إشكالية إثبات الجرائم التي تقع بواسطة الهاتف المحمول
الأستاذ. الدكتور
عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
الملخص العربي:
الهاتف المحمول في العصر ليس وسيلة تواصل فحسب، بل إنه الوسيلة التي يباشر الإنسان المعاصر عن طريقه كافة أعماله وتصرفاته ويحتفظ فيه بكافة بياناته ومعلومات وأسراره، ولشيوع الهاتف المحمول تقع جرائم عدة بواسطته الهاتف المحمول كالاختلاس والابتزاز والقذف والسب والتهديد وغيرها، وتثور إشكاليات عدة بشأن إثبات الجرائم التي تقع بواسطة الهاتف المحمول، وتظهر إشكاليات أخرى فيما يتعلق بضبط هاتف المتهم وتفتيشه ونطاق هذا التفتيش، وقد تمت الإشارة في هذا التعليق للمسائل العملية في إثبات الجرائم التي تقع بواسطة الهاتف المحمول.
الملخص الإنجليزي:
Cell-phone in era is not as communication instrument just, but instrument that human can do all of his work, attitudes with saving every single data and information. Based on commonness of cell-phone, many crimes will be occurred by it such as emblazonment, blackmail, libel, insult, threat …..etc. In addition, it has occurred many difficulties about proving the crimes that happen by the cell-phone. The importance of saving and inspection the cell-phone with extension of that inspection. We have already mention in this study of practical matters in proving crimes that happen by cell-phone.
مقدمة:
سوء استعمال الهاتف المحمول ظاهرة لا نستطيع انكارها، ومن مظاهر سوء استعمال الهاتف السب والقذف والتشهير فالابتزاز بواسطة المكالمات والتسجيلات الصوتية أو الرسائل النصية أو الرسائل بالواتس أو التيليغرام وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك إشكاليات في إثبات هذه الجرائم لاسيما تفتيش الهاتف المحمول الخاص بالجاني الذي يتضمن كافة البيانات الخاصة به الشخصية والعائلية وانتماءاته السياسية الفكرية والدينية وتعاملاته مع كافة أفراد المجتمع وغيرها من البيانات التي لا صلة لها ولا علاقة بالجريمة التي أرتكبها بواسطة الهاتف المحمول، وبما أن الموضوع من المستجدات التي يكثر الاحتياج لها في الواقع، فقد رأينا أن نشير إليها في سياق التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 16-1-2013م في الطعن رقم (44165)، الذي ورد ضمن أسبابه: (لما كان البين مما أورده الحكم المطعون فيه أنه لم يثبت لدى محكمة الموضوع أن المطعون ضده هو من أرسل رسالتين فيهما كلام بذيء من تلفونه المحمول إلى تلفون الطاعنة التي استندت في ادعائها على ما ورد في المذكرة الصادرة عن الشركة المشغلة للهاتف التي أفادت بأن الرسالتين الموجهتين إلى هاتف الطاعنة مصدرهما هاتف المطعون ضده إلا أن الشركة ذاتها المشغلة للهاتف قد ضعفت ذلك الدليل بما حررته في مذكرتها الموجهة إلى النائب العام بتاريخ... التي أفادت فيها أن الرسالتين مصدرهما هاتف المطعون ضده الا أنه بالإمكان إدخال الرسالتين عبر الإنترنت إلى تلفون الطاعنة عبر رقم المطعون ضده، وهو ما جعل الشعبة لا تُعمِل ذلك الدليل، لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال يضعف الاستدلال به، لذلك فإن النعي على الحكم المطعون فيه بالفساد في الاستدلال وتناقض أسبابه يكون في غير محله؛ لأن الموازنة بين الأدلة والأخذ بدليل معين دون دليل آخر لم تطمئن إليه المحكمة لا يعتبر من قبيل الفساد في الاستدلال)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: الهاتف المحمول هو أكثر الوسائل لارتكاب جرائم السب والقذف وغيرها من الجرائم الإلكترونية:
الهاتف المحمول أداة لإجراء اتصال هاتفي بهاتف آخر من خلال شبكة معينة، غير أن التطور التقني قد جعل هذا المدلول ضيقاً؛ فمن ناحية قد تطورت هذه الهواتف لتصبح هواتف «ذكية»، فعلى سبيل المثال فإنه إذا كان يمكننا أن نجد قائمة بأغلب الأرقام التي تم الاتصال بها مؤخراً من الهاتف المحمول العادي، فإن الهاتف الذكي يمكننا من الحصول على أغلب البيانات الخاصة بالشخص وأفراد عائلته واصدقائه، بما في ذلك رسائل البريد الإلكتروني والمواقع التي تم زيارتها وغيرها من البيانات من الشبكة التي تساعد في إجراءات التحقيق والمحاكمة.
ومن ناحية أخرى فإن الأجهزة المحمولة قد تنوعت استعمالاتها ووظائفها، ولم تعد مقصورة فقط على وظيفة الاتصال الهاتفي، بل اتسعت وظائفها لتشمل أجهزة: الكومبيوتر اللوحي والهواتف المحمولة والتي تجمع بين خواص الكومبيوتر الشخصي مع كونها هاتفاً مصحوباً بكاميرا. وهذه الأجهزة تعتبر أجهزة كومبيوتر بالمعنى الفني، فهي تمتلك وحدة معالجة مركزية وذاكرة ولوحة مفاتيح أو جزء لنقل الكلام، كما تتضمن شاشة أو سماعة أذن. ومثل أجهزة الكومبيوتر الأخرى فإن لديها ذاكرة عشوائية ولديها ذاكرة أخرى صلبة للتخزين، وتستخدم شركات الهواتف المحمولة نوعاً من وحدات التخزين هي عبارة عن جزءاً صلب من رقاقة الذاكرة؛ ولكنها مصممة بحيث إنها تحتفظ بالمضمون المخزن عليها بدون اتصالها بمصدر للطاقة.
ولما كان الهاتف المحمول قد تعددت وظائفه وإمكاناته واستعمالاته، على نحو أصبح مدلوله أوسع كثيراً من مدلول الهاتف بالمعنى الدقيق؛ فقد أصبح الهاتف المحمول السالف الذكر يقوم بوظائف متعددة فلم يعد مقتصراً على الاتصال التقليدي، ولذلك فان «الهاتف» يظل ملازماً للشخص، وبذلك يكون استخدام تعبير «الهاتف المحمول» دالاً على أغلب صور هذه الأجهزة المحمولة. ومن ناحية ثانية فإن أغلب الأجهزة الرقمية المحمولة -إن لم يكن جميعها- تتضمن وسيلة من وسائل الاتصال، فأجهزة الكومبيوتر اللوحي يمكن أن تتضمن شريحة للهاتف المحمول، أو شريحة للبيانات، أو إمكانية الاتصال بالإنترنت وإجراء محادثات هاتفية من خلال برامج التواصل الاجتماعي، ولذلك فإن تعبير «الهاتف المحمول» يصدق عليها كذلك. وأخيراً فإن الجدل الذى ثار في القضاء المقارن عن مدى جواز تفتيش الهاتف لضبط الجرائم التي تقع بواسطة ومدى جواز التوسع في هذا التفتيش، وبغرض بيان ما ورد في آراء الفقه وأحكام القضاء من حجج كانت تتصل جميعها بطبيعة عمل هذه الأجهزة، وكان ذلك بمناسبة ضبط الهواتف المحمولة بحوزة المتهمين وتفتيشها.(مدى دستورية تفتيش الهاتف المحمول كأثر للقبض- دراسة مقارنة، د. أشرف توفيق شمس الدين، ص٣).
الوجه الثاني: ماهية السب والقذف:
من المهم بيان ماهية جريمتي السب والقذف للوقوف على كيفية وقوعهما بواسطة الهاتف المحمول وكيفية إثباتهما.
وقد عرف قانون الجرائم والعقوبات السب في المادة (٢٩) التي نصت على أن: (السب هو إسناد واقعة جارحة للغير لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه قانوناً أو أوجبت احتقاره عند أهل وطنه، وكذلك كل إهانة للغير بما يخدش شرفه أو اعتباره دون أن يتضمن ذلك إسناد واقعة معينة)، فالسب كل لفظ يكون له معنى شائن أو يفهم منه التحقير أو القدح أو الاستهزاء بمن تم توجيه اللفظ إليه، وعلى هذا المعنى فإن السب لا يتضمن نسبة واقعة جارحة إلى الشخص تحتمل التصديق والتكذيب، فالسب كذب بين لا يحتاج إلى إثبات كمن يقول لغيره: يا حمار أو يا كلب يا خنزير.. إلخ فالثابت يقينا أن المسبوب ليس حماراٍ أو غيره، فهذه الألفاظ غير صحيحة أي كاذبة من غير حاجة إلى بينة؛ لأن الساب لا ينسب إلى المسبوب أي واقعة معينة تحتمل التصديق والتكذيب.
والسب والشتم في معنى واحد، فقد ورد في معاجم اللغة- أن الشتم: هو السب أو القبيح من الكلام. قال في لسان العرب: الشتم: قبيح الكلام وليس فيه قذف، والشتم: السب، شتمه يشتمه ويشتمه شتماً، فهو مشتوم.
وقد جاء في الحديث القدسي ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراه قال الله تعالى: يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني وما ينبغي له. أما شتمه فقوله: إن لي ولداٍ، وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني.
فالسب مجرد لفظ جارح يصدر عن الجاني إلى المجني عليه، في حين أن القذف هو نسبة واقعة إلى المجني عليه وهذه الواقعة تحتمل التصديق والتكذيب.
والسب والشتم بمعنى واحد، وهو التكلم في عِرض الإنسان بما يَعيبه، وهو مصدر سبه يسبه سبًّا؛ أي: شتمه، وقد ورد النهي عن السب في نصوص كثيرة منها قوله
تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58]، ففي هذه الآية زجر لمن يسيء الظن بالمؤمنين والمؤمنات، ويتكلم فيهم بغير علم، أو ينسب إليهم ما هم منه براء، أو يؤذيهم بأي نوع من أنواع الإيذاء، ومن فعل ذلك فقد ارتكب إثمًا عظيمًا، وجاء ببهتانٍ كبير.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: 112].
قال الفضيل- رحمه الله تعالى: «لا يحل لك أن تؤذي كلبًا أو خنزيرًا بغير حق، فكيف بإيذاء المؤمنين والمؤمنات؟!».
وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن السب؛ ففي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سِباب المسلم فسوقٌ وقتاله كفر).
قال الغزالي- رحمه الله تعالى: «إن السب والفحش وبذاءة اللسان مذموم ومنهي عنه، ومصدره الخبث واللؤم، والباعث عليه إما قصد الإيذاء، وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفسَّاق وأهل الخبث واللؤم؛ لأن من عادتهم السب»؛ (الإحياء: 3/121).
ولما كان السب مجرد تلفظ الساب على المسبوب بألفاظ جارحة، في حين أن القذف هو نسبة واقعة للمقذوف تحتمل التصديق والتكذيب، وبحسب المفهوم السابق للسب والقذف فإن السب يختلف عن القذف، فالقذف يعني نسبة واقعة تحتمل التصديق والتكذيب كمن يقول لغيره: يا زاني أو يا ابن الزنا فقد نسب القاذف إلى المقذوف واقعة تحتمل التصديق والتكذيب، ويكون القذف في هذه الحالة قذفا حدياً، كما قد يكون القذف تعزيرياً كما لو نسب القاذف إلى المقذوف واقعة غير الزنى ونفي النسب ولكن هذه الواقعة تحتمل التصديق والتكذيب كأن يقول القاذف للمقذوف: ياسارق أو ياقاتل أو يانصاب...إلخ، فهذه الوقائع تحتمل التصديق والتكذيب، فيصدقها بعض الناس ويكذبها بعضهم، فتثير الشكوك والمخاوف بين الناس وتقدح في سمعة المقذوفين في أوساط المجتمع، وينبني على التفرقة بين جريمة السب وجريمة القذف أن جريمة القذف بنوعيها الحدية وغير الحدية أخطر وأفظع من جريمة السب، لأنها تثير الشائعات والشكوك بين أفراد المجتمع، في حين أن السب كذب بين يلحق الأذى بالساب نفسه، فالمجتمع يحتقر الساب وليس المسبوب، وعلى هذا الأساس فإن عقوبة القذف أشد من عقوبة السب بحسب ما يذهب إليه الفقه الإسلامي، أما قانون الجرائم والعقوبات اليمني الأعمى فإنه لا يفرق بين القذف التعزيري وبين السب حسبما هو ظاهر في تعريف القانون اليمني للسب، حيث عرف السب في المادة(٢٩) بأن: (السب هو إسناد واقعة جارحة للغير لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه) فهذا التعريف يخلط بين القذف والسب، (التشريع الجنائي الإسلامي، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، ص ٦٣).
الوجه الثالث: أركان جريمتي السب والقذف:
للوقوف على كيفية ارتكاب جريمتي السب والقذف بواسطة الهاتف المحمول وكيفية إثباتها فإنه ينبغي الإشارة إلى أركان هاتين الجريمتين، وبيان ذلك كما يأتي:
اولاً: أركان جريمة السب:
قد تقع جريمة السب علانية وقد تقع جريمة السب بطريقة غير علنية، وبناءً على ذلك فإن السب يقوم على ركنين أساسين هما: الركن المادي والركن المعنوي، فالركن المادي: يتمثل في الآتي:
أ- القول الجارح: الذي يترتب على التلفظ به خدش الشرف أو الاعتبار بأي وجه ويكون واضحا أو جوهريا ينطوي على المساس بالشرف واعتبار المجني عليه حتى ولو اختلفت الوسيلة في التعبير عنها، وقد عبر قانون العقوبات المصري عن ذلك في المادة(306) التي نصت على أن: (أن كل سب لا يشتمل على أسناد واقعة معينة بل تتضمن بأي وجه من الوجوه خدشاً للشرف أو الاعتبار) فالسب لا يتضمن إسناد واقعة تحتمل التصديق والتكذيب، فالسب مجرد لفظ جارح كقول الساب للمسبوب: يا حمار يا كلب يا جحش يا حيوان...( شرح قانون العقوبات، د/محمود نجيب حسني صـ699 دار النهضة العربية).
ب- تحديد شخص المجني عليه: لا يتطلب أن تصدر عبارات السب في حضور المجني عليه أو أن تصل إلى علمه.
ج- العلانية في القول: فقد تقع جريمة السب غير علنية أي من غير حضور أشخاص غير الجاني والمجني عليه، كما تقع الجريمة بصورة علنية، فتتخذ العلانية في الأصل صورة إحدى الوسائل التي حددتها المادة (192) عقوبات يمني التي نصت على أنه: (يقصد بالعلانية في تطبيق هذا الباب الجهر أو الإذاعة أو النشر أو العرض أو اللصق أو التوزيع على الأشخاص دون تمييز بينهم في مكان عام أو مباح للكافة أو في مكان يستطيع سماعة أو رؤيته من كان موجوداً في مكان عام وذلك بالقول أو الصياح أو الكتابة أو الرسوم أو الصور أو أي وسيلة أخرى من وسائل التعبير عن الفكرة ويعتبر من العلانية مجرد التوزيع على الأشخاص دون تمييز بينهم ولو كان ذلك في مكان غير عام).
وعلى أساس ما ورد في هذا النص فإن السب أو القذف التعزيري إذا تم عن طريق الهاتف المحمول برسالة نصية أو رسالة مسجلة أو مكالمة موجهة من هاتف الجاني إلى هاتف المجني عليه فإنها تكون جريمة سب غير علنية، اما إذا قام الجاني بتوجيه الرسالة أو المكالمة من هاتفه إلى مجموعة في الواتس أو التيليغرام أو الفيس بوك أو غيرها من وسائل التواصل الاجتماعي فإن جريمتي السب والقذف التعزيري تكونان علنيتين،(شرح قانون العقوبات، د/ محمود نجيب حسني صـ699).
ويمكن توضيح طرق العلانية في القول والتي تتمثل في الجهر في مكان عام عن طريق معرفة كل من:
المكان العام/ هو المكان المطروق الذي يؤمه الناس بغير تمييز ويعتبر من الأماكن العامة الطرق العامة سواءً أكانت تربط بين المحافظات أو المراكز أو غيرها أو الشوارع والازقة.
المقصود بالجهر/ قد يكون بالقول أو بالصياح المقصود بالقول/ هو كل ما يتفوه به الإنسان من ألفاظ وعبارات. أما الصياح/ فهو كل صوت ولم يكن مركباً من ألفاظ واضحة، وبناء على ذلك فإن السب والقذف عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي يكون جريمة علنية. (جرائم العرض في القانون. د/عبد الحكيم فودة سنة1997م صـ417).أما الركن المعنوي للسب: فإن جريمة السب تكون عمدية، ولذلك لابد أن يتعمد الساب سب المجني عليه، فالركن المعنوي أو القصد الجنائي في السب يتمثل بعنصري العلم والإرادة، وبيان ذلك كما يأتي:
أ) العلم:
يتعين ثبوت علم المتهم بمعنى الألفاظ التي صدرت عنه وإدراكه ما يتضمن هذا المعني من خدش لشرف المجني عليه واعتباره، فإذا كانت هذه الألفاظ تحتمل معنيين أحدهما يمس الشرف والاعتبار وثانيهما لا يمسه، ويفترض في هذا العلم إذا كانت الألفاظ في ذاتها ”بحيث تفيد السب في ذاتها“ خاصة إذا كانت دلالتها العرفية تتضمن من المعاني ما يمس شرف من وجهت إليه وكان المتهم نفسه ينتمي إلى البيئة التي تقرر للألفاظ دلالتها.
ب)الإرادة:
يتعين أن تتوافر لدى الجاني الإرادة المتجهة إلى النطق بعبارات السب ويتعين أن تتوافر لدى الجاني ”إرادة الإذاعة“ أي الإرادة المتجهة إلى ذيوع عبارات السب وإتاحة العلم بها للجمهور أو الناس.
وقد صرح قانون الجرائم والعقوبات اليمني بأن دعوى السب لا تكون مقبولة في بعض الأحوال المحددة في المادة (293) التي نصت على أنه: لا تقبل دعوى السب في الأحوال الآتية :
أولاً: إذا كان نقدًا عمليًا لعمل أدبي أو فني مطروح للجمهور .
ثانياً: إذا كان صادرا ًمن شخص له سلطة الرقابة أو التوجيه في نطاق هذه السلطة وبالقدر الذي يكشف عن خطأ من وجه إليه السب في تصرفه وتوجيهه الوجهة الصحيحة .
ثالثاً: إذا كان القصد منه إبداء الرأي في مسلك موظف عام بشأن واقعة تتعلق بعمله الوظيفي وبالقدر الذي يفيد في كشف انحرافه .
رابعاً: إذا كان في شكوى مقدمه لمختص تتعلق بمسلك شخص في أثناء أدائه عملاً كلف به ويشترط أن تقتصر العبارات على وقائع تتعلق بالعمل الذي قدمت بشأنه الشكوى .
خامساً: إذا كان قد صدر بحسن نية عن شخص بقصد حماية مصلحة له أو لغيره يقرها القانون بشرط التزام القدر اللازم لهذه الحماية .
سادساً: إذا نشرت الأقوال أو العبارات لمجرد سرد أو تلخيص لما دار في اجتماع عقد وفقاً للقانون من محكمة أو مجلس أو هيئة أو لجنة لها اختصاص يعترف به القانون ما لم يكن قد صدر قرار بحظر النشر .
سابعاً : إذا صدرت الأقوال أو العبارات في أثناء إجراءات قضائية من شخص اشترك فيها بصفة قانونية كقاضٍ أو محامٍ أو شاهد أو طرفٍ في الدعوى، فما ورد في هذه المادة واضح بيد أن هناك من يؤول الفقرة الأولى تأويلاً فاسدًا حيث يقوم بسب الناس على أساس أن ذلك باب النقد المذكور في الفقرة (أولاً) التي نصت على أن: (أولاً: إذا كان نقداً عملياً لعمل أدبي أو فني مطروح للجمهور( المقصود بالعمل الأدبي والفني هي الأعمال الأدبية القصائد والروايات واللوحات الفنية، والمقصود بالنقد تقويم العمل الفني والادبي من قبل المتخصصين أهل الخبرة والاختصاص.
ثانياً: أركان جريمة القذف:
للقذف ركنان الركن المادي والركن المعنوي، فالركن المادي لجريمة القذف هو: القيام بإسناد واقعة معينة إلى آخر عن طريق القيام بأحد الأفعال الأتية: 1- التلفظ بأن المقذوف زان أو ابن زنى (قذف حدي) أو التلفظ في مواجهة المقذوف بأي من الفاظ القذف غير الحدي مثل: يا سارق يا قاتل يا فاسد يا كاذب يا نصاب يا آكل المال الحرام... إلخ، وقد يقع الركن المعنوي جهراً عن طريق الجهر بتلك الأقوال أو الصياح جهرًا في محفل عام أو طريق عام أو أي مكان آخر مطروق أو اذا حصل الجهر به أو ترديده بحيث يستطيع سماعه من كان في مثل ذلك الطريق أو المكان أو إذا إذاعته ونشره عن طريق الهاتف إلى وسائل التواصل الاجتماعي أو اللاسلكي أو بأية طريقة أخرى2- الفعل أو الإيماء علنيًا (أو إذا وقع في محفل عام أو طريق عام أو في مكان آخر مطروق اذا وقع بحيث يستطيع رؤيته من كان في مثل ذلك الطريق أو المكان3- الكتابة والرسوم والصور الشمسية والرموز أو أية طرق التمثيل علنية إذا وزعت بغير تمييز على عدد من الناس أو إذا عرضت بحيث يستطيع أن يراها من يكون في الطريق العام أو أي مكان مطروق أو إذا بيعت أو عرضت للبيع في أي مكان. ويشترط أن يكون القول أو الصياح علناً أو الفعل أو الإيماء أو الكتابة أو الرسوم أو......إلخ يوجب عقاب من أسند إليه أو يوجب احتقاره عند أهل وطنه.
- الركن المعنوي لجريمة القذف وهو القصد الجنائي: فيجب على كل من تلفظ أو صدر منه لفظ من أفعال القذف الحدي أو القذف التعزيري أن يثبت أنه لم يكن يعلم بمعنى تلك الألفاظ أو دلالة الأفعال الصادرة عنه.
الوجه الرابع: عقوبة السب والقذف:
حدد قانون الجرائم والعقوبات اليمني عقوبة السب وهي الحبس مدة لاتجاوز سنتين أو الغرامة حسبما ورد في المادة (292) التي نصت على أن: (كل من سب غيره بغير القذف يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنتين أو بالغرامة ولو كانت الواقعة المسندة للمجني عليه صحيحة) ومن خلال استقراء هذا النص يظهر أن القانون يعاقب على السب حتى لو كانت الواقعة المسندة للمتهم صحيحة قد وقعت بالفعل من المتهم بالفعل حتى لو أثبت الساب أن المسبوب قد ارتكب الواقعة التي سبه بها؛ لأن الغرض من التجريم والعقاب هنا هو حماية سمعة الأشخاص وحماية المجتمع من الإشاعات والبذاءة، فلو كانت الواقعة المسندة للمسبوب صحيحة لبادر الساب إلى إبلاغ الجهة المختصة بالدولة وتقديم الأدلة على ارتكاب المسبوب لها حتى ينال عقابه، فإذا لم يقم الساب بذلك وبدلا منه قام بسب المجني عليه فانه يستحق العقوبة المقررة للسب.
وفي السياق ذاته بينت المادة(289) من قانون الجرائم والعقوبات عقوبة القذف فقد نصت هذه المادة على أن: (كل من قذف محصناً بالزنى أو بنفي النسب وعجز عن إثبات ما رماه يعاقب بالجلد ثمانين جلدة حداً).
الوجه الخامس: السب والقذف عن طريق الهاتف المحمول:
الهاتف المحمول وسيلة من أهم وسائل التواصل بين الناس في العصر الحاضر يتم من خلالها نقل الألفاظ والكتابات والصور وغيرها من التعابير، فلا خلاف بشأن وقوع جريمتي القذف والسب عن طريقها اذا كان القول أو اللفظ قد صدر عن صاحب الهاتف بعلمه وإرادته ورضاه، فصاحب الهاتف مسؤول عن كل المكالمات أو الرسائل التي تصدر عن هاتفه حتى يثبت خلاف ذلك.
الوجه السادس: إثبات جريمتي القذف والسب التي تقع عن طريق الهاتف المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى:
كثيراً ما يتعرض بعض الناس للسب أو القذف أو المضايقة، باستعمال أجهزة الاتصالات سواءً أكان ذلك بواسطة التليفون أم جهاز الحاسب الآلي أم البريد الإلكتروني، أو بالرسائل الالكترونية، أم عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ومن المؤكد أن ذلك يعد جريمة سب أو قذف حسبما سبق بيانه، كما قد يشكل عقوبة تهديد أو ابتزاز أو تشهير أو غيرها من الجرائم المنصوص عليها في قانون الجرائم والعقوبات والقوانين الخاصة كقانون الاتصالات وقانون الجرائم الإلكترونية، وبناء على ذلك فإن ضبط الجرائم التي تقع عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي تخضع للقواعد العامة من حيث التحري عنها وضبطها والتحقيق فيها واجراءات المحاكمة.
ونظراً لحداثة هذا الموضوع فقد قامت دول كثيرة بوضع أدلة تفصيلية تتضمن كيفية وإجراءات الضبط والتحقيق والمحاكمة في الجرائم التي تقع بواسطة الهاتف المحمول، ففي مصر هناك دليل مبسط يتضمن كيفية إجراء محضر ضبط جرائم السب والقذف وغيرها التي تقع عن طريق الهاتف المحمول والجهة المختصة، إضافة إلى الإجراءات التي تتم في مباحث الإنترنت وسلطات النيابة العامة، وعنوان الإدارة العامة لتكنولوجيا المعلومات، وكيفية التواصل معها، وأرقام مباحث التليفونات العامة، وشروط إثبات الجريمة، وتقديم الشكوى أو البلاغ، وكيفية تعامل القانون معها وبيان ذلك فيما يأتي:
١ -كيفية إجراء عمل المحضر وما هي الجهة المختصة؟
إذا تم السب أو القذف عن طريق تطبيق (الفيس بوك) فيتم تحرير المحضر عن طريق مباحث الإنترنت، وهي الجهة الوحيدة المختصة بهذا الأمر، وإذا تم السب عن طريق تطبيق الواتس آب مرة أخرى عن ذات الشخص، يتم تحرير محضر في نفس الجهة ويتم قيده برقم ملحق الرقم الذي تم قيده سابقًا على هذا المحضر.
أما إذا تم السب عن طريق تطبيق (الواتس آب) بدون تطبيق (الفيس بوك) فيتم تحرير المحضر في مباحث الاتصالات فقط، وهي الجهة المختصة الوحيدة بهذا الشأن.
٢ -كيفية تحرير المحضر:
وهذا الأمر مهم جدًا فلابد أن يتم تحرير هذا المحضر عن طريق الشاكي فقط أو وكيله الخاص فقط وفي خلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر والدليل على هذا الكلام نص المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية، و لأن هذا الأمر خطير جداً سنذكر حكم محكمة نقض على هذا الأمر والتي قضت أن:
“إن المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية نصت على أنه لا يجوز أن ترفع الدعوى الجنائية إلا بناء على شكوى شفهية أو كتابية من المجني عليه، أو من وكيله الخاص إلى النيابة العامة أو أحد مأموري الضبط القضائي في الجرائم المنصوص عليها في المواد (١٨٥و٢٧٤و٢٧٧و٢٧٩و٢٩٣و٣٠٣و٣٠٦و٣٠٨) من قانون العقوبات، وكذلك في الأحوال الأخرى التي ينص عليها القانون ولا تقبل الشكوى بعد ثلاثة أشهر من يوم علم المجني عليه بالجريمة وبمرتكبها ما لم ينص القانون على خلاف ذلك... (الطعن رقم ١٦١٨ لسنة ٥٣ ق جلسة ١٩٨٣/١١/٩ س٣٤، ص٩٢٧)
٣ – ما الإجراءات التي تتم في مباحث الانترنت؟ وما هي سلطات النيابة العامة؟
يتم تحرير محضر بعد الذهاب إلى مباحث الإنترنت مع صورة من التوكيل الخاص وصورة من بطاقة المحامي وصورة اسكرين شوت لما تم من سب أو قذف متضرر منه ويتم تحرير المحضر عن طريق ضابط الشرطة المختص ويتم إعطاؤك رقم السؤال عن: هل تم إيداع تقرير فحص فني في المحضر المحرر من قبل المجني عليه أم يتم الانتظار إلى حين إيداعه، واذا تم إيداع هذا التقرير يتم ايصال المحضر إلى قسم الشرطة المختص لقيد المحضر بدلًا من رقم أحوال إلى رقم جنح مثل أي محضر تم تحريره ويتم إيصاله إلى النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة حيال الواقعة ويتم العرض على وكيل النيابة المختص ويتم تحديد ميعاد جلسة له وهنا لابد أن يتم التركيز جيداً من المحامي بين ما إذا كان القيد والوصف على المادة (٣٠٦) من قانون العقوبات أم أن تم قيده ووصفه طبقاً لنص المادة (٧٦) من القانون رقم (120) لسنة ٢٠٠٨م والخاص بإنشاء المحاكم الاقتصادية.
شروط إثبات الجريمة وتقديم البلاغ وكيفية تعامل القانون معها
هناك شروط لإثبات جريمة السب عبر الإنترنت، أبرزها الـ ”سكرين شوت“، وتصل عقوبتها للحبس3 سنوات، والغرامة 200 ألف جنيه، والسجن 5 سنوات في حالات التشهير من أجل منفعة مادية أو جنسية.
ويمثل السب والقذف على ”السوشيال ميديا“، مجموعة جرائم يعاقب عليها القانون، لأن المشرع المصري يتعامل مع أمر استخدام التكنولوجيا المتطورة لتوجيه السباب، على أنه ”جرائم متعددة“، هي جريمة سب، وأخرى جريمة قذف، وكذلك جريمة إساءة استخدام التكنولوجيا، وأيضا جريمة تعمد الإساءة عن طريق النشر، فبعد إثبات ذلك يتم تحرير محضر، ثم إحالة الأمر إلى النيابة العامة أو المحكمة الاقتصادية، على اعتبار أن هذا السلوك يشكل ارتكاباً لجرائم متعددة تستهدف الإهانة والحط من الكرامة، وهذا كله يستوحب العقاب.
يجب توافر عدد من الشروط لتقديم بلاغ من هذا النوع، هي ضرورة وجود ”سكرين شوت“ أو نسخة من صفحة المتهم مرتكب هذه الجريمة من قبل المجني عليه، وبعد ذلك يتم تحرير محضر في ”مباحث الإنترنت“، وأهم أركان جريمة السب والقذف، هو ركن العلانية، وهذا يتحقق عن طريق النشر، وأيضاً ركن تعمد إهانة المجني عليه، ويعاقب المتهم بالغرامة أو الحبس، والحبس هنا يكون وجوبياً، وقد يصل الحبس إلى 3 سنوات بحد أقصى، وغرامة 200 ألف جنيه، والهدف من الحكم القضائي إثبات الإدانة لأخذ تعويض قد يصل إلى مليون جنيه، وإذا كان الهدف من التشهير أو ”الابتزاز“ على “فيس بوك” الحصول على منفعة مادية أو عينية أو جنسية، فهنا تصل العقوبة إلى 5 سنوات سجن.
ولغرض إثبات جرائم السب والشتم والتشهير والابتزاز عن طريق الهاتف المحمول فإنه ينبغي على من يتعرض لهذه الجرائم أو يكون ضحية لها يجب عليه الاحتفاظ والتوثيق والتسجيل للمكالمات والصور والفيديوهات والرسائل والمحادثات الواردة من هاتف الجاني المتضمنة الجرائم المشار إليها، وينبغي أن يتم التحقق منها من خلال التأكد من صحة رقم واسم صاحب الهاتف المرسل وبياناته الأخرى،
وتجدر الإشارة إلى أنه لابد من أن يخدم الدليل القضية وان يكون منتجًا بالدعوى.
وأن يكون الدليل قطعي الثبوت على ارتكاب الجاني للفعل حتى يتم إيقاع عقوبة السب والشتم والقذف وغيرها على الجاني، وينبغي أن يسهم الدليل بكشف هوية الجاني، فالقاضي يحكم على من يقترف هذا الفعل بحكم تعزيري.
ويمكن لمن يتعرض لمثل تلك الجرائم أن يتقدم بـ بلاغ على جريمة السب والقذف وغيرها من خلال تطبيق بمسمى معين تحدده الشركة المشغلة للهاتف المحمول مثل وتطبيق (كلنا أمن) في بعض الدول.
لكن المهمة الأولى التي تقع على عاتق المجني عليه هي الاحتفاظ بصور شاشة عن الجريمة حال وقوعها، إضافةً إلى صور ومقاطع فيديو ومحادثات والرسائل الهاتفية،
ذلك حتى يتم فحص تلك المعلومات من خلال خبراء ومتخصصين ويتم التحقيق مع المتهم في ضوء ذلك تمهيدًا لتقديمه للمحاكمة ومن ثم إيقاع العقوبة المناسبة عليه، علما بأنه في العصر الحاضر ومع التقدم التكنولوجي الملحوظ الذي نشهده، أصبح الوصول للمجرمين أسهل وذلك بفضل جهاز تحديد المواقع مع شركات مواقع التواصل الاجتماعي من أجل معرفة البيانات اللازمة عن المتهمين بارتكاب الجرائم عن طريق الهاتف المحمول.
وكذلك من الممكن تتبع المتصفحات التي يتم استخدامها من قبل المجرمين إضافة لبرامج الاختراق بفضل جهود فرق مكافحة الجرائم المعلوماتية؛ إذ يعتمد بتقنياته على عدة تقنيات مماثلة لما يستخدمه الجناة بإحداث الضرر بغيرهم من الأشخاص، والتعدي على حريتهم إضافة لسلب كرامتهم وقيمتهم في المجتمع.
الوجه السابع: التطبيق القضائي في إثبات جرائم القذف والسب والتشهير والابتزاز عن طريق الهاتف المحمول:
كانت محكمة النقض المصرية قد نظرت في قضايا عدة متعلقة بجرائم تم ارتكابها بواسطة الهاتف المحمول كجريمة السب عبر الهاتف، وأرست فيها محكمة النقض مبادئ قضائية جاءت بيانها كما يأتي:
١- الموجز: الإزعاج المنصوص عليه في المادة (166) مكرر عقوبات، ماهيته، عدم بيان الحكم ما صدر عن الطاعن من أقوال أو أفعال تعد إزعاجا، وكيف اعتبر اتصاله بالشخصيات العامة للحصول على توصيات منهم لقضاء مصالح شخصية إزعاجاً، ومؤدى أقوال المجني عليهم ومضمون تقرير خبير الأصوات قصور.
القاعدة: من المقرر أن الإزعاج وفقاً لنص المادة (166) مكرر من قانون العقوبات لا يقتصر على السب والقذف؛ لأن المشرع قد عالجها بالمادة (308) مكرر، بل يتسع لكل قول أو فعل تعمده الجاني يضيق به صدر المواطن، وكان الحكم المطعون فيه لم يبين ما صدر من الطاعن من أقوال أو أفعال تعد إزعاجاً وكيف أنه اعتبر الاتصال بالشخصيات العامة للحصول على توصيات منهم لقضاء مصالح شخصية إزعاجًا لهم– باعتبار أن هذه الجريمة من الجرائم العمدية– ولم يبين مؤدى أقوال المجني عليهم ومضمون تقرير خبير الأصوات حتى يتضح وجه استدلاله بها على ثبوت التهمة فانه يكون معيبًا بالقصور.
الطعن رقم 25064 لسنة 59 جلسة 1/1/ 1995 س 46 ص 24)
٢- الموجز: استناد الحكم في قضائه بالإدانة إلى الدليل المستمد من الإذن بمراقبة التليفون والتسجيلات دون الرد على الدفع ببطلانه. قصور. علة ذلك.
القاعدة: لما كان البين من محاضر جلسات المحاكمة أن الطاعن دفع أمام درجتي التقاضي ببطلان اذن مراقبة تليفونه والتسجيلات، ولم يعرض الحكم برد على هذا الدفع رغم جوهريته لاتصال بمشروعية الدليل في الدعوى ورغم انه عول في قضائه على الدليل المستمد من هذا الإجراء فانه يكون معيبًا بالقصور.
( المادة 310 من قانون الاجراءات الجنائية )
( الطعن رقم 25064 لسنة 59 ق جلسة 1/1 1995 س 46 ص 24 )
٣-الموجز: طرق العلانية المنصوص عليها في المادة (171) عقوبات. ورودها على سبيل البيان لا الحصر ترديد المتهم عبارات القذف أمام عدة شهود في مجالس مختلفة بقصد التشهير بالمجني عليه يتوافر به ركن العلانية .
القاعدة: لما كان الحكم الابتدائي المؤيد لأسبابه والمكمل بالحكم المطعون فيه قد بيّن واقعة الدعوى بما تتوافر به كافة العناصر القانونية للجريمة التي دان الطاعنين بها، واستدل علي توافر ركن العلانية بما ينتجه مستندًا على ما حصله من أقوال الشهود بما مؤداه أن الطاعنين قد عمدا إلى إذاعة وإعلان الوقائع التي أسنداها إلى المطعون ضدهما بين العديد من الأشخاص وبوسائل مختلفة في أماكن متعددة منها قسم الشرطة وأحد المقاهي وفي الطريق العام، وبالاتصال الهاتفي وعرض (شريط فيديو) وهو ما يكفي للتدليل علي توافر ركن العلانية ذلك أن طرق العلانية؛ قد وردت في المادة (171) من قانون العقوبات على سبيل البيان لا علي سبيل الحصر فإذا أثبت الحكم علي المتهم أنه ردد عبارة القذف أمام عدة شهود وفي مجالس مختلفة بقصد التشهير بالمجني عليه وتم له ما أراد من استفاضة الخبر وذيوعه كما هو الحال في الدعوى المطروحة، فإنه يكون قد استظهر توافر ركن العلانية كما هو معرف به في القانون، ويكون منعى الطاعنين في هذا الخصوص غير قويم
(المواد 308،306،303،302،171 مكرر عقوبات والمادة (310) إجراءات والمادة (30) من ق 57 لسنة 1959)
(الطعن رقم 13707 لسنة 59 ق جلسة 1991/10/24 س42 ص 1038)
٤- الموجز: وجوب تحقيق المحكمة ما يقدم إليها من أدلة الإثبات في الدعوي. إغفال المحكمة عنصراً جوهرياً من عناصر دفاع المدعية المدنية ودليلًا من أدلة الاثبات يعيب حكمها.
القاعدة: متى كان يبين من الاطلاع على المفردات التي أمرت المحكمة بضمها تحقيقاً لأوجه الطعن أن الطاعنة قد شهدت بتحقيقات الشرطة والنيابة ببعض وقائع السب وعبارات الإزعاج التي صدرت عن المتهم وكانت ضمن أحاديثه معها بالتليفون، وأحالت بالنسبة لبعضها الآخر على ما ورد ببلاغ زوجها وما ردده في التحقيقات لما تضمنته تلك العبارات من ألفاظ بذيئة نابية تخجل هي من إعادة ترديدها، كما قررت صراحة بالتحقيقات أنها تمكنت وزوجها من تسجيل أحاديث المتهم معها، وقد قدم الحاضر عنها بالجلسة شريط التسجيل وأودع بملف الدعوى، فان الحكم المطعون فيه إذ أورد ضمن أدلة البراءة ورفض الدعوي المدنية أن الطاعنة لم تشهد بعبارات السب والإزعاج يكون قد خالف الثابت بالأوراق، ودل على أن المحكمة قد أصدرت حكمها دون أن تحيط بأدلة الثبوت في الدعوي، كما أنه قد قدم إليها دليل من هذه الأدلة وهو شريط التسجيل، فقد كان عليها أن تتولى تحقيقه والاستماع اليه وإبداء رأيها فيه، أما أنها قد نكلت عن ذلك فإنها تكون قد أغفلت عنصرًا جوهريًا من عناصر دفاع الطاعنة ودليلاً من أدلة الإثبات، ولا يغني عن ذلك ما ذكرته من أدلة أخرى إذ ليس من المستطاع ــ مع ما جاء في الحكم ـ الوقوف على مبلغ أثر هذا الدليل- لو لم تقعد عن تحقيقه- في الرأي الذي انتهت اليه وهو ما يعيب حكمها ويوجب نقضه فيما قضى به في الدعوى المدنية.
(المادة / 310 من قانون الإجراءات الجنائية، م 308 مكررا عقوبات)
(الطعن رقم 2176 لسنة 37 ق جلسة 1968/5/6 ص514).
الوجه الثامن: تفتيش الهاتف المحمول للمتهم بارتكاب جرائم عن طريقه
أعد الدكتور أشرف توفيق شمس الدين بحثًا عميقًا مفصلًا في هذا الموضوع ومن المناسب أن نعرض ذلك في سياق تعليقنا على حكم المحكمة العليا لتعلق بحث الدكتور شمس الدين بالحكم محل تعليقنا.
فقد ذكر الدكتور شمس الدين أن: البيانات والمعلومات التي يمكن أن يقدمها تفتيش الهاتف المحمول مهمة للغاية لكشف وضبط الجرائم المرتكبة بواسطة الهاتف،
إذ يمكن للهاتف المحمول التنصت على المحادثات التليفونية التي تتم باستخدامه. ويبين مكان تواجد الشخص الذى يحوزه ومعرفة المكالمات والرسائل التي جرت والتي تم استقبالها ومدة هذه المكالمات وأرقامها وشخص من وردت منه أو أجريت معه، ويمكن كذلك معرفة الأشخاص المتواجدين في هذا المكان والزمان قرب الهاتف. ومن ناحية أخرى، فإن ذاكرة جهاز الهاتف أو رقاقة الخط المركبة فيه قد يحويان معلومات وبيانات لها أهميتها، فقد يتوافر بهما ملفات مكتوبة أو مقروءة أو مسموعة أو مصورة، ومن ثم كان الوقوف على ما يحتويه الهاتف من الأهمية بمكان، وتتاح المراقبة والتنصت من خلال برامج الاتصال وتبادل الرسائل والصور؛ والمراقبة من خلال تقنية Wi-Fi؛ والحسابات المختلفة على شبكة الإنترنت مثل Facebook-Twitter وغيرها. ويتيح استخدام هذه التطبيقات الوقوف على المواقع التي يتم زيارتها، والاطلاع على التعليقات والمحادثات التي يكتبها الشخص والتي يتبادلها مع غيره. كما تتيح أيضاً التنصت والمراقبة بالصوت والصورة على ما يدور في غرف الدردشة؛ كما أن لكثيرًا من المواقع والبرامج تطلب معلومات عن الشخص لاستفادته بالخدمة.
وأغلب تطبيقات الاتصال من خلال شبكة الإنترنت مثل برامج: الفايبر Viper، والسكايب والواتس آب WhatsApp. وغيرها، يمكن مراقبتها والتنصت على مستخدميها بالصوت والصورة والكتابة وتحديد مواقع تواجدهم.
ويمثل البريد الإلكتروني واحداً من أهم مصادر الدليل، ففيه يتم التسلَّم والإرسال والاحتفاظ بالرسائل ومرفقاتها من ملفات، ومن خلال هذا البريد يمكن الوقوف على محتوى الرسالة، وتحديد الجهاز الذى استخدم في تلقيها وإرسالها، وساعة وتاريخ إرسالها. وإذا حذفت الرسالة من المرسل أو المستقبل لها، فإنه يمكن استرجاع محتواها. ولذلك شكل البريد الإلكتروني أحد أهم أغراض التفتيش المتخذ بمناسبة تحقيق جنائي. ويمتد الاطلاع كذلك على قواعد التخزين المتاحة على شبكة الإنترنت أو غيرها من الخوادم الخارجية cloud-based services ، وهذه الخدمات تقدم لمستخدمي البرامج والأجهزة المختلفة، سواء أكانت مجانية أم بمقابل، وموضوع هذه الخدمات هو توفير مساحات تخزينية للبيانات والمعلومات والملفات، في خوادم خارجية، وذلك بهدف توفير المساحات التخزينية على الأجهزة التي المستخدمة وكذلك سهولة الوصول إلى هذه المعلومات والبيانات من أي مكان.
ومن خلال الهاتف المحمول يمكن معرفة المواقع التي تم زيارتها على شبكة الإنترنت والتعليقات التي تركها صاحبه، ومن خلال التطبيقات المختلفة الشائع استخدامها يمكن معرفة ميول الشخص وعاداته ومستوى ثقافته وعلاقاته الاجتماعية، وصلاته المشروعة وغير المشروعة، ورصيد حسابه البنكي، والسلع والأشياء التي اشتراها مؤخراً أو التي يعتزم شراءها، وانتماءاته وميوله السياسية، والأماكن التي ارتادها والصور التي التقطها وتاريخها ومكانها...إلخ.
ويذكر الدكتور شمس الدين أن هناك اتجاهات بشأن تفتيش الهاتف المحمول، فيقول أن القانون المصري قد يجيز ذلك كأثر للقبض على المتهم.
فيقول شمس الدين: أن مدلول التفتيش كإجراء تحقيق: يعنى تفتيش الشخص والبحث عن الأدلة في جسم المتهم أو ملابسه أو ما يحمله. والأصل أن التفتيش من أعمال التحقيق الذى تباشره سلطة التحقيق الابتدائي؛ غير أن الشارع قد خوله استثناء لمأمور الضبط باعتباره عمل تحقيق يختص به استثناء، ولكنه ربطه بوقوع قبض صحيح. ويعنى ذلك أن تفتيش الأشخاص له نفس مجال القبض عليهم، فلا يكون ذلك إلا بأمر من سلطات الحكم والتحقيق أو بناء على حالة التلبس. وقد حرص الدستور بنصه في المادة (54) على القول بأن» الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق». والتفتيش كإجراء تحقيق يجب أن يقوم به مأمور الضبط القضائي، ولا يجوز لغيره القيام به، وذلك بخلاف التفتيش كإجراء من إجراءات الاستدلال (10).
- التلازم بين القبض والتفتيش: القاعدة المقررة هي أنه «إذا جاز القبض صح التفتيش»، ويعنى ذلك ارتباط تفتيش الشخص بالقبض عليه. ولذلك نص الشارع في المادة (46) إجراءات على أنه» في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانوناً على المتهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه». وإذا كانت الجريمة في حالة تلبس أو صدر أمر بالقبض من سلطة التحقيق، فإن ذلك يجيز التفتيش بمعناه التنقيبي الذى يهدف لجمع الأدلة أو الحفاظ عليها. وتوافر إحدى حالتي القبض يعد كافياً لإباحة التفتيش: وتطبيقاً لذلك فإذا صدر أمر النيابة العامة بالقبض فقط دون التفتيش، فإن قيام مأمور الضبط القضائي بتفتيش شخص المتهم إثر القبض عليه يكون صحيحاً، حتى لو لم يكن أمر القبض متضمناً تفتيش المتهم.
ولكن لا يوجد تلازم حتمي بين القبض وتفتيش الشخص، فقد يرى مأمور الضبط القضائي أنه لا يوجد مقتضٍ لتفتيش المتهم، وفى هذه الحالة فإن القبض يقع دون أن يستتبعه التفتيش. غير أن صدور الأمر بتفتيش الشخص أو ضبطه في حالة التلبس يجعل القبض متحققاً دائماً، ذلك أن خضوع الشخص لإجراءات التفتيش يعنى تقييد حريته بالقدر اللازم لذلك، وهو ما يعد في نظر القانون قبضاً، ولو لم يتضمن تقييداً مادياً لحرية المتهم.
ويؤدى تطبيق هذه القواعد إلى القول بجواز تفتيش أجهزة الهاتف المحمول وما في حكمها إذا وقع قبض صحيح على المتهم، إذ إن نص المادة (46) من قانون الإجراءات الجنائية جاء مطلقاً من جواز التفتيش في حالة القبض، ولم يستثنِ منه شيئاً.
التفتيش عقب القبض– هل يهدف دائماً للتنقيب عن دليل يتصل بالجريمة المتلبس بها؟:
سبق أن ذكرنا أن القبض الصحيح، يجيز لمأمور الضبط القضائي القيام بتفتيش المتهم لما عسى أن يخفيه من أدلة تتصل بالجريمة التي قبض عليه فيها. ويعنى ذلك أن الأمر يتعلق بتفتيش من إجراءات التحقيق الذى يتصل بجمع الأدلة والحفاظ عليها لجريمة معينة. ويثور التساؤل عما إذا كان هذا النوع من التفتيش يعد جائزاً في حال أن كانت الجريمة التي ارتكبها المتهم لا يتصور فيها وجود أدلة بحوزته على ارتكابها، فهل يجوز في هذه الحالة تفتيشه؛ أم إن التفتيش في هذه الحالة يكون غير جائز؟، فهل يجب أن تتوافر صلة سببية بين هذا التفتيش وبين الجريمة التي قبض على المتهم من أجل ارتكابها؟.
وأهمية هذا التساؤل هي أنه إذا نتج عن هذا التفتيش ضبط ما تعد حيازته جريمة، فهل يكون الضبط في هذه الحالة صحيحاً؟، ويزداد الأمر دقة في حالة تفتيش الهاتف المحمول، ذلك أن القبض على الشخص سواء في حالة صدور أمر بالقبض أو وجوده في حالة تلبس، يجيز في هذه الحالة تفتيشه والتنقيب في الأغراض التي تكون بحوزته ومن بينها هاتفه المحمول، فهل يجب في هذه الحالة أن تتوافر صلة بين تفتيش الهاتف وبين الجريمة التي صدر أمر القبض فيها، أو ضبط متلبساً بارتكابها؟
وفى واقعة عرضت على القضاء تتحصل في أن مأمور الضبط القضائي كان قد ضبط متهماً بسرقة سيارة مبلغ بسرقتها صدر أمر بضبطه وإحضاره، وقد أقر المتهم بمحضر الضبط بسرقته للسيارة وأرشد إليها؛ غير أن مأمور الضبط قام بتفتيش المتهم فعثر معه على بعض المستندات الرسمية المزورة، فقام بضبطها، ودفع المتهم ببطلان التفتيش لعدم صدور إذن من النيابة العامة بذلك، وبأنه لا جدوى من هذا التفتيش بعد أن تم ضبط السيارة المبلغ بسرقتها واعتراف المتهم بذلك بمحضر الضبط. وقد رفضت محكمة الموضوع هذا الدفع، فطعن أمام محكمة النقض التي قضت بأن من حق مأمور الضبط أن يجرى تفتيش المتهم، لما هو مقرر بحسب المادة 46 إجراءات، التي تجيز لمأمور الضبط القضائي في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانوناً على المتهم، أن يفتشه، ذلك أن «التفتيش في صورة الدعوى أمر لازم تستوجبه وسائل التوقى والتحوط من شر المقبوض عليه، إذا ما سولت له نفسه- التماساً للفرار- أن يعتدي على من أجرى ضبطه، بما عساه قد يكون محرزاً له من سلاح أو نحوه»(13).
ويستخلص من هذا القضاء أمران: الأول أن التفتيش كأثر للقبض يجب أن يهدف إلى التنقيب عن الدليل في الجريمة التي قبض على المتهم فيها.
والثاني: أنه إذا انتفى وجود علة تبرر التفتيش في الجريمة التي ضبط فيها الجاني، فإن التفتيش في هذه الحالة يكون وقائياً يهدف إلى تجريد المتهم مما عساه أن يحمله من أسلحة، ويصح ما يتم ضبطه من جرائم استناداً إلى حق مأمور الضبط في القيام بالتفتيش الوقائي بشرط أن يلتزم حدود هذا التفتيش.
غير أن القضاء قد توسع في تطبيق قاعدة جواز التفتيش إذا صح القبض، فلم يعد يتطلب أن يكون غرض التفتيش هو تجريد المتهم مما عساه أن يحمله من أسلحة، أو وجود صلة بين الجريمة المتلبس بها وهذا التفتيش، فإن أسفر هذا التفتيش عن توافر جريمة أخرى في حالة تلبس، كان هذا التلبس صحيحاً.
وفى واقعة أخرى تتلخص في صدور أمر من السلطات العسكرية بالقبض على أحد المساعدين لتغيبه عن الوحدة، فتوجه مأمورا الضبط إلى منزل المتهم فأبصراه خارجاً منه، وما إن شاهدهما حتى أسرع بالفرار محاولاً الهرب فأسرعا خلفه؛ إلا أنه سقط على الأرض فتمكنا من ضبطه، فإذا به تنتابه حالة من الارتباك الشديد جعلتهما يشتبهان في أمره، وبتفتيشه عثر بداخل جيوب الصديري الذى كان يرتديه على مخدر الحشيش والأفيون. وقد قضى بأن الضابطين قد شاهدا المتهم يقف بالطريق بدائرة اختصاصهما المكاني، وبذلك يكونان قد شاهدا الجريمة المذكورة- وهى من الجرائم المستمرة المعاقب عليها بالحبس- في حالة تلبس كما شاهدا مرتكبها، وهو ما يجيز لهما الأمر بالقبض على المتهم الحاضر الذي توجد دلائل كافية على اتهامه وتفتيشه كذلك، وهذا الحكم يكشف كذلك عن اتجاه القضاء نحو إجازة التفتيش إذا توافرت حالة التلبس التي تجيز القبض، وذلك بصرف النظر عن أهمية هذا التفتيش في ضبط الأدلة على الجريمة موضوع التلبس.
وفى واقعة أخرى صدر أمر بالقبض على زوجة وشريكها لاتهامهما بارتكاب جريمة زنى، فقام مأمور الضبط بتفتيش الشريك عقب القبض عليه، فعثر على أدلة بحوزته، فدفع ببطلان التفتيش على أساس أن ما صدر عن النيابة ليس إلا أمراً بالقبض فقط دون التفتيش. وقد أخذت محكمة الموضوع بهذا الدفع وقضت بالبراءة؛ غير أن محكمة النقض لم تقر المحكمة على قضائها، وقضت بأنه لما كانت المادة (46) من قانون الإجراءات الجنائية قد نصت بصفة عامة على أنه في الأحوال التي يجوز فيها القبض على المتهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه، فإن الشارع قد اعتبر أنه كلما كان القبض صحيحاً كان التفتيش الذي يجريه من خول له إجراؤه على المقبوض عليه صحيحاً أياً كان سبب القبض أو الغرض منه وذلك لعموم الصيغة التي ورد بها النص.
يستخلص من الاتجاه المستقر للقضاء المصري أنه لم يتطلب توافر صلة ما بين التفتيش، وبين الجريمة التي تحقق القبض فيها، فلا يشترط أن يكون غرض التفتيش هو ضبط الأدلة في هذه الجريمة، فمجرد القبض الصحيح يجيز في نظر القضاء التفتيش أياً كان موضوعه أو نطاقه أو غرضه
التوسع في التفتيش الناتج عن التلبس بجريمة من جرائم المرور:
سبق أن ذكرنا أن القاعدة المقررة هي أنه في الأحوال التي يجوز فيها القبض على المتهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه، أياً كان سبب القبض أو الغرض منه. وقد ثار التساؤل عما إذا كان يجوز تفتيش شخص وسيارة المتلبس بارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون المرور؟.
إذا كانت الجريمة المتلبس بها معاقباً عليها بالغرامة أو بالحبس الذى يقل عن ثلاثة أشهر، فإن ذلك لا يخول مأمور الضبط تفتيش شخص أو سيارة الجاني.
أما إذا كانت الجريمة المتلبس بها تجاوز عقوبتها الحبس مدة ثلاثة أشهر، فإن ذلك يخول مأمور الضبط القبض على مرتكبها وتفتيش شخصه وسيارته أياً كان سبب هذا التفتيش أو الغرض منه. ويلاحظ أن العبرة في تحديد عقوبة الجريمة هي بما نص عليها الشارع في نص التجريم، وليس بما قضى به القاضي في حكمه.
وتطبيقاً لذلك فإن جريمة القيادة عكس الاتجاه والمعاقب عليها بالحبس تجيز لمأمور الضبط القبض على المتهم فيها، وله كذلك أن يفتشه اعتباراً بأنه كلما كان القبض صحيحاً كان التفتيش الذي يجريه من خول له إجراءه على المقبوض عليه صحيحاً أياً كان سبب القبض أو الغرض منه وذلك لعموم الصيغة التي ورد بها النص ومن التطبيقات كذلك أن المادة (66) من قانون المرور تجيز لمأموري الضبط القضائي عند التلبس بقيادة أي مركبة على من كان واقعاً تحت تأثير خمر أو مخدر، أن يأمر بفحص حالة قائد المركبة بالوسائل الفنية التي يحددها وزير الداخلية بالاتفاق مع وزير الصحة. فإذا لاحظ الضابط أن السيارة التي كان يقودها المتهم تسير بطريقة غير متزنة وحال استيقافها لاحظ أنه في حالة سُكر بيّن وتفوح من فمه رائحة الخمر، فإنه يكون متلبساً بجريمة قيادة سيارة تحت تأثير المسكر وكذلك جريمة التواجد في مكان عام في حالة سكر بيّن، وهما جريمتان معاقب عليهما بالحبس مدة تزيد على ثلاثة أشهر، ويكون من حق مأمور الضبط القبض على المتهم وتفتيشه في هذه الحالة.
وتطبيق هذه القواعد السالفة الذكر يؤدي إلى اتساع نطاق التفتيش وامتداده إلى الهاتف المحمول لمجرد ارتكاب جريمة مرورية يجوز القبض فيها.
التوسع في مضمون التفتيش في حالة التلبس:
توسع القضاء المصري توسعًا كبيرًا في تحديد مدلول التفتيش الذى يقوم به مأمور الضبط القضائي كأثر للقبض. فيشمل هذا التفتيش كل ما بحوزة الشخص من أشياء وأدوات وأوراق ومستندات ويشمل حافظة نقوده أو حقائبه وملابسه وسيارته. ومن المستقر عليه قضاءً –رغم غياب النص- أن لجهات التحقيق الابتدائي سلطة إخضاع الشخص للفحص الطبي والحصول على عينات من دمه وغسيل معدته متى كان لذلك فائدة في إثبات الجريمة أو إظهار الحقيقة. وسواء أكان بإذن سلطة التحقيق الابتدائي، أم في حالة التلبس، واستند القضاء في ذلك إلى حق التفتيش المخول لرجال الضبط والتحقيق (23). كما استند كذلك إلى ما يخوله القانون لجهات التحقيق من حق الاستعانة بالخبرة الفنية من أجل كشف الحقيقة.
ووجهة القضاء المصري في ذلك محل نظر وتخالف خطة التشريعات المقارنة، التي تفرد نصوصاً تشريعية واضحة ينظم بها الشارع حالات وضوابط الإجراءات الماسة بالحرية الشخصية وبحرمة الحياة الخاصة.
ويترتب على وجهة القضاء أنه يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتش الهاتف المحمول أو الأجهزة الأخرى التي بحوزة المقبوض عليه، وسواء أكان ذلك بناء على أمر بالقبض عليه أم لتوافر حالة التلبس. وقد اعتد القضاء بضبط الهاتف المحمول ووحدة ذاكرة بحوزة المتهم المتلبس بارتكاب جريمة (25). وفى واقعة أخرى قام المتهم المتلبس بارتكاب جريمة بتسليم الضابط هاتفه المحمول بعد القبض عليه، وقد اعتبر القضاء هذا التسليم قد تم طوعًا، وأجاز استخلاص الدليل من الهاتف.
ثالثاً: الاتجاه الذى لا يجيز تفتيش الهاتف التالي على القبض- القانون الأمريكي
- أحوال القبض على الشخص في القانون الأمريكي:
يمكن تأصيل حالات القبض على الأشخاص في القانون الأمريكي بردها إلى حالتين: الأولى أن يتم القبض على الشخص بدون إذن قضائي، والثانية أن يجرى هذا القبض بموجب إذن قضائي. ويلاحظ أن تعبير «الأمر القضائي» لا يعنى الأمر الصادر عن النيابة العامة، إذ لا يعتبر «الادعاء العام» داخلاً في مدلول القضاء في القانون الأنجلو أمريكي بصفة عامة.
والقاعدة المقررة أنه لا يجوز القبض على الشخص إلا إذا كانت الجريمة المتهم بها جناية، ولا يشترط في هذه الحالة أن تكون الجريمة متلبساً بها. ووفقاً لقوانين بعض الولايات فلا يحق لرجل الشرطة القبض على شخص بغير إذن في حالات الجنح إلا إذا كانت الجريمة في حالة تلبس. وسلطة القبض تتوقف على وجود «السبب المحتمل»، وهذا السبب يعنى وجود أساس واقعي وحقيقي يدل على احتمال ارتكاب شخص لجريمة يجوز القبض فيها ، فإذا ظهرت هذه الوقائع إلى رجل الشرطة؛ فإنه يملك القبض على المتهم دون حاجة إلى استصدار إذن قضائي، ودون أن يشهد هو بنفسه الوقائع التي يرتكز عليها السبب المحتمل(30). وقد يفضل ضابط الشرطة رغم توافر هذا السبب المحتمل أن يحصل على إذن قضائي بالقبض على المتهم. ومعظم حالات القبض التي تقع من خلال دوريات الشرطة تكون بدون إذن؛ لأن ضابط الشرطة يواجه موقفًا يقتضى اتخاذ قرار حال، أما في الحالات التي يتم فيها تحديد هوية الجاني من خلال التحريات، فإن الحصول على إذن من القاضي بالقبض هو الوسيلة المألوفة في مثل هذه الحالات.
وقد يتم القبض على الشخص بموجب أمر قضائي يصدر عن القاضي المختص. والقبض استناداً إلى الإذن القضائي يكون مستنداً على السبب المحتمل أيضاً، ولكن ما يقوم به رجل الشرطة من قبض في هذه الحالة لا يكون استناداً إلى هذا السبب؛ وإنما إلى الإذن بالقبض. والقرار القضائي بوجود سبب محتمل يعنى توافر أساس كاف وملموس لتبرير القبض.
وإذا توافر القبض المشروع، فإن المحكمة العليا الأمريكية قد أجازت تفتيش الشخص في هذه الحالة كأثر للقبض.
تطور وجهة القضاء الأمريكي
اختلف القضاء الأمريكي في وجهته إلى اتجاهات مختلفة: فبينما ذهبت الوجهة التقليدية في هذا القضاء إلى المساواة بين الهاتف المحمول وما يماثله من أجهزة مع الأشياء المادية الأخرى المضبوطة بحوزة الشخص، فإن بعض الأحكام حاولت أن تضع ضابطاً يمكن بمقتضاه التمييز بين الحالات التي يجوز تفتيش الهاتف فيها، وغيرها من حالات لا يجوز فيها ذلك، وبرز اتجاه ثالث لا يجيز تفتيش الهاتف المحمول في حال القبض على المتهم، وأخيراً عرض الأمر على المحكمة العليا بمناسبة التناقض في الأساس القانوني لحكمين أحدهما صدر عن محكمة اتحادية. وفيما يلى نتناول بالبيان هذه الاتجاهات:
1-الاتجاه التقليدي: جواز تفتيش الهاتف المحمول كأثر للقبض الصحيح:
أرست المحكمة العليا الأمريكية في قضية Chimel v. California الضوابط العامة التي تجيز قيام رجال الشرطة بالتفتيش التالي للقبض، فقد أوجبت أن يكون هذا التفتيش هو «الحاجة إلى حماية أمن مأمور الضبط والمحافظة على الأدلة من إتلافها أو إخفائها». وكذلك إذا دعت الحاجة المنطقية لإجراء هذا التفتيش لوجود مبرر خاص لهذا التفتيش، كأن يكون المتهم واضعاً سلاحاً بدرج في مكتبه أو على طاولة بمنزله. ويتطلب ذلك أن يكون الشيء في منطقة تقع في «نطاق السيطرة المباشرة للمقبوض عليه». ولذلك فإن تفتيش مسكن المقبوض عليه والتنقيب في محتوياته كأثر للأمر بالقبض لا يكون مشروعاً، إذ ينتفى السبب المعقول لتفتيش المنزل في هذه الحالة. وهذا المبدأ الذى قررته المحكمة العليا قد أثار التساؤل عن مدى جواز الأخذ به في حالة تفتيش الهاتف المحمول كأثر للقبض، فعلى المحكمة في هذه الحالة أن تقوم بتقدير مدى توافر تهديد للضابط الذى نفذ القبض أو وجود خطر على الأدلة من التلف.
وفى قضية Riley v. California فإن المتهم David Riley قد أوقفه أحد رجال الشرطة حال قيادته لسيارة رخصتها منتهية الصلاحية. وفي أثناء ذلك علم الضابط أن رخصة قيادة المتهم كانت موقوفة كذلك، فقام بالتحفظ على السيارة، واقتادها إلى قسم الشرطة، عملاً بالقواعد المتبعة في ذلك. وقام ضابط آخر بإجراء جرد وتفتيش لمحتويات السيارة، وقد أسفر تفتيش السيارة عن العثور على سلاحين ناريين تحت غطاء محرك السيارة، فاتهم بحيازتهما حال كونهما مخبأين ومحشوين بالذخيرة، وهو الأمر المعاقب عليه بموجب قوانين الولاية. وقد عثر الضابط في أثناء تفتيشه للسيارة على أشياء تربط رايلي بعصابة إجرامية من عصابات الشوارع، فقام بضبط هاتفه المحمول الذى كان يحتفظ به في جيب سرواله، وقد كان هذا الهاتف «ذكياً»، إذ يملك القيام بوظائف متعددة وقدرات متقدمة، كما أنه يحوي على ذاكرة تخزين كبيرة، واتصال بشبكة الإنترنت. وقد لاحظ الضابط أن بعض الكلمات الموجودة ضمن نصوص الرسائل أو قائمة الأسماء مذيلة بحروف مختصرة، اعتقد الضابط أنها حروف تستخدم في اللغة العامية للدلالة على أفراد العصابة (41). وبعد نحو الساعتين قام أحد الضباط المتخصصين في جرائم العصابات بإجراء فحص إضافي لمحتويات الهاتف؛ بحثاً عن الأدلة؛ ذلك أن أعضاء هذه العصابات غالباً ما يقومون بتسجيل أفلام الفيديو أو التقاط الصور لأنفسهم حال حملهم لأسلحة. وقد شاهد الضابط ضمن ما شاهده صورة للمتهم رايلي أمام سيارة اشتبه في انخراطها في واقعة إطلاق النار منذ أسابيع قليلة. وقد اتهم رايلي بالشروع في القتل وبإطلاق أعيرة نارية بقصد الاعتداء وحيازة أسلحة نارية. وقد استخدم الدليل المتحصل عليه من هاتفه لتقوية أدلة حكم الإدانة في هذه القضية.
وقد طعن المتهم بالاستئناف في هذا الحكم؛ غير أن محكمة الاستئناف أيدت الحكم ضده. واستناداً إلى الحكم الذى سبق أن أصدرته المحكمة العليا لولاية كاليفورنيا في قضية Diaz P قضى بأن التعديل الرابع للدستور الأمريكي يجيز تفتيش الهاتف المحمول كأثر للقبض الصحيح بدون إذن تفتيش، إذا كان الهاتف في الحيازة المباشرة للمقبوض عليه وقت حصول القبض، فإن المحكمة العليا للولاية قد رفضت التماس المتهم بمراجعة الحكم (44). وقد أدى صدور حكم يتعارض مع هذا الحكم إلى عرض الأمر على المحكمة العليا للولايات المتحدة لرفع هذا التعارض والإدلاء برأيها فيما أثاره الحكم من نقاط خلافية، وذلك على النحو الذى سيلي ذكره.
وفى واقعة ترجع إلى سنة 1993م تتحصل في قيام أحد رجال الشرطة بالتخفي في شخصية مشترٍ لمخدر الهروين، واتفق مع أحد المتهمين على أن يحضر له الكمية المتفق عليها في أحد الفنادق، فحضر إليه هذا الشخص وقام بالاتصال من هاتف الفندق بجهاز نداء آلي خاص بمتهم آخر، الذى قام بالاتصال بالمتهم الأول على رقم الفندق الذى ورد اتصال المتهم الأول به من خلاله، واتفقا على أن يحضر الأخير الكمية المطلوبة من الهروين وأن يلتقيا في جراج الفندق لتسلم المخدر، وأخبر المتهم الأول الضابط أن التسليم سيتم خلال دقائق، وغادر الحجرة وعاد بعد دقائق ومعه حقيبة بها المخدر، فألقى الضابط المتنكر القبض عليه بمساعدة بعض أفراد الشرطة السريين، بينما كان أحد رجال الشرطة الآخرين يراقب عملية التسليم في جراج الفندق، فانتظر حتى إتمامها، وما إن انصرف المتهم الأول صاعداً للحجرة، حتى قام بإلقاء القبض على المتهم الثاني، وبالتحفظ على جهاز النداء الإلكتروني الذى كان بحوزته، وبتفتيشه تبين أنه يحتوي على معلومات وبيانات مهمة، إذ كان يحتوي على الأسماء والأرقام التي تم الاتصال بها، ومن بينها رقم الفندق الذي اتصل المتهم الأول به من خلاله ورقم الحجرة التي كان بها العميل السري والمتهم الأول.
وفي أثناء المحاكمة دفع المتهم الثاني ببطلان تفتيش جهاز النداء الإلكتروني وما نتج عن هذا التفتيش من الاطلاع على بيانات واستبعادها من الأدلة على التهم الموجهة ضده، وأن هذا التفتيش ينال من الحق في خصوصية البيانات التي كانت بالجهاز. غير أن محكمة مقاطعة شمال كاليفورنيا قضت بأنه على الرغم من أن المقبوض عليه له «مصلحة محمية في خصوصية محتويات ذاكرة جهازه للنداء الآلي»(45)؛ فإن هذه الخصوصية لا محل لها إذا كانت «واقعة تفتيش الجهاز تالية للقبض المشروع»، وأن التفتيش قد وقع على شيء تحت السيطرة الحالة للمتهم (47)، وكان تالياً مباشرة للقبض عليه. وفى سنة 2011م قضت محكمة مقاطعة شمال كاليفورنيا بدائرة أخرى أن جهاز الهاتف المحمول لا يعامل معاملة تجعله مختلفاً عن حافظة نقود أخذت من شخص المقبوض عليه (49).
2- وضع ضابط مستمد من قصر تفتيش الهاتف في حالة وجود صلة بين هذا التفتيش وبين الجريمة التي وقع القبض من أجلها:
أرست المحكمة العليا الأمريكية مبدأ يتعلق بتفتيش سيارة المقبوض عليه، إذ أجازت هذا التفتيش كأثر للقبض المشروع في إحدى حالتين: الأولى إذا كان الشخص قادراً على الدخول في السيارة، أي أن يكون بمكنته الاتصال بالسيارة مادياً، فإن مقتضيات الحفاظ على الأدلة والحاجة إلى ضمان أمن الضابط، يبرر أن تفتيش محتويات السيارة. والحالة الثانية هي أنه إذا كان هذا التفتيش يعتبر إجراءً معقولاً يبعث على الاعتقاد بوجود دليل قد يعثر عليه بالسيارة ويتعلق بالجريمة التي قبض عليه من أجلها. وهذه الحالة الأخيرة توجب توافر صلة بين تفتيش السيارة والجريمة التي قبض على الشخص من أجلها.
وعلى الرغم من أن المحكمة العليا قد قصرت التفتيش في الحالة الثانية على السيارات، ولم تمده إلى الهواتف، فإن العديد من المحاكم كانت تمد تطبيق هذا المبدأ إلى الهاتف الذى بحوزة مع المقبوض عليه، للتنقيب عن مدى وجود دليل به.
وقد أعملت بعض المحاكم الفدرالية قواعد المنطق فاستبعدت الأدلة على جرائم حيازة المخدرات والمتحصل عليها من تفتيش هاتف المقبوض عليه من أجل قيادته لسيارة برخصة موقوفة الصلاحية في ولاية فلوريدا.
وسند هذه الوجهة من القضاء هي التلطيف من جمود القاعدة، والحد من نطاق تطبيقها بوضع ضابط مستمد من أن يكون هناك صلة بين تفتيش الهاتف والجريمة التي قبض عليه من أجلها. وعلة هذه الوجهة أن إجازة تفتيش الهاتف المحمول بما يتضمنه من الوقوف على قدر هائل من المعلومات الخاصة للشخص هو إجراء يتصف بشدة مساسه بالحياة الخاصة للشخص.
وقد أثار بعض الفقه التساؤل في هذه الحالة عن ماهية الجرائم التي تجيز تفتيش الهاتف هو ما يؤدى إلى الاختلاف في التطبيق، إذ سيكون بمقدور ضابط الشرطة القول أن تفتيش الهاتف في هذه الحالة مبرر، لأنه يتوقع «لسبب معقول» أن يجد به دليلاً يتعلق بهذه الجريمة، سواء أكان هذا الدليل هو رسالة نصية أم سجلاً للمواقع المتصفحة على الإنترنت مخزنة على الجهاز.
وقد انقسم القضاء الذى حاول الأخذ بهذا الضابط في شأن الجرائم التي تجيز تفتيش الهاتف في هذه الحالة: فقضت إحدى الدوائر الفدرالية في ولاية نبراسكا بأن حصول الضابط على أمر بالقبض من أجل جريمة توزيع جواهر مخدرة أو الاشتراك فيها لا يبرر الاعتقاد بأن تفتيش الهاتف المحمول للمقبوض عليه سوف يقدم دليلاً يتعلق بالجريمة التي قبض عليه من أجلها. وقد أسست المحكمة قضاءها على سببين: الأول هو احترام خصوصية المتهم على محتويات هاتفه، والسبب الثاني هو أن الجريمة التي قبض عليه من أجلها قد وقعت قبل الإذن بعدة شهور، ولم تعتبر المحكمة أن السجلات المخزنة على الهاتف ستبقى في الذاكرة دون تغيير طوال هذه الفترة. وعلى خلاف هذه الوجهة، فإن بعض المحاكم الأخرى أجازت أن يتم تفتيش هاتف المتهم بحيازة جواهر مخدرة. وقد أسست هذه الإجازة في بعض الأحيان على أن الهاتف المحمول يكون متضمناً لذاكرة أرقام الهواتف التي تم الاتصال بها مؤخراً من حائزه، أو تلك التي تم الاتصال بها مراراً، أو سجل عناوين الأشخاص وأرقامهم، وهي لها وسائل تستخدم في ترويج المخدرات. وفى بعض الأحيان فإن القضاة قد يقبلون هذا التفتيش استناداً إلى حسن النية الظاهر لمأمور الضبط، على الرغم من أن هذا التفتيش قد لا يتفق مع معيار السبب المعقول الذى يجب توافره في الدليل المتحصل من التفتيش.
الاتجاه القائل بعدم جواز تفتيش الأجهزة الإلكترونية المحمولة المضبوطة بحوزة المتهم بناء على قبض صحيح.
برز هذا الاتجاه في أثناء الأخذ بالاتجاه الأول، إذ رأت بعض محاكم الولايات الخروج على الاتجاه التقليدي السالف الذكر، ففي واقعة عرضت على القضاء بولاية كاليفورنيا سنة 2007م تتحصل في صدور إذن قضائي بتفتيش أشخاص يترددون على أحد المنازل التي دلت التحريات على أنها تستخدم في تهريب المخدرات، وكأثر لهذا الإذن، قام رجال الشرطة بالقبض على عدد من المتهمين، وقد اصطحب رجال الضبط المتهمين بعد القبض عليهم إلى قسم الشرطة، وبعد فترة من الوقت تحفظوا على هواتفهم المحمولة، ووضعوا كلًا منها في مظروف أرفقت به استمارة تسجيل المعلومات لمن ضبطت معه، ولاحقاً تم فحص ذاكرة هذه الهواتف، وضبط بعض الأدلة التي قدمت ضد المتهمين.
وقد قضت محكمة مقاطعة شمال كاليفورنيا باستبعاد الدليل المتحصل من قيام أحد رجال الشرطة بتفتيش الهاتف المحمول للمتهم المقبوض عليه، وقد بررت المحكمة قضاءها بأن «الهواتف النقالة الحديثة تمتلك القدرة على تخزين قدر هائل من المعلومات الخاصة»، وأنها لذلك يجب أن تعامل بصورة مختلفة عن غيرها من الأشياء الأخرى. وقد استندت المحكمة كذلك إلى ما هو مقرر من أن التفتيش يجب أن يكون متزامناً فعلياً مع القبض، وأن تفتيش الهاتف في الواقعة لم يكن معاصراً للقبض.
ويستخلص من هذا الحكم أن المحكمة أسست حكمها على دعامتين: الأولى هي أن الهواتف المحمولة الحديثة تمتلك قدرة على تخزين قدر هائل من المعلومات الخاصة. والدعامة الثانية أنه حتى يكون التفتيش صحيحاً، فإنه يجب أن يتزامن مع القبض، أما إذا تراخى التفتيش إلى ما بعد القبض، كان- في نظر المحكمة- غير مشروع.
وفى قضية United States v. Gibson لسنة 2012م تبنت ذات المحكمة بهيئة مغايرة المبدأ الذى سبق أن قضى به في قضية Park السالفة الذكر، فاستبعدت الدليل المتحصل عن تفتيش الهاتف المحمول الناشئ عن قبض صحيح، وقالت المحكمة في حكمها: «إن الفرد يقوم بتخزين كمية كبيرة من المعلومات الشخصية في هواتفه الخلوية، وتتضمن آراءه الخاصة، ورسائل بريده الإلكتروني، وصوره، ورسائله الصوتية، فإذا عثر على مثل هذه الهواتف مع المقبوض عليه، فإنها تستحق معاملة أخرى مغايرة عن غيرها من أشياء».
وجهة المحكمة العليا الأمريكية:
عرض الأمر على المحكمة العليا الأمريكية بمناسبة صدور حكمين متعارضين عن محكمتي استئناف إحداهما محكمة اتحادية، وذلك على النحو الآتي:
1- قضية United States v. Wurie ::
وتتحصل وقائها في القبض على المتهم Wurie في أثناء قيامه بتوزيع مخدر الكوكايين، وقد تحفظ الضابط على هاتفين محمولين بعد القبض عليه كانا بحوزته، وقد لاحظ الضابط أن واحداً من الهاتفين كان يستقبل بشكل متكرر اتصالاً من رقم مسجل بالهاتف تحت اسم «منزلي»، فقام بفتح الهاتف ورأى في الشاشة الخارجية للجهاز صورة لامرأة شابة سوداء وهى تحمل طفلاً، فقام بضغط أزرار الهاتف حتى يحدد رقم الهاتف المسجل تحت هذا الاسم بسجل الهاتف. وبالاستعانة بالدليل المتصل بشبكة المعلومات استطاع أن يقتفي أثر محل إقامة صاحب هذا الرقم فتوجه رجال الشرطة إليه، حيث رأوا امرأة تظهر من خلال زجاج النافذة تشبه المرأة التي كانت على شاشة هاتف المقبوض عليه. وكأثر لذلك دخلوا إلى الشقة التي كانت تتواجد بها المرأة للتحفظ عليها انتظاراً لوصول الإذن بالتفتيش لهم. وبعد حصولهم على الإذن وجد أفراد الشرطة بالشقة المزيد من مخدر الكوكايين المعد للتناول وسلاحاً نارياً. وبعد توجيه تهمة إحراز مخدر وسلاح بدون ترخيص للمتهم، دفع باستبعاد الأدلة التي تم الحصول عليها من الشقة استناداً إلى أنها تمت بناء على تفتيش هاتفه المحمول دون إذن قضائي.
وقد رفضت محكمة المقاطعة هذا الدفع ورأت أن التفتيش التالي للقبض كان «محدوداً وسائغاً». وقد سطرت المحكمة بحكمها أنها لا ترى وجود أساس للتمييز بين تفتيش الهاتف المحمول وغيره من المحتويات الشخصية التي توجد بحوزة المتهم، وأن هذا التفتيش يتفق مع المبادئ الدستورية التي أقرتها المحكمة العليا. وقد خلص المحلفون إلى أن المتهم مذنب في كافة التهم التي وجهت إليه(61). فطعن المتهم بالاستئناف، فقضت الدائرة الأولى بمحكمة الاستئناف الاتحادية بإلغاء الحكم وأجلت نظر الدعوى إلى جلسة لاحقة لنظر الموضوع.
وقد انقسم رأي القضاة بين مؤيد لتطبيق القواعد التقليدية التي أقرتها المحكمة في التفتيش التالي للقبض، وآخر معارض لتطبيق هذه القواعد على محتويات الهاتف المحمول.
2- قضية: Riley
سبق أن تناولنا وجهة قضاء ولاية كاليفورنيا في قضية Riley وأن حكم محكمة أول درجة الذى أيدته محكمة الاستئناف قد ذهب إلى صحة تفتيش الهاتف الذي يضبط مع المقبوض عليه، ومن ثم صحة ما ينتج عن هذا التفتيش من أدلة يمكن استخدامها في إثبات ارتكابه جرائم أخرى، ولو لم تكن لها صلة بالجريمة التي جرى القبض عليه من أجلها. وعلى العكس من ذلك فقد ذهب اتجاه قضائي آخر في قضية Wurie السابق ذكرها إلى أن الهاتف المحمول لا يماثل الأغراض التي تضبط بحوزة المتهم، وهو يحوي كمية كبيرة من البيانات والمعلومات وثيقة الصلة بشخص المتهم؛ الأمر الذى لا يجوز معه تفتيش هذا الهاتف كأثر للقبض المشروع.
- تحديد مناط الخلاف بين الحكمين والمنظور أمام المحكمة العليا:
أدى الخلاف السابق بين الحكمين إلى رفع الأمر إلى المحكمة العليا لتدلي فيه برأيها. وقد أثارت القضيتان سؤالاً مشتركاً هو: هل تملك سلطة الضبط، بدون إذن، التنقيب في المعلومات الرقمية للهاتف المضبوط مع الشخص الذي قبض عليه، وهل تطبق القواعد التقليدية من جواز التفتيش اللاحق للقبض على الهاتف المحمول؟.
- حجج المحكمة العليا في القضيتين:
وقد استعرضت المحكمة وقائع القضيتين على النحو الذى سبق ذكره تفصيلاً.
والنقطة التي بدأت بها المحكمة بحثها هي في تفسير العبارة التي وردت في التعديل الرابع من الدستور من أن الدستور يضمن الحق في حرمة الشخص من «التفتيش أو الضبط غير المبررين»، فعدم معقولية سبب التفتيش هو حجر الزاوية في نص التعديل الرابع من الدستور الأمريكي. فإذا لم يكن الضبط والتفتيش التاليان للقبض مبررين، فإنه لا يجوز في هذه الحالة إجراؤهما بدون أمر قضائي. وعلة ذلك أن من شأن هذا الأمر المتضمن تأييداً للتفتيش أن يكون قد صدر بمعرفة قاضٍ محايد ومستقل، وذلك بدلاً من أن يصدر عن الضابط الذى يفرغ جهده في البحث الحثيث التنافسي عن الجريمة. وإذا انتفى وجود أمر بالتفتيش، فإنه يجب في هذه الحالة أن يكون مبرراً باعتبار أنه استثناء على القاعدة الأصولية التي تتطلب صدور الأمر به.
ومما يزيد الأمر دقة أن التفتيش التالي للقبض الذى يجري بدون أمر يزيد كثيراً في الواقع عن التفتيش الذى يعقب القبض الذى يجري بموجب أمر.
وقد تناولت المحكمة العليا في رأيها مدى توافر ضابط التفتيش اللاحق للقبض والذى سبق أن استقر عليه قضاؤها، والذي يتطلب وجود خطر على شخص مأمور الضبط أو خشية من فقدان الدليل، فقالت المحكمة إن البيانات الرقمية المخزنة في الهاتف لا يمكن أن تستخدم في ذاتها كسلاح يمكنه أن يلحق الضرر بالضابط القائم بالقبض، أو أن يؤدي فعلياً إلى هرب المقبوض عليه. وللضباط في هذه الحالة أن يفحصوا الجوانب المادية لجهاز الهاتف للتأكد من أنه لا يمكن استخدامه كسلاح، كما لو كان يخفي شفرة حادة بين الجهاز والجراب الذي يحفظه. وما إن يقوم الضابط بتأمين الجهاز ويزيل أي تهديد مادي محتمل، فإن البيانات التي يحتويها الهاتف لا يمكنها أن تلحق الأذى بأحد.
وفى حالة التفتيش الذي يقع على الأشياء المادية مثل علبة السجائر التي بحوزة المتهم، فإنه بمجرد أن يملك الضابط زمام السيطرة على المتهم فإنه لا يكون مقبولاً القول بأن المتهم في هذه الحالة يستطيع أن يصل إلى محتويات العلبة. والأشياء المادية التي لا يمكن معرفة محتواها، فإنه قد ينجم عنه خطر، ففي قضية «روبنسون» التي عرضت على المحكمة العليا والتي استطال التفتيش فيها إلى علبة سجائر كانت في حوزة المقبوض عليه، فقد شهد الضابط بأنه لم يكن يعلم ما تحتويه هذه العلبة من أشياء؛ غير أنه كان يعلم بأنها لا تحتوي على سجائر. وفى هذه الحالة يكون التفتيش اللاحق مبرراً، إذ ينطوي على إجراء وقائي يضمن سلامة الضابط. غير أن هذه الاعتبارات لا تتوافر في خصوص البيانات الرقمية، ففي قضية Wurie فإن الضابط الذي قام بتفتيش هاتف المتهم كان يعلم بالتحديد ما الذي يمكن أن يكون داخله، إذ هي مجرد بيانات. كما أنه يعلم كذلك أن هذه البيانات لا يمكنها أن تلحق به ضرراً.
وقد أشارت المحكمة إلى الاعتبار الذى ورد بالحكمين من أن تفتيش الهاتف قد يضمن سلامة الضابط من عدة جهات، فعلى سبيل المثال فهو ينبه رجال الضبط إلى اتجاه أنصار المقبوض عليه صوب مكان الواقعة. ولا يثور شك في أن تنبيه رجال الضبط في هذه الحالة يحقق مصلحة مهمة؛ غير أن الحكمين لم يؤسسا قضاءهما على الوجود الفعلي لهذه الاعتبارات. ومثل هذه التهديدات التي تخرج عن مكان الضبط لا تنطوي على تهديد واقعي في كافة حالات القبض والاحتجاز.
وفيما يتعلق بالحجة القائلة: إن تفتيش الهاتف كإجراء تالٍ للقبض قد يتضمن حماية للأدلة، فإنه بمجرد تأمين ضابط الشرطة للهاتف فإنه لم يعد يتوافر في هذه الحالة أي خطر يجعل للمقبوض عليه القدرة على مسح البيانات التي تتصل بجرائمه من الهاتف. ورداً على ما جادلت به المحكمتان في حكمهما من أن حماية الأدلة من التلف هو اعتبار ذو قيمة؛ وذلك لأنه يمكن محو البيانات الرقمية عن بعد؛ فإن المحكمة العليا في رأيها قالت: إن محو هذه البيانات لا يكون إلا إذا كان الهاتف متصلاً بشبكة لا سلكية، مما يمكنه من استقبال إشارة لمسح البيانات المخزنة. وأن ذلك يمكن أن يتم بواسطة شخص من الغير، فيكون بمقدوره إرسال إشارة عن بعد أو أن يكون الهاتف ذاته مبرمجاً من قبل على محو البيانات المخزنة به إذا دخل أو خرج من نطاق منطقة جغرافية معينة.
وقد أشار رأي المحكمة العليا كذلك إلى أن التشفير هو صفة مهمة للأمان في كثير من الهواتف، والتي تغلق بكلمة سر أو غيرها من الوسائل، وفى حالة غلق الهاتف بهذه الوسائل، فإن البيانات التي يتضمنها تكون محمية حماية فعالة تجعل الهاتف غير قابل للاختراق، إذا لم تكن الشرطة على علم بكلمة السر.
وفى حالة وجود خشية من محو البيانات عن بعد أو وجود تشفير للجهاز، فإنه يمكن غلق الهاتف أو نزع بطاريته، كما أنه يمكن وضعه في حافظة معدنية تحول دون وصول الموجات اللاسلكية إليه. وأنه لا يجوز تفتيش الهاتف المضبوط ما لم يواجه رجال الشرطة موقفاً حالاً يتطلب حصول ذلك التفتيش، ومثال ذلك أن تفصح ظروف الواقعة عن أن المتهم يهدف إلى محاول المحو الفوري للبيانات، ففي هذه الحالة يكون الضابط قادراً على تفتيش الهاتف. ومن الأمثلة كذلك أن يتحفظ الضابط على هاتف غير مغلق، فيمنع غلقه حتى يحول دون عمل وظيفة الغلق التلقائي والتي تؤدي إلى تشفير الهاتف. ففي مثل هذه الحالات يجوز لرجال الضبط اتخاذ خطوات مبررة لتأمين مسرح الواقعة للحفاظ على الأدلة انتظاراً لصدور الأمر باللاسلكي.
والاعتبارات التي تبرر تفتيش الهاتف المحمول كأثر للقبض المشروع دون أمر، لا يجب أن تجعلنا نغفل أن هذا التفتيش ينال بصورة كبيرة من حق الشخص في الخصوصية الذى أقره التعديل الرابع للدستور الأمريكي، وإذا كان من المقرر أنه يجوز تفتيش المقبوض عليه بدون أمر قضائي، فإن هذه الإجازة لا تعنى التضحية بالحق في الخصوصية بشكل تام، فليس كل تفتيش يكون مقبولاً لمجرد أن الشخص قد قبض عليه. وإذا كان التفتيش لازماً في حال مساسه الشديد بالخصوصية، فإنه في هذه الحالة يجب أن يكون بناء على إذن قضائي (70).
فالهاتف المحمول يختلف من حيث كمية البيانات ونوعها عن غيره من أشياء مادية تكون بحوزة الشخص. وكما أن تعبير «الهاتف الخلوي أو المحمول» هو تعبير غير دقيق؛ ذلك أن العديد من هذه الأجهزة هي في الواقع أجهزة كومبيوتر مصغرة، وليست فقط هاتفاً؛ إذ يحتوي على كاميرات ومشغل لأفلام الفيديو وسجل لبيانات المتصلين، وتقويم، ومسجل صوت، ومكتبة للكتب والبيانات، ومفكرة للأحداث اليومية، وألبومات، وتليفزيون، وخرائط وصحف ومجلات، وغيرها.
وهذه الخصائص للهاتف المحمول تجعل له القدرة على تخزين كمية هائلة من البيانات والمعلومات عن الشخص. وقبل اختراع هذه الهواتف، فإن تفتيش الشخص كان محصوراً في الأشياء المادية وكانت تشكل مساساً يسيراً بالخصوصية (71). والقدرة التخزينية الهائلة للهاتف المحمول لها آثارها على الحق في الخصوصية: فالهاتف يجمع في مكان واحد أنواعاً مختلفة من المعلومات، مثل: العناوين، والملاحظات، والوصفات الطبية، وإفادات البنوك، وتسجيلات الفيديو، التي بمقدورها أن تفصح عن كثير من المعلومات الخاصة عن الشخص، ولا سيما إذا تم تجميعها معاً. فمن خلال آلاف الصور الملتقطة والتي يظهر عليها تاريخ ومكان التقاطها ووصفه، يمكن الوقوف على الحياة الخاصة للشخص وتفاصيلها، بما يتجاوز معرفته من خلال الصور التقليدية التي يحتفظ المرء بواحدة أو اثنتين منها في حافظته.
والبيانات التي يحتفظ الهاتف بها ترتد إلى وقت شراء هذا الهاتف، أو حتى قبل شرائه له. وبينما كان الشخص من قبل يحتفظ بمجرد قطعة من الورق تذكره بالاتصال بشخص آخر، فإنه لم يكن يتصور أنه يمكن الاحتفاظ بكافة الاتصالات التي جرت مع هذا الشخص لشهور طويلة وبصورة روتينية بهاتفه المحمول.
ويمكن الوقوف على الصفحات التي جرى تصفحها على الإنترنت، كما يمكن معرفة موقعه بالتحديد من خلال خاصية تحديد المواقع GPS ، ومعرفة تاريخ تحركاته السابقة. ومراقبة هذه التحركات تفصح عن ثروة هائلة من المعلومات عن الشخص، وبإمكانها الوقوف على تفاصيل عائلته، وانتماءاته السياسية، وأعماله المهنية؛ بل حتى علاقاته الجنسية.
ومن خلال التطبيقات يمكن كثيراً معرفة عادات الشخص واهتماماته وما الذي قد يعانى منه من أمراض: فهناك تطبيق لأخبار الأحزاب السياسية أو الرياضية وتطبيقات للكتب المقدسة والأحاديث الدينية ومواقيت الصلاة والأعياد الدينية والثقافية التي يهتم بها الشخص، وهناك تطبيقات للحالات المرضية مثل ضبط السكر والضغط وأعراض الحمل وخفض نسبة الدهون والكوليسترول والإقلاع عن الخمر أو المخدرات، وتطبيق لإدارة ميزانية الشخص المالية أو تتبع أخبار سوق المال. وهناك تطبيقات للهوايات وتمضية الوقت، وأخرى للبيع والشراء لمختلف التعاملات. وهناك أكثر من مليون تطبيق يمكن تحميله على الهاتف ويفصح كل منها عن معلومات مهمة عن حياة الشخص.
وقد أشارت المحكمة في أسباب حكمها إلى أنه لا يمكن إنكار أثر قضائها على جهود رجال الضبط في مكافحة الجريمة؛ ذلك أن الهاتف المحمول قد صار اليوم واحداً من أهم أدوات تسهيل التنسيق والاتصال بين أعضاء العصابات الإجرامية، وهذا الهاتف يمكنه تقديم معلومات ذات قيمة كبيرة عن هؤلاء المجرمين الخطرين. غير أن الخصوصية تتطلب دفع ثمنها. وأن حكم المحكمة لا يمنح المعلومات التي يحويها الهاتف المحمول حصانة من التفتيش؛ بل إنه بدلاً من ذلك يجعل هذا الأمر بصفة عامة واجباً قبل القيام بهذا التفتيش، حتى لو كان الهاتف قد تم ضبطه كأثر للقبض.
وقد قضت المحكمة في أسباب حكمها بأن: « تفتيش الهاتف بدون أمر يقع خارج نطاق قاعدة جواز التفتيش التالي للقبض، فهذا التفتيش لا يستهدف حماية من قام بتنفيذ القبض أو صيانة الأدلة من المساس بها، ولذلك يكون قطعاً غير مشروع، لأنه لا يطبق عليه أي سبب من أسباب هذا التفتيش». وقد أوردت المحكمة حجيتين رئيسيتين في تدعيم وجهتها:
الأولى أنه يجب أن يسمح لضابط الشرطة بفحص الهاتف لضمان التأكد من أنه ليس سلاحاً؛ غير أنه «لا يوجد سبب يبرر الاعتقاد بأن سلامة الضابط تتطلب تدخلاً لاحقاً على محتويات الهاتف»(74). والحجة الثانية هي أن المحكمة قد استخلصت أن الخطر من إتلاف الأدلة كان «ضئيلاً ونظرياً حتماً». ولذلك فقد خلصت المحكمة إلى عدم تطبيق قاعدة التفتيش اللاحق للقبض على الهاتف المحمول.
وقد هجرت المحكمة بهذا القضاء المبدأ الذى أخذت به في قضية Robinson والذي كانت تجيز بمقتضاه القيام بالتفتيش التام للشخص في حالة القبض المشروع المتضمن سلباً للحرية، وذلك بدون تطلب أية شروط سوى حدوث القبض ذاته. وقد أوضحت المحكمة أن الاعتبارات التي تجيز التفتيش كأثر تالٍ للقبض، والتي أخذت بها في قضية روبنسون لا تمتد لتطبق على محتويات الهاتف المحمول. وقد قالت المحكمة في أسباب حكمها: إنه وقت أن تبنت المحكمة قاعدة جواز التفتيش كأثر للقبض الذى أخذت به في قضية روبنسون، فإنه لم يكن للمرء أن يتصور أن يحمل أغلب الناس معهم أشياء لا تحتوي على أدلة مادية ولكنها تحتوى على مخزن ضخم لبيانات غير ملموسة. وأن طبيعة الهاتف المحمول وامتداده الفسيح قد أوجب تمييز تفتيشه عن قاعدة التفتيش التقليدية التالية للقبض(76).
وقد استندت المحكمة إلى أن الشخص يقوم بتخزين كمية كبيرة من المعلومات الوثيقة به والشديدة الخصوصية له، وأنه لا يمكن تصور أن مثل هذه الهواتف تماثل الحقائب والحافظات وسجلات العناوين الورقية أو غيرها من الأوعية التقليدية، من حيث إجازة تفتيشها كأثر للقبض. وقد فتح هذا القضاء الباب أمام مأموري الضبط لتفتيش الهاتف المحمول إذا اقتضت الحاجة لذلك، ولكن بشرط الحصول على إذن قضائي مسبق. وكانت بعض المحاكم العليا في بعض الولايات الأمريكية قد انتهت إلى ذلك. وقد لاحظ بعض الفقه أن المحكمة العليا في قضية Wurie لم تمنع تفتيش الهاتف في حالة القبض إذا كان هناك خطر من إتلاف الأدلة أو محوها، غير أن بعض الفقه يرى أنه في ظل غياب معيار واضح لتقدير مدى توافر هذا الخطر، فإن مشكلات كبيرة ستثور في التطبيق. ويضربون لذلك مثلاً أن وحدة التخزين في الهاتف المحمول يمكن محو بياناتها عن بعد، أو أن أرقام الهواتف المخزنة على الهاتف وما يرتبط بها من معلومات قد يتم فقدها إذا قام الشخص بتغيير رقم هاتفه.
ومعيار الضرورة يتطلب وجود خطر حال يهدد الدليل بالتلف؛ غير أن التساؤل يثور عن ماهية هذا الدليل الذي يعتبر موضوعاً لهذا الخطر ويبرر للضابط تفتيش الهاتف في هذه الحالة، خاصة أن الضابط سوف يقوم بتقدير توافر هذا الخطر قبل قيامه بتفتيش الهاتف (78). وفى المقابل فإنه لا يبدو واضحاً تحديد ماهية الدليل الذي يبرر تفتيش الهاتف لحماية سلامة الضابط، على الرغم من انتفاء وجود تهديد حال من أن المقبوض عليه يمكنه الاتصال بشركائه لاستخدام العنف في مواجهة الضابط قبل القبض عليه، أو أنه يستطيع جمع أفراد عصابته في لمح البصر لمواجهة رجال الشرطة. وانتفاء اليقين في هذه الحالة قد يدفع الضابط بصورة تلقائية إلى أن يوازن بين الحفاظ على الدليل وحماية سلامته، وبين الخشية من استبعاد الدليل الذى عثر عليه في الهاتف أو غيره من الأجهزة التي قام بضبطها وتفتيشها. وهذا المبدأ الذى تبنته المحكمة العليا والذى يتصل بالمعلومات التي يحتويها الهاتف المحمول أنشأ قيداً مهماً يحول دون تطبيق قاعدة جواز التفتيش التالي للقبض. وقد أقام قضاء المحكمة العليا بذلك تفرقة بين تفتيش الهواتف وما يلحق بها من أجهزة إلكترونية تحتوي على معلومات، وبين غيرها من أشياء توجد في حوزة المقبوض عليه . وقد قضت المحكمة استناداً إلى هذه الأسباب بإلغاء الحكم الذي أصدرته محكمة استئناف ولاية كاليفورنيا والذى كانت أجازت فيه تفتيش الهاتف المحمول كأثر للقبض، وبإعادة الدعوى للحكم فيها مجدداً بإجراءات لا تتعارض مع هذا الرأي، وأيدت المحكمة في الوقت ذاته الحكم الصادر عن الدائرة الأولى في المحكمة العليا في قضية Wurie والذى يحول دون تفتيش الهاتف المحمول كإجراء تالٍ للقبض إلا بمذكرة تفتيش مستقلة (80).
وفي خاتمة الدراسة توصل الدكتور أشرف شرف الدين إلى الآتي:
أولاً: تأصيل المقارنة بين القضاء المصري والأمريكي في شأن تفتيش الهاتف المحمول كأثر للقبض الصحيح:
1- من حيث السلطة الآمرة بتفتيش الهاتف المحمول:
ينص التعديل الرابع للدستور الأمريكي على أنه: «للناس الحق في حرمة أشخاصهم ومنازلهم وأوراقهم ومتاعهم، من التفتيش والضبط غير المبررين، ولا يجوز أن يصدر أمر بذلك إلا إذا توافر سبب محتمل، يؤيد بحلف يمين أو إقرار، ويجب على وجه خاص وصف المكان الذى سيجري تفتيشه، والأشخاص أو الأشياء التي سيتم ضبطها». وقد وسع القضاء الأمريكي تطبيق هذا النص ليشمل كل ما يتصل بحق الشخص في خصوصيته. ومن المتفق عليه في الفقه والقضاء الأمريكيين أن الأمر بالتفتيش يجب أن يصدر عن قاضٍ بالمعنى الدقيق، فلا يجوز أن يصدر عن الادعاء العام؛ بينما يجيز القانون المصري أن يصدر هذا الإذن عن النيابة العامة.
وفى حين أن الدستور الأمريكي قد أوجب توافر «سبب محتمل» يدعو لإصدار الأمر بالتفتيش، وهذا السبب يكون تحت رقابة القضاء؛ فإن القانون المصري قد اكتفى بمجرد توافر الدلائل الكافية التي تقدرها النيابة العامة.
وبينما أوجب الدستور الأمريكي أن يؤيد السبب المحتمل بحلف يمين أو بإقرار من رجل الضبط، قبل إصدار هذا الأمر؛ فإن القانون المصري قد خلا تماماً من وضع أي قيد مماثل. ويلاحظ أن الحصول على الإذن من قاضٍ دون توافر السبب المحتمل المؤيد بإقرار أو حلف يمين يجعل هذا الإذن غير مستوفٍ ما نص عليه الدستور الأمريكي في تعديله الرابع السابق الذكر. ففي واقعة عرضت على المحكمة العليا الأمريكية حصلت النيابة العامة على إذن من قاض لطلب سجلات المواقع المكانية التي ارتادها الشخص والتي أرسلتها الإشارات المنبعثة من هاتفه المحمول والتقطتها أبراج شركة الهاتف. وقد اعتبرت المحكمة أن حصول سلطة الاتهام على سجلات المواقع المكانية للهاتف يعد تفتيشاً ويتطلب توافر مذكرة قضائية تستند إلى وجود سبب محتمل، واعتبرت صدور الأمر عن قاضٍ بطلب هذه السجلات لا يتفق مع التعديل الرابع للدستور.
2 - من حيث اتصال تفتيش الهاتف المحمول بالجريمة المقبوض على الشخص فيها:
أظهرت الدراسة أن القضاء المصري قد توسع في التفتيش الناتج عن القبض توسعاً كبيراً، فلم يقيده بأي قيد، كما أنه لم يستوجب وجود صلة بين التفتيش والجريمة التي قبض على الشخص متلبساً بارتكابها. غير أن الدراسة قد أبانت عن وجود اتجاه في القضاء الأمريكي حاول أن يضيق من نطاق عمومية التفتيش التالي للقبض، بأن أوجب وجود صلة بين هذا التفتيش وبين الجريمة التي قبض على الشخص فيها.
3- من حيث مدى جواز تفتيش الهاتف المحمول كأثر للقبض في حالة التلبس:
أظهرت الدراسة أن القضاء المصري يجيز تفتيش الأشياء المختلفة التي توجد بحوزة الشخص كأثر للقبض الصحيح عليه، وأياً كان سبب هذا القبض، فإنه يجوز لمأمور الضبط أن يقوم بتفتيش حافظات النقود أو المفكرات الشخصية، أو أجندات العناوين التي يعثر عليها في حوزة المقبوض عليه. وأن هذه الوجهة قد أدت إلى تطبيق هذه القاعدة على الأجهزة الرقمية التي بحوزة الشخص ومن بينها الهاتف المحمول.
غير أنه في مقابل هذه الوجهة فإن القضاء الحديث للمحكمة العليا الأمريكية لم يجز-كقاعدة- تفتيش الهواتف المحمولة كأثر تالٍ للقبض على الشخص، وكان علة هذا القضاء هو القدرة التخزينية الهائلة للمعلومات التي تتوافر للهاتف المحمول وغيره من أجهزة رقمية مماثلة: فالهاتف يجمع أنواعاً مختلفة من المعلومات، مثل: العناوين، والملاحظات، والوصفات الطبية، وإفادات البنوك، وتسجيلات الفيديو، والصور الملتقطة والتي يظهر عليها تاريخ ومكان التقاطها ووصفه، كما أن البيانات التي يحتفظ الهاتف بها ترتد إلى وقت شرائه، أو حتى قبل ذلك. وبمقدور الهاتف الاحتفاظ بكافة الاتصالات والرسائل التي أجراها هذا الشخص لشهور طويلة وبصورة روتينية. كما يمكن الوقوف على الصفحات التي جرى تصفحها على الإنترنت، كما يمكن معرفة موقعه بالتحديد من خلال خاصية تحديد المواقع GPS ، ومعرفة تاريخ تحركاته السابقة. ومراقبة هذه التحركات تفصح عن ثروة هائلة من المعلومات عن الشخص، وبإمكانها الوقوف على تفاصيل عائلته، وانتماءاته السياسية، وعاداته واهتماماته وعلاقاته وأعماله المهنية وما يعانيه من أمراض...إلخ.
لهذه الاعتبارات فإن تفتيش الهاتف المحمول التالي للقبض، يجب أن يعامل معاملة تختلف عن الأشياء المادية التي توجد بحوزة المقبوض عليه، وأن من شأن إجازة هذا التفتيش على نحو مطلق أن ينال من حرمة حياة الشخص الخاصة؛ بل أن يجعلها خاوية من المضمون.
ثانياً: مدى اتفاق نص المادة (46) من قانون الإجراءات الجنائية من حيث مد تطبيقها إلى تفتيش الهاتف المحمول مع الدستور:
نصت المادة (46) من قانون الإجراءات الجنائية المصري على أنه: «في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانوناً على المتهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه».
وقد أتى هذا النص مطلقاً، وقد ترتب على هذا الإطلاق أن القضاء المصري قد توسع في تفسيره توسعاً كبيراً؛ غير أن هذا الإطلاق في صياغة النص كان يمكن قبوله قبل التطور التقني الكبير الذي لحق بالهواتف المحمولة وما يدخل في مدلولها من أجهزة رقمية. هذا التطور الكبير جعل الهاتف مستودعاً للخصوصية، وقد سبق ذكر ما يمكن الوقوف عليه عند تفتيش الهاتف المحمول من معرفة أدق خصوصيات الشخص والتي تؤدي معرفتها إلى المساس الجسيم بجوهر الحياة الخاصة.
وإذا كانت الفقرة الأولى من المادة (57) من الدستور تنص على أن: «للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس، وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يبينها القانون».
فإن هذا النص يوضح بجلاء أن الدستور قد انحاز إلى حرمة الحياة الخاصة بأن أوجب أن يصدر أمر قضائي بالاطلاع على وسائل الاتصال أو ضبطها أو رقابتها.
والمقارنة بين هذا النص الذى يستوجب صدور أمر قضائي، ونص المادة (54) من الدستور في فقرتها الأولى بقولها: إن «الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق».
ففي حين أجاز نص المادة (54) سالف الذكر المساس بالحرية الشخصية في حالة التلبس؛ فإن نص المادة (57) سالفة الذكر لم يتضمن مثل هذا الاستثناء، ويعني ذلك أن الجمع بين النصين يؤدي إلى نتيجة مفادها أنه في حالة التلبس يجوز القبض على المتهم وتفتيشه؛ غير أنه لا يجوز تفتيش وسائل الاتصال التي بحوزته أو مصادرتها أو الاطلاع على محتواها، ومن بين هذه الوسائل الهاتف المحمول وما يماثله من أجهزة. والقول بغير ذلك فيه إهدار لنص المادة (57) السالفة الذكر، وينطوي على إفراغ النص الدستوري من محتواه.
ويضاف إلى ما سبق أن المحكمة الدستورية العليا كانت قد تبنت هذه الوجهة، وذلك بمناسبة قضائها بعدم دستورية نص المادة (47) من قانون الإجراءات الجنائية التي كانت تجيز لمأمور الضبط القضائي تفتيش منزل المتهم في حالة التلبس. وقد استندت المحكمة في حكمها إلى ما نصت عليه المادة (44) من الدستور السابق 1971م التي تتطلب صراحة صدور أمر قضائي مسبب. وقد ميزت المحكمة بين تفتيش المساكن ودخولها التي تتطلب أمراً قضائياً مسبباً وهو ما أوجبته المادة (44) سالفة الذكر؛ وبين غيره من إجراءات احتياطية ماسة بالحرية الشخصية كالقبض وتفتيش شخص المتهم في حالة التلبس.
وهناك تماثل بين ما نصت عليه المادة (57) من الدستور الحالي، وبين ما نصت عليه المادة (44) من دستور1971م، وتطبيق منطق المحكمة يؤدي إلى القول بعدم دستورية تفتيش الهواتف المحمولة في حالة التلبس لتعارض ذلك مع صريح نص المادة (57) من الدستور.
وإذا كانت علة استثناء تفتيش المنازل في حالة التلبس، ووجوب صدور أمر قضائي مسبب، أن هذه المنازل هي مستودع السر، ومهجع الخصوصية، فإن هذه العلة تعد متحققة بصورة أكبر بالنسبة للهواتف المحمولة، فالنظر لما يمكن معرفته عن الشخص من معلومات، فإن هذه المعرفة تفوق ما يمكن الوقوف عليه عند تفتيش منزله، الأمر الذى يجعل تفسيرنا لنص المادة (57) السالف هو الأقرب لعلته، فضلاً عن صراحة منطوقه.
وأضاف الدكتور شمس الدين أنه في تقديره، أن التوسع الذى أخذ به القضاء في تفسير نص المادة (46) من قانون الإجراءات السالفة الذكر وإطلاق التفتيش من أي قيد في حالة التلبس هو توسع محل نظر ولا يتفق مع نصوص قانون الإجراءات الجنائية ذاتها. وبيان ذلك أن المادة (50) من هذا القانون في فقرتها الأولى تنص على أنه: «لا يجوز التفتيش إلا للبحث عن الأشياء الخاصة بالجريمة الجاري جمع الاستدلالات أو حصول التحقيق بشأنها».
وهذا النص صريح في أن التفتيش الذي يجريه مأمور الضبط بناء على أمر من جهة التحقيق يجب أن يكون غرضه هو البحث عن الأشياء الخاصة بالجريمة التي يجري الاستدلال فيها أو التحقيق بشأنها، فإن خرج مأمور الضبط عن هذه الحدود، كان عمله بوجه عام غير مشروع. وإذا كان هذا القيد قد تطلبه الشارع في حالة صدور الأمر بالتفتيش، فإنه يجب أن يمتد (عقلاً) إلى ما دون صدور هذا الأمر، أي في حالة التلبس.
ويخلص الدكتور شمس الدين إلى أنه: مما تقدم فإن إطلاق نص المادة (46) من قانون الإجراءات الجنائية ومد تطبيقها إلى تفتيش الهواتف المحمولة وغيرها من أجهزة الاتصال التي بحوزة المقبوض عليه، يتعارض مع صريح نص المادة (57) من الدستور والتي تستوجب للاطلاع على هذه الأجهزة أو رقابتها أو ضبطها صدور أمر قضائي بذلك (مدى دستورية تفتيش الهاتف المحمول كأثر للقبض- دراسة مقارنة، د. أشرف توفيق شمس الدين، ص18) والله أعلم.