق ومنطق الأشياء؛ فمتى ما كان المال موفورا للقاضي من الطرق المشروعة بلا وَجَلِ ولا مِنَّة، لا تبقى لديه حاجة للمال تحمله على طلبه من الطرق غير المشروعة[31].

ثانياً: قَدْرُ ما يجب أن يعطى القاضي:

لم يحدد عليه السلام ذلك القدر بمبلغ معيّن، وهذا أمر الطبيعي؛ لأنه لا يضع هنا حكما وقتيا، بل يقرر قاعدة عامة، ينبغي بجميع الولاة اعتمادها؛ فبعد أن أمر بـ”السعة في البذل”؛ ولأن ذلك العطاء لا يمثل أجرًا مقابل عمل القاضي؛ فهو – كما سلف القول – يؤدي رسالة ولا يقوم بوظيفة، وبالتالي ولكي يؤدي تلك الرسالة كما ينبغي شرعا وعقلا ينبغي تحصينه من الوقع في الزلل تحت ضغط الترغيب أو الترهيب؛ لأن استغناء القاضي ماديا يحصنه عن الميل لأي من المتخاصمين، والعكس بالعكس[32]، ولأن المسألة تختلف زمانا ومكانا؛ لكل ذلك وضع عليه السلام ضابطا لقدر تلك السعة وذلك البذل؛ فرَبَطَ ذلك العطاء بتحقيق أمرين:

أولهما: قوله: «ما يُزيحُ عِلَّتَهُ، وتَقِلُّ معه حاجَتُهُ إلى النَّاسِ». فـ”يُزيحُ”، مشتقة من “الزَّيْح”: قال ابن فارس: الزَّاءُ وَالياءُ والحاءُ أصْلٌ واحدٌ، وهو: زَوالُ الشَّيْءِ وتنحِّيهِ. يُقَالُ زَاحَ الشَّيْءُ يَزِيحُ، إِذَا ذَهَبَ ; وَقَدْ أَزَحْتُ عِلَّتَهُ فَزَاحَتْ، أي ذَهَبَتْ[33]. والعِّلَّةُ: مِنْ “عَلَّ”؛ العَيْنُ وَاللامُ أصولٌ ثلاثَة صحيحة: أحدُها: تَكَرُّرٌ أَوْ تِكْرِيرٌ، والآخَرُ: عائِقٌ يَعُوقُ، والثَّالث: ضَعْفٌ فِي الشَّيْءِ. فالأول العَلَلُ، وهيَ الشَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ؛ يقالُ عَلَلٌ بَعْدَ نَهَلٍ.  والآخَر الْعِلَّةُ، وهي حَدَثٌ يَشْغَلُ صَاحِبَهُ عَنْ وَجْهِهِ. والأصل الثالث الْعِلَّةُ: وهي المرَضُ، وصاحبها مُعْتَلٌّ.

وظاهر أنّ مقصوده عليه السلام هو المعنى الثاني؛ أي أوسع للقاضي في البذل على نحو يُزيل أو يُذهبُ عنه ما يشغله، بحيث يتمكن من أداء رسالته دون انشغال ذِهْن أو قَلَق خاطر.

الأمر الآخر: قوله: «وتَقِلُّ معه حاجَتُهُ إلى النَّاسِ»، فلا يكفي أن يزيل ذلك العطاء مشاغل القاضي النفسية والذهنية، بل ينبغي أيضا أن يكون ذلك العطاء من السِّعة على نحو لا يحتاج معه القاضي لأحد مِن النّاس؛  لأنه إن احتاج لهم صار عدله وحيدته واستقلاله رَهْنُ بمن يشبع حاجاته.

فما مدى توفير إمكانات القاضي المادية في عصرنا؟

ألْحق المقنن اليمني بقانون السلطة القضائية، جدولا خاصاً بـ”مرتبات وبدلات أعضاء السلطة القضائية”، صحيح أن المبالغ الواردة فيه، تزيد عما هو مخصص – رسميا – للعاملين بمؤسسات الدولة الأخرى، بيد أنها لا تفي بحاجات القاضي المعتادة، ناهيك عن تحصينه من الإغراءات، هذا عندما اعتمد ذلك الجدول سنة 2000م، أما الآن فما عاد يصل حتى حد الكفاف!!

وأيّا كان الحال فإنّ مقارنة ما يعطى القاضي بما يعطاه غيره، يرجع إلى عدم إدراك طبيعة عمله، وإلى سيطرة مفهوم كون “ولاية القضاء مجرد وظيفة”، كما أن عدم التحري في شروط الولاية القضائية، والتوسع في إنشاء المحاكم، قد فتح الباب واسعا – كما سلف القول – لاستقطاب أعداد كبيرة إلى سلك القضاء؛ فصار إعطاء القضاة ما يكفيهم – لا ما يغنيهم – أمراً ثقيلا على السلطة التنفيذية.

أخيرا لا يفوتنا التنويه هنا بأن لزوم توفير عطاء القاضي، يقتضي – ومِنْ بابٍ أولَى – توفير ما يعينه على أداء رسالته من: مَقَر، ومَركوب، وجُند، وكَتبة، وموظفين، وأدوات مكتبية، وقرطاسية، ونحو ذلك، وأن يتم توفير كل هذا وفقا للمبدأ نفسه؛ وهو “السعة في البذل”، مراعاةً لطبيعة القضاء كرسالة إنسانية؛ فوجود من  يفصل شجار المتنازعين، ويقطع مواد خصوماتهم، ويُوصِّل كُلٍّ ذي حق لحقه “من أهم القواعد الشرعية وأعلاها بالمحافظة والمراقبة”[34].

 

الركن الرابع
تحقيق حصانات القاضي

هذا الركن ظاهر بجلاء من أمره عليه السلام لِوالِيِهِ، قائلا: «أعْطِهِ من المَنْزِلَةِ لديكَ ما لا يَطْمَعُ فيه غَيْرُهُ من خاصَّتِكَ؛ ليأْمَنَ بذلك اغْتيالَ الرِّجالِ له عندك».

وقبل الحديث عن شرح ألفاظ هذا الأمر، ولمزيد من بيان المقصود به، نُذكِّر بما ورد في الموجهات العامة للعهد التي وجَّه بها أمير المؤمنين والِيَهُ، محذرا إياه من مراعاة رضى الخاصة، بقوله: «… وليسَ أحَدٌ مِن الرعيِّة أثقلُ علَى الوالي مَؤُونَةً في الرَّخاءِ، وأقَلَّ مَعونَةً لهُ  في البَلاء، وأكْرَهُ للإنصافٍ، وأسأَلُ بإلحافِ، وأقلُ شكراً عند الإعطاءِ، وأبطأَ عُذْراً عند المَنْعِ، وأضعفُ صَبْرا عند مُلِمّاتِ الدَّهْر مِنْ أهْلِ الخاصَّةٍ». لما كان هذا حال الخاصة مع الوالي نفسه، فكيف حالهم مع القاضي؟ وأنَّى للأخير أن يؤدي رسالته – وركيزتها “النهي عن المنكر” – في ظل كُرْه الخاصة للإنصاف؛ لهذا – عندما وصل إلى الشأن القضائي – أمره عليه السلام واليه قائلا له في عبارة جامعة مانعة: «وأعْطِهِ من المَنْزِلَةِ لديكَ ما لا يَطْمَعُ فيه غَيْرُهُ من خاصَّتِكَ؛ ليأْمَنَ بذلك اغْتيالَ الرِّجالِ له عندك».

يقول الإمام يحيى بن حمزة في شرحه لهذا الأمر: أي اعطه “من رفع المكانة وإشادة المنزلة من جهة نفسك، ما لا يطمع فيه أحد من الغاية في السعاية به إليك”[35].

ويقول محمد جواد مغنية بهذا الشأن: “فإذا رأى الناس منك الاحترام والإكبار للقاضي هابوه وأطاعوه وكفوا ألسنتهم عن السعاية ضده عندك”[36].

ويقول السيد عباس موسوي: على الوالي أن يقرب القاضي منه “درجة تمنع غيره من الناس – ولو كان من خواص الوالي – أن يطمع في الطعن فيه أو النيل منه؛ فإن القاضي عندما يرتاح إلى وضع الوالي منه وأن لا أحد يستطيع أن يغري قلبه عليه يحكم عندها بالحق ويقضي بالعدل”[37].

ويقول محمد باقر الناصري: “ويجب توفير الاحترام الشخصي للحكام خاصة عند الولاة؛ فإن ذلك مدعاة لحواشي الولاة وخواصهم من عدم التدخل في شئون القضاء أو التأثير على القضاة، كما أن من عوامل استقامة القضاة والتزامهم بالحق هو تأمين ظهورهم من عدم قبول الوشاية عليهم؛ لأن القاضي متى ما أمن ذلك سار على الحق والتزم به مهما كان المحكوم به وجيها عند القاضي”[38].

كل ما ذكره هؤلاء، هو معنى قوله عليه السلام بعدها: «ليأْمَنَ بذلك اغْتيالَ الرِّجالِ له عندك»؛ فـهل ثمة حصانة للقاضي أسمى وأقوى من هذه الحصانة؟!! وهل يمكن توفير مثلها في عصرنا؟

للإجابة على هذا التساؤل، نقول: إنّ توسع الدولة، وكثرة عدد القضاة، يجعل من العسير على الوالي – ومن في حكمه – أن يطبق هذا الأمر حرفيا، لكن العمل بمضمونه يمكن أن يوفر للقضاة منزلة قريبة من تلك المنزلة، أو على الأقل مكانة محترمة في نفوس الرعيّة، بتكريس مكانة القضاء عموما؛ وذلك عن طريق حزمة من الإجراءات العملية والقانونية، أهمها:

أولهـا: عودة رئيس الجمهورية لرئاسة مجلس القضاء الأعلى، بصفته رئيسا للدولة، لا رئيسا للسلطة التنفيذية، وهذا يقتضي ابتداء أن يكون مستقلا، لا ينتمي لأي تنظيم سياسي؛ فتركه لهذه المهمة يعني أن القضاء لم يعد من أولوياته كرئيس للدولة، بل يمثل تنصلا عن مسئولية الدولة تجاه القضاء، أما الاحتجاج باستقلال القضاء، فليس صحيحا؛ لأنه من يتولى سلطة تعيين القضاة وترقيتهم وتقاعدهم، بما في ذلك رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى.

الثاني: أن يتم تكريس مفهوم كون القضاء مؤسسة دستورية تقف على قدم المساواة مع المؤسستين التشريعية والتنفيذية، لا تابعة لهذه أو تلك؛ إذ تستمد وجودها وكيانها من الدستور ذاته، لا من القانون.

الثالث: إعادة النظر في النهج الإعلامي والتثقيفي القائم، بحيث يُراعي عند رسم السياسة العامة للدولة بهذا الشأن، وضع الأسس والضوابط العامة التي يلزم اتباعها للإعلام القضائي، وأهمها:

  1. توعية المواطن باستمرار بأهمية وقدسية القضاء، وبالظروف الصعبة المحيطة بالعمل القضائي.
  2. عدم المساس بهيبة القضاء، والحرص على إعمال مبدأ استقلال القاضي والقضاء.

الرابع: تفعيل النصوص الخاصة بالحصانات المقررة في الدستور والقانون، والتي نوجزها في ما يلي:

  1. عدم القابلية للعزل المقررة في المادة (151) من الدستور، سواء العزل حقيقة أو حكما؛ تحت مسمّى “الاستبعاد” أو “الاستغناء”، دون أدنى تحقيق أو محاسبة، مما يجعل ذلك عزلا سكوتيا.
  2. عدم القبض أو الحبس احتياطيا، إذ ينص القانون على أنه: “في غير حالات التلبس لا يجوز القبض على القاضي أو حبسه احتياطيا إلا بعد الحصول على إذن مجلس القضاء الأعلى…” (مادة 87 سلطة قضائية)، ومع ذلك فالانتهاكات لهذه الضمانة – بل وتفاقمها – لا تخفى على كل ذي بصر وبصيرة.
  3. عدم رفع الدعوى الجزائية إلا بإذن: فالقانون صريح في أنه: “لا يجوز رفع الدعوى الجزائية على القضاة وأعضاء النيابة العامة إلا بإذن من مجلس القضاء الأعلى، بناء على طلب النائب العام…” (مادة 25 إجراءات)، ومع ذلك فقد صار الحصول على إذن كهذا يتم بأيسر الطرق، ودون تَحَقُّق فِعْلِي من جدية الدعوى الجزائية المزمع رفعها على القاضي.

وتجدر الإشارة إلى أن هدفه عليه السلام من توفير هذه الحصانة ليس شخص القاضي، بل توفير الضمانات للمتقاضين؛ فإيجاد الحماية الكافية للقضاة، يوفر استقلالية القضاء وحماية القضاة من التأثير الخارجي.

ختاماً: يتبين مما سلف أن تطبيق مضامين ومفاهيم عهد الإمام علِيٍّ عليه السلام في عصرنا وفي كل عصر، أمر ممكن إن وجدتْ الإرادة، وتوافرت الإدارة؛ بدءً بتغيير المفاهيم السقيمة السائدة في الأذهان، وترسيخ المفاهيم القويمة – التي جلاها لنا العهد العظيم – بفرضها على أرض الواقع، عن طريق تغيير السياسة العامة القائمة بشأن طبيعة القضاء ودوره، وإعادة النظر في المنظومة القانونية الأساسية للقضاء، المتمثلة في: قانون القضاء (السلطة القضائية)، وقانون التقاضي (مرافعات، إثبات، تنفيذ)؛ فبهذا فقط يمكننا تغيير المعطيات القائمة بمعطيات جديدة صحيحة.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل

[1]  د. موفق مجيد ليلو: ظواهر أسلوبية في عهد الإمام علي إلى مالك بن الأشتر، مؤسسة علوم نهج البلاغة – العراق، الطبعة الأولى 2017م، ص19.

[2]  الأمر في اللغة: نقيض النهي، وأمَرَه: كلفّه شيئا؛ لأن الأمر طلبٌ لإيقاع الفعل، والنهي طلبٌ لترك إيقاعه، وعرفه ابن فارس بقوله: “الأمر عند العرب: ما إذا لم يفعله المأمور سًمي عاصيا”. والصيغتان (الأمر والنهي) عند البلاغيين: طلب يصدر من أعلى لأدني؛ أي من رئيس لمرؤوس.

[3] د. موفق مجيد ليلو: المرجع  السابق، ص14.

[4]  د. موفق مجيد ليلو: المرجع  السابق، ص17.

[5]  تراجع بهذا الشأن الدراسة الموسومة بـ”أسس وقواعد وضع السياسة العامة للارتقاء بالأداء القضائي”، في كتابنا “دراسات في الشأن القضائي والتشريعي”، ص11 وما بعدها، وكذا الدراسة الخاصة بـ”ضمانات الولاية القضائية”، المرجع نفسه، ص74 وما بعدها.

[6]  قال تعالى: ﴿يا داوودُ إنّا جعلناكَ خَلِيَفَةً ِفي الأرضِ فاحْكُمْ بَيْنَ النَاِسِ  بِالْحَقِ﴾ [ص: 26]، وقال مخاطبا نبيه الكريم سيدنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إنّا أنزَلنا إليكَ الكِتابَ بالحقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَاِسِ بِما أراكَ اللهُ ولا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصيماً﴾ [النساء: 105] (للتفاصيل بهذا الشأن يراجع للكاتب: “دراسات في الشأن القضائي والتشريعي”، الدراسة الخاصة بـ”أ سس وقواعد وضع السياسة العامة للإرتقاء بالأداء القضائي”، الأساس الأول، ص11 وما بعدها).

[7] المقصود بـ”المؤسسة القضائية”: ليس المحاكم– التي يُحمِّلها الجميعٌ وزر التردي القضائي– فقط، بل مجموع الهيئات المكونة لما يُعرف بـ”السلطة القضائية”؛ فيدخل في ذلك أيضا ومن باب الأولى: مجلس القضاء الأعلى، التفتيش القضائي، النيابة العامة، المعهد العالي للقضاء، كما يدخل في ذلك أيضا الأجهزة المساعدة للسلطة القضائية، وتتمثل في وزارة العدل (للتفاصيل بهذا الشأن يراجع للكاتب: “دراسات في الشأن القضائي والتشريعي”، الدراسة الخاصة بـ”أسس وقواعد وضع السياسة العامة للارتقاء بالأداء القضائي”، الأساس الثالث، ص30 وما بعدها).

[8] نظرا لأهمية هذه الخصال الأربع عشرة، فسوف نفرد لها دراسة خاصة مستقلة.

[9] يفهم من ذلك أن “متوسط” الكفاءة لا يصلح لمباشرة مهمة الحكم بين الناس، ومن بأب أولى من هو “دون المتوسط”.

[10] الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي (شرح نهج البلاغة)، تحقيق خالد بن قاسم بن محمد المتوكل، إشراف الأستاذ عبدالسلام بن عباس الوجيه، مؤسسة الإمام زيد بن على الثقافية، الطبعة الأولى 2003م، المجلد الخامس، ص2541.

[11] يراجع للكاتب بهذا الشأن: دراسات في الشأن القضائي والتشريعي، الدراسة الموسومة بـ”أولويات العمل للإصلاح القضائي”، ص154، وكذا المقترح بـ”مشروع قانون بديل لقانون السلطة القضائية النافذ، ص354.

[12] الأمام يحي بن حمزة: الديباج الوضي، المرجع السابق، ص2541.

[13] مقدمة ابن خلدون: تحقيق د. علي عبدالواحد وافي، الجزء 2، ص 737.

[14] إجراءات التنفيذ في أكثر الدول منوطة بالمؤسسة التنفيذية، ممثلة غالبا بإدارة مختصة في وزارة العدل، ويقتصر دور قضاة التنفيذ على الفصل في منازعات التنفيذ فقط (للتفاصيل يراجع كتابنا: منازعات التنفيذ الجبري، ص40 وما بعدها).

[15]  فتراكم القضايا مجرد عَرَضٍ ناجم عن أمراض عديدة؛ تشريعية، وإدارية، واجتماعية، وأخلاقية، واقتصادية، وأمنية.

[16] يراجع للكاتب بهذا الشأن: دراسات في الشأن القضائي والتشريعي، الدراسة الخاصة بـ”أ سس وقواعد وضع السياسة العامة للارتقاء بالأداء القضائي”، الأساس الثامن، ص70.

[17]  محمد باقر الناصري: مع الإمام علي في عهده لمالك الأشتر، دار التعارف – بيروت، الطبعة الأولى 1980م، ص48.

[18] في رواية: “مجالسة العلماء”، ولعل “المدارسة” أقرب؛ لأنها تقتضي المجالسة أيضا، بخلاف “المجالسة”، فقد تكون لغرض آخر غير المدارسة. والله أعلم. هذا وتجدر الإشارة إلى أن الأمر بمدارسة العلماء لا يقتصر على علماء الدين فقط – كما قد يتبادر إلى أذهان البعض– بل المعنيون هنا “العلماء الذين كرسوا حياتهن للعلوم النافعة للبشرية الموصلة لرضاء الله وصلاح الدارين” مطلقا (محمد باقر الناصري، المرجع السابق، ص63)، بدليل قوله عليه السلام بعدها: «… في تثبيت ما يصلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك»؛ فهذه هي العلة من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء.

[19]  الإمام يحيى بن حمزة: الديباج الوضي، المرجع السابق، ص2542.

[20]  يراجع للكاتب بهذا الشأن: دراسات في الشأن القضائي والتشريعي، ص16.

[21]  يراجع للكاتب بهذا الشأن: دراسات في الشأن القضائي والتشريعي، الدراسات الخاصة بـ: “ضمانات الولاية القضائية”، ص74 – 83، و”شروط تولي القضاء”، ص99 وما بعدها، و”المعهد العالي للقضاء بوابة المؤسسة القضائية”، ص136 وما بعدها.

[22] الإمام يحي بن حمزة: الديباج الوضي، المرجع السابق، ص2542.

[23]  وعددها (6) ستة نماذج تقارير، و(3) ثلاثة نماذج استمارات.

[24]  لأن التعيين في المحكمة الأعلى يتم وفقا لدرجة المراد تعيينه، على افتراض أن الترقية إلى درجة أعلى يتم وفقا لتقدير الكفاء ومضي المدة (مادتان 61، 62 سلطة قضائية)، إلا أن ذلك غير مطبق على أرض الواقع، فنظرا لتغييب الركن الثاني (تعاهد قضاء القاضي) يتم إهمال المادة (62) وإعمال المادة التي قبلها؛ بالاقتصار على مضي المدة وهي “سنتين على الأقل”، فإذا كان إهمال المادة (62) خطأ كبيرا، فإن إعمال المادة التي قبلها بمعزل عنها يعد خطيئة كبرى؛ لأن أداء القاضي الصالح يتدنى ولا شك؛ إذ يرى زميله الطالح قد ترقى معه؛ أما القاضي الطالح فيزداد غيَّا.

[25]  المنجد في اللغة: مادة “عهد”، ص535.

[26]  للتفاصيل بشأن السببين الأول والثاني يراجع للكاتب: دراسات في الشأن القضائي والتشريعي، الأساس السادس من “أسس وضع السياسة العامة للارتقاء بالأداء القضائي”، ص59 وما بعدها. وبشأن السبب الثالث تراجع الدراسة المسمّاة: “ولاية القضاء بين الكم والكيف” ، ص107 وما بعدها.

[27]  محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة (محاولة لفهم جديد)، دار العلم للملايين – بيروت، ط 1، 1973م، الجزء 4، ص77.

[28]   محمد باقر الناصري: مع الإمام علي في عهده لمالك الأشتر، المرجع السابق، ص88.

[29]   مقاييس اللغة: لابن فارس ، دار الفكر ، طبعة 1399هـ – 1979م، مادة “فَسَحَ”.

[30]  العين: للخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق د مهدي المخزومي، ود إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، مادة “بَذَل”.

[31]   محمد باقر الناصري: مع الإمام علي، المرجع السابق، ص88.

[32]  محمد باقر الناصري: المرجع نفسه. وبالمعنى ذاته السيد عباس موسوي: شرح نهج البلاغة، دار الرسول الأكرم، ط1 1418هـ، الجزء 5، ص57..

[33]   مقاييس اللغة: لابن فارس ، دار الفكر ، طبعة 1399هـ – 1979م، مادة “زًيَحَ”.

[34]  الإمام يحيى بن حمزة: الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي (شرح نهج البلاغة)، تحقيق خالد بن قاسم بن محمد المتوكل، إشراف الأستاذ عبدالسلام بن عباس الوجيه، مؤسسة الإمام زيد بن على الثقافية، الطبعة الأولى 2003م، المجلد الخامس، ص2541.

[35] الديباج الوضي، المرجع السابق، ص2544. والمعنى الآخر عنده لقوله: “ما لا يطمع فيه أحد من خاصتك”: “ما يعود إلى نفس المعطي؛ أي أعطه من الإنصاف ما لا يطمع فيه أحد من الخاصة؛ فيكون له مثل حقه”. والمعنى الأول أقرب وهو ظاهر من بيانه عليه السلام العلة من رفع مكانة القاضي بقوله: “ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك”.

[36]   في ظلال نهج البلاغة، المرجع السابق، ص78.

[37]   شرح نهج البلاغة: المرجع السابق، الجزء 5، ص56.

[38]  مع الإمام علي في عهده لمالك الأشتر، المرجع السابق، ص88..